هل يعود الزمان إلى الوراء
سليمان عبد الله حمد
قريتي يا بسمة الماضي الجميل، ما لأفراحك قد ولّت وغابت، وعدت صدى من ذكريات، ولهذه الوحشة الضاربة في كل مكان عندما زرتك بعد طول غياب، في هذا المكان وذاك كم مشت قدماي، كم لعبت تارة بالكرة مع أصدقائي )..
قريتي لقد غيبتني الحضارة والمدينة عنك، ولكن القلب انخلع من بين ضلوعي، وطار إليك، دفعني الحنين إليك يا مسقط رأسي، يا مهد طفولتي الجميلة، وزمني الأول، ما أجمل الطفولة، قضيتها بين دورك المبنية من الطين، بسواعد رجالك المثابرين، قضيتها بين شوارعك ومزارعك يا من تقبعين بين النيل الشامخ، والنفود المتألق جمالاً، فكنت كالعصفور، اتنقل بفرحة برعماً، أعيش آمال الصغار مع كبير هو بالأمر سيد مطاع، كبيرنا يرحم صغيرنا، وصغيرنا يحترم كبيرنا، تسودنا الإلفة والتآخي، وها هو ذا الفلاح لم يهن يوماً، تغنت به الأرض فرحاً وزهواً وجمالاً، صانها جيلاً بعد جيل، يحرث الأرض، ويسقي ويبذر ويحصد، والأرض تعطينا لا تبخل علينا، الكل يعمل بجد، فمنهم الحطّاب ومنهم الصانع.. الخ.
قريتي كم مشى فيك الربيع المزهر يملأ نواحي القرية، وربيع يملأ القلوب الصافية المتحابة في الله، المتآلفة المتألقة المتوجة بتاج الصفاء والنقاء والوفاء والعطاء، هناك منزل جارنا الشامخ دائماً بكرمه، لم تنطفئ ناره ليلاً ولا نهاراً بعمل القهوة، ويضرب على النجر ترحيباً بالضيوف، يطعم الطعام، ويرحب بالزائرين، يا له من وئام.
كل شيء بات كالعدم، تحول من زاهر إلى أطلال، في قريتنا المهجورة قد جفاك الأهل، أجدبت من بعدها القرية روحاً، لقد بكيت من رحلوا من الكبار والصغار، وبكيت طفولتي المندثرة في عمر الزمن، كان لي لحظات من الحزن الكبير على السنين الطويلة، التي فارقت بها قريتي الجميلة، هجرت الخلان والأصدقاء اللاهثين وراء لقمة العيش، جال في خاطري بعض الأماني في أن يعود الزمان إلى الوراء؛ لكي أعيش طفولتي من جديد؛ لأسعد بدفء القرية أخطو بخطى ثقيلة بين هاتيك البيوت الخربة الخالية من أهلها؛ ليرى القلب الراحة والمتعة مع من تبقى من أبناء قريتي من الأقرباء والأصدقاء، لم يغب عن بالي زيارة المقبرة لألقي السلام على من رحل من الأقرباء والأصدقاء، ما أشد رهبة المقبرة من غير أحياء فيها، أين عُشي الصغير؟.
جلست أبحث عما تبقى من بيتنا المتهدم، لم أجد إلا غراب البين بين بقاياه، يندب الدار، وينعق ذكريات تبعث الماضي حنيناً وأنيناً، كلما سرّحت ناظري بين الأطلال والأفق البعيد لم أجد إلا الوحشة تؤرقني، وفي الجهة الأخرى من القرية زينت العمارة الحديثة، والطرق المعبدة، وعواميد الإنارة، وجه القرية، صارت وردة، صارت زهراً وشفاهاً حمراً، وعيونها أحلى قالت لي أهلاً يا قريتي، كيف أصف لك حباً هو كحب مجنون ليلى.