تأملات في سورة الأنبياء
د.عثمان قدري مكانسي
ما ينبغي أن تكون حياة الإنسان دون هدف ، ولا يجوز أن يعيش دون أسس وقواعد تجعل منه إنساناً سوياً يقتنص الفائدة ويفيض على غيره منها - فهو جزء من هذه البشرية الاجتماعية - وتجعل من حياته قدوة يحتذيها غيره ، فيتنافسون لسعادتهم جميعا. وسنذكر بعض القواعد التربوية الرائعة في هذه السورة نعيش في ظلها ونتدارسها لنفيد منها دروساً عملية وحياة نافعة :
1- لم يخلقنا الله تعالى للهو واللعب ، لقد خلقنا لهدف سام وبين لنا – منذ البداية - النهاية التي نختارها نحن بأنفسنا . وقد " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " بل إنهم مصرون على ذلك " ... وهم يلعبون ، لاهية قلوبهم " مع أن الله سبحانه كرر في أكثر من آية كريمة قوله " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " . إن التفكر فيما حولنا من بناء الأرض المتوازن لتكون آهلة بالمخلوقات لدليل على أن وراء الترتيب أمراً يريده الله تعالى لا ينبغي أن نغفل عنه " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ، وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون " وهذه السماء فوقنا بناء عال محروس مرفوع لا يصل إليه إلا من شاء الله وما فيها من نجوم وكواكب وشموس وأقماردليل على عظمة الخالق سبحانه ودعوة إلى الإيمان به وعبادته " وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ، وهم عن آياتها معرضون " والحقيقة أن من أغلق عقله وقلبه ورضي أن يعيش كالبهائم دون تفكير وفهم وتدبر لآيات الله ، فلا يلومنّ إلا نفسه .
2-في هذه السورة كما في أخواتها تحذير من نهاية المكذبين المستكبرين " ثم صدقناهم الوعد ، فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين " والإهلاك في الدنيا دليل على العقاب الشديد في الآخرة ، فالعقاب يكون في الدارين لمن عصى واستكبر ، واقرأ معي هذه النهاية المخيفة للظالمين " ..... حتى جعلناهم حصيداً خامدين " فيخمدون بعد حركة وحياة ونشاط كالزرع اليابس . وتأمل الصورة المهينة للكافرين الذين تأكل النار كل ذرة في أجسامهم وهم مقهورون " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ، ولا هم يُنصرون ، بل تأتيهم بغتة ، فتبهتهم ، فلا يستطيعون ردها ولا هم يُنظرون " وكلمة " لو يعلم " كشف للحجاب وتقريب للصورة . ولا يفهم هذا إلا أولو البصائر . حين تأتيهم النار فجأة من كل مكان ،وتحيط بهم ، فإذا هم وقودها ، تنوشهم من كل أطرافهم ، فيستسلمون . وتأمل كذلك كلمة " حاق " وهي الإحاطة الكاملة التي لا مفر منها " فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وما الذي حاق بهم وأحاط ؟ إنها النار التي كذّبوا بها وهزئوا بالأنبياء الكرام الذين حذّروهم من الوقوع فيها .
3-ومن العجيب أن أسئلة الاختبار وأجوبتها معروفة على غير ما عهدنا بامتحانات الدنيا ، فالله سبحانه يريد لنا النجاح في الدارين ، فكان طريقه الذي أمرنا بسلوكه واضحاً لا لبس فيه ، ولو سألنا أنفسنا : لماذا يوم القيامة ؟ لجاءنا الجواب شافياً لتساؤلات ذوي الألباب والفكر الرشيد " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فلا تُظلم نفس شيئاً ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ، وكفى بنا حاسبين " لقد أمِر الناسُ في الحياة الدنيا بالعمل الصالح والإحسان في كل أمورهم ، فلا ظلم ، ولا فساد ، بل عدل وإصلاح . ولا كذب ولا زور ، بل صدق واستقامة . فمن أدى المطلوب منه في الفانية نال الخير في الباقية .. إننا نرى في حياتنا صوراً من الظلم والفساد والإيذاء وتغييب الحق من أناس قادرين يفعلون ما يشاءون دون وازع ولا خلق ، ثم ينتهي أجلهم وهم على حالتهم هذه من الصلف والكبرياء والتجبر . فأين الحق وأين العدل اللذان نادى بهما الرسل والدعاة ؟ أين عمارة الأرض – ولا تعمر إلا بالهدى والرشاد – وأين حساب هؤلاء الطغاة ، وأين الانتصاف منهم ؟ لا بد من يوم تجتمع الخلائق كلها فيه ليأخذ العدل مجراه ويُحاسب الناس ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
4- " كل نفس ذائقة الموت ، ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا تُرجعون " قاعدة أصيلة تعني أن المرء مبتلى بِالْمَصَائِبِ تَارَة وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى فَنَنْظُر مَنْ يَشْكُر وَمَن يَكفر وَمَن يَصْبِر ومن يَقنط ، و بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالصِّحَّة وَالسَّقم وَالغِنَى والفقرر وَالحلال وَالْحَرَام وَالطَّاعَة والمعصية والهدى والضلال فإذا رجعتم إلى الله تعالى جازاكم بِأَعمَالكم .فالدنيا دار اختبار وتمحيص سرعان ما ننتقل عنها إلى غيرها ومن ذا لا يموت ؟ و" التذوّق " يعني الاستغراق الكامل في الموت إذ تموت الجوارح كلها فتنسل الروح من كل ذرة من ذرات الجسم . ولا ينجو من الموت أحد أكان إنساً أم جناً أم ملكاً أم حيواناً ، فإذا لف المخلوقاتِ كلـّها العدمُ قال الله تعالى " لمن الملك اليوم ؟ ! " أجابه لسان الحال " لله الواحد القهـّار " .
5- يتبادر إلى ذهن الكثير من الناس سؤالان اثنان :
أ- هل ينبغي أن يكون للكون إله ؟
ب- أهو وحده أم له شركاء ؟
والجواب على السؤال الأول أنه لا بد لكل حادث من مُحدث ، فمن البدهيّ أن ما حولنا لم يوجد صدفة ، فقانون الصدفة ساقط من أساسه لا يقبله عاقل . فلو أنك رقّمت عشر قطع نقدية ووضعتها في جيبك ورغبت أن تخرج القطعة ذات الرقم خمسة فقانون الصدفة يقول : إن نسبة إخراجها واحد على عشرة ، ولو أردت أن تخرجها في المرة الخامسة فإن قانون الصدفة يقول : إن نسبة خروجها في المرة الخامسة واحد على مئة ، ولو ردت إخراج القطع مرتبة من الواحد إلى العشرة فقانون الصدفة يقول : إن نسبة خروجها واحد على واحد أمامه عشرة أصفار . والنظام الكوني المنتظم البديع الترتيب لا يحتمل الصدفة ، فلا بد من وجود قوة أوجدت كل هذا الخلق الرائع المتناسق .
وجواب السؤال الثاني أن الإله كامل كمالاً مطلقاً ، فإن تصورنا أن هناك إلهين اثنين ، فينبغي أن يكون كلاهما كاملاً كمالاً مطلقاً ، فإن تطابقا في كل شيء فهما - بداهة – إله واحد ، وإن قلّ أحدهما عن الآخر فهو ضعيف مقهور للأول ، وبهذا تنتفي إلوهيته . فالإله لا يُقهر ، وهو كامل كمالاً مطلقاً لا تشوبه شائبة . ومن هنا نقول ليس للإله شركاء ، إنما الجميع عباد وهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، والولد له بداية ومن له بداية له نهاية ، ومن كانت له بداية ونهاية فهو محدود تعتريه العوامل ، والله تعالى هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية . والكامل المطلق لا تعتريه العوامل فهو خالقها وموجدها . والسماء والأرض لله الواحد لا يشاركه في ملكه مشارك " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .. " وماذا يفعل الشركاء حين يتنازعون فيما بينهم ؟ إن شأنهم كالشركاء المتنافسين يختلفون ويتنازعون ، ويفُضّون الشركة ، أو يكيد أحدهم للآخرين ويستخلص منه نصيبه ، ويطرده أو يستخدمه موظفاً لديه وعاملاً عنده " ما اتخذ الله من ولد ، وما كان معه من إله ، إذاً لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون "
6- الإيمان بالله والعمل الصالح ينجي صاحبه ويرفعه في عليين يقول تعالى في الآية 94 من
هذه السورة " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ، فلا كفران لسعيه ، وإنا له كاتبون " وقصص الأنبياء في هذه السورة برهان على ذلك فموسى وهارون عليهما السلام حملا التوراة ودعوَا إليه فكانا قدوة " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين " وكان إبراهيم عليه السلام الأسوة الأول للمسلمين ، - وقدمت قصته في المقال السابق – فنجاه الله من كيد الكفار ورفع ذكره ، ووهبه ولداً من زوجته سارة وحفيداً صالحين وجعل لوطاً نبياً من الصالحين " ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً " ، فكانوا مع إبراهيم أئمة للناس وقدوة صالحة في عمل الخير وتعليمه " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ، وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " ثم خص لوطاً بالنجاة من شياطين الفساد في قريته ورحمه رحمة واسعة " ... ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث..... وأدخلناه في رحمتنا إنه كان من الصالحين " وكذلك استجاب لنوح حين نادى " إني مغلوب فانتصر " فكان الإنقاذ السريع " فاستجبنا له ، فنجيناه وأهله من الكرب العظيم " وأكرم داود وابنه سليمان بالعلم والفهم ، وسخر مع داود الجبال والطيرتسبح لله ، كما علمه سرد الحديد وصنعه ، وسخر لسليمان الريح تجري بأمره ومردة الجن تخدمه في الآيات (78- 82) .. وعودة إلى سورة الأنبياء في إكرام الأنبياء نجد فضل الله عليهم واسعاً ممتداً يعطيهم الجزيل ويهبهم من رزقه الفضيل .
نسأل الله تعالى أن يكرمنا ويعفو عنا ، ويحشرنا مع الأنبياء والشهداء والصالحين ، وحسن إولئك رفيقا .