علاقة المناخ السياسي
في البناء النفسي والعقلي
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
لا أقصد هنا تشريح ظاهرة بعينها ، ولكني قصت ومن خلال الأمثلة الواردة أدناه أن أسلط الضوء على طبيعة المناخ السياسي وما ينتج عنه من سلوك .
فكل مناخ سياسي في العالم يؤثر في بناء عقول الخاضعين له ، كما يؤثر في تشكيل نفسياتهم وطرق تفكيرهم وسلوكهم ، إلى درجة لا يمكن الاستهانة بها ، فالمناخ السياسي لمناطق الضفة الغربية و غزة ، يختلف عنه في فلسطين المحتلة (1948 ) ، وكذلك في مناطق أخرى كثيرة في العالم ، مثل نيكاراغوا والفلبين وكوريا ، وكوبا والسلفادور والعراق وغيرها ، فنفسية وتفكير الأفغاني من حيث المناخ السياسي الذي يخضع له ، تختلف عنها في لبنان والشيشان ......
وتختلف المناخات السياسية في درجة تأثيرها على نسبة وعي المقاتل وصموده ، وتفاعله مع قضيته ، ومع شعبه وعدوه ، وجاره وصديقه ، ولعل من أخطر المناخات السياسية هي تلك التي تدفع المقاتل إلى اليأس والإحباط ، خاصة في ظل غياب رؤية أيديولوجية مقنعة ، يتجلى من خلالها موقف سياسي ثابت ، فالفكر الأيديولوجي السليم هو الذي يرسخ القناعة ويجذرها عميقا ، فيعيش المقاتل ويموت من أجلها ، ولا يأبه بالمعوقات من حوله أثناء رؤيته لتجليات النصر والتحرير من جهة ، وتراجع خصومه السياسيين ومعهم أعدائه من جهة أخرى .
ومن الأمور التي لفتت نظري بالأمس وأنا في الطريق ، قيادي لتنظيم ثوري وطني كبير معروف على الساحة الفلسطينية ، نادى عليّ بحكم صداقتي معه وبدأ بالسباب والشتم بأبشع الكلمات على الذات الإلهية ، وعلى الإسلام والقرآن ، وعلى الحركات المجاهدة ، وعندما سألته عن السبب أجابني بوضوح قائلا : منذ أسبوع وأنا أفتقر إلى قارورة غاز ......( يكفي وبدون تعليق ) .
وقيادي من تنظيم وطني علماني آخر أيضا ، ترك الوطن وسافر إلى السويد وبعد أسابيع من وصوله ، رفع سماعة الهاتف ، وبدلا من أن يقول : السلام عليكم وكيف حالكم ، وما إلى ذلك ، قال : .......... الوطن ، ( انتهى ) يستحي القلم من ذكر شتيمته على الوطن ......( يكفي وبدون تعليق ) .
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى ، ولا شك أن كلا منا يلمس ذلك من خلال الاحتكاك اليومي ، وكثير من الناس اليوم ينعتون حركتي حماس وفتح بأبشع النعوت ، وذلك بفعل تأثير المناخ السياسي العام ، حيث غياب أيديولوجية الوعي والتعبئة ، وربما يفسر البعض هذه الظاهرة تفسيرات تروق وتحلو له من حيث التبرير والتعليل من هنا وهناك .
إن غياب عوامل التعبئة والبناء في جميع مؤسساتنا الرسمية منها والشعبية ، ومهما أوهمنا أنفسنا أنها موجودة وفق التقارير الكاذبة ، التي يتم رفعها من الأدنى إلى الأعلى ، وإن غياب الكفاءات والمؤسسات الفاعلة والمؤثرة في عوامل التصدي والصمود ، كفيلة بقوة من أن تخرّج مثل هؤلاء القادة ، وأن تخلق مناخا يدفع إلى اليأس والإحباط .
المناخ السياسي اليوم هو الذي يدفعنا لكي نعيش في الظلام ، ولا اعتقد اليوم أن شعبا من شعوب الأرض يعيش على الشموع ليلا لأشهر طويلة ، باستثناء شعب قطاع غزة ، وربما يستمر هذا الحال إلى سنوات .
زرت في قطاع غزة أماكن عمل كثيرة ، الخاصة منها والعامة ، كما زرت أسرًا كثيرة ، خرجت بانطباع واحد وقوي ، وهو أن أحدا من أفراد تلك الأماكن والأسر لم يطق ولم يستوعب الآخر ، صغيرا كان أو كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى .
تجولت في الأسواق بين الباعة والمحال التجارية ووجدت نفس الظاهرة .
شاركت في جلسات متنوعة وكثيرة ، في دواوين مجالس العائلات ، وفي البيوت ، وفي أماكن العمل فوجدت أيضا ذات الظاهرة والجميع هنا يعيش تحت مناخ سياسي واحد .
موجة خلافات حادة تصل إلى حد المواجهات ، لا تخلو تقريبا من كل شارع أو زقاق في جميع أحياء قطاع غزة ، بمعنى أن الناس فقدوا مقومات الصبر الذي يؤهلهم إلى الحلم والوعي ، في التعامل والقبول واستيعاب وتفهم الآخر ، وهي من مقومات الصمود والتعبئة المفقودة في بلادنا .
المناخ السياسي في قطاع غزة تحديدا مناخ حصار وقصف ودمار وقتل وحرمان من كل شيء ، وفقر في كل بيت ، وقمع واستهتار ولا مبالاة ، وتوتر وضغط وقلق وبطالة ، واستقطاب يكاد أن يكون حادا بين الأطر الفكرية ، هذا المناخ عند المحللين والضالعين في الفهم السياسي يعني الكثير من المعاني الخفية وراءه ، على صعيد الصراع في المنطقة ، مما لست الآن في صدده ، وكل من ينكر هذه الحقيقة فهو يفتقر إلى أبجديات الوعي السياسي .
لقد أوجد المناخ السياسي في حقبة من حقب نضالنا السابقة ، رجالا يفتقرون إلى أدنى معرفة في أساليب التحقيق مع المتهم ، وكانت النتيجة القتل أو الموت أو التبرئة ، خاصة في أيام الانتفاضة الأولى ، وفي داخل سجون الكيان الغاصب ، كما أوجد المناخ السياسي رجالا لا يحترمون آدمية الإنسان عند القتل ، فكانوا يقطعون المقتول إربا إربا بالسكاكين والسواطير ، ومن هؤلاء الرجال من كان يفعل ذلك أمام أطفال وزوجة المقتول ، وتحت حجج وذرائع باهتة ، مع أنه كان بالإمكان أن يتم استجوابه بأسلوب علمي ومن ثم يطلقوا عليه رصاصة واحة بطريفة تدل على الكفاءة والوعي .
ولست هنا كما قلت في بداية مقالي أنني بصدد تشريح تلك الظواهر ، ولا بصدد الحكم على صحتها أو خطئها ، بل إنني بصدد التركيز على طبيعة المناخ السائد الذي يدفع المرء لسلوك كهذا متأثرا بالمناخ السياسي السائد .
المناخ السياسي يسهم إلى حد كبير في التعددية السياسية والفكرية ، كما يؤدي إلى المنافسة في إيقاع أكبر ضربات ممكنة كماً وكيفاً بالعدو ، كما يؤثر المناخ السياسي على درجة الاستقطاب في الساحة لصالح اتجاه ما ، كما حدث في فترة أجواء المناخ السياسي الذي أدّى إلى فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة وإفرازاتها وما آلت إليه حتى اليوم .
في منطقة الشرق الأوسط مناخ سياسي عام ، وهو يختلف عن المناخ السياسي في منطقة غرب أوروبا ، وأفريقيا تختلف في مناخها السياسي عن شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية .
ومن أجل توفير مناخ سياسي منيع هنا في فلسطين ، فإن شعبنا يحتاج إلى قادة يتحسسون آلام الأُسر، ويتفقدون مشاكل الناس ، يتعذبون إذا تعذب الناس، ويجوعون إذا جاع الناس ويشبعون إذا شبع الناس .
يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . التوبة آية:119
فنحن وفق عقيدتنا نقر أنه لا سلطان إلا لله ، ولا حكم إلا لله رب العالمين ، وربما أحد يتهمني بالسطحية أو السذاجة أو العدمية ، باعتبار أن ذلك الزمن ذهب ولن يعود ، وأننا في أيام مصالح لا مبادئ ، أقول محترما لهم ومشفقا عليهم : أننا أصحاب رسالة وعقيدة ، وأن ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، وأن ما خلا الله باطل ، وكل شيء لا محالة زائل ، وأن العبرة بخواتيم الأعمال ، لا بأجراس وجلجلة التصريحات والكلمات ، وكل منا سيقف أمام مولاه ويحاسبه ، وأن دماء الشهداء لن تذهب هدرا لمشروع أو تسوية من هنا وهناك .
إن الأيديولوجية الأعظم والتي أثبتت أُكلها ، هي الجهاد في سبيل الله بكل أشكاله ومن أهمها البندقية ، وأن العدو لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة ، وأن طريق الجهاد وعر وصعب وطويل مهما كلف من دماء وويلات وتضحيات وآلام ، لأن لله رجال باعوا وأن الله قد اشترى .
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم . التوبة (آية:111
ثم ماذا جَنى وحقق أولئك الدعاة من دون الله أصحاب الأفكار الأخرى ، أو أولئك المتسلقين لسلم الحكم بطريقة غير مدروسة ، من دعاة الإسلام السياسي ، غير الفشل تلو الفشل .
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم . الأنفال آية:10
يا أيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا إن الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون . الأنفال آية:24
يا أيها الذين امنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون . الأنفال آية:27