فلذات أكبادنا.. نضحّي لأجلها، أم نضحّي بها؟
الهجرة إلى أوروبا لم يعد يقتصر على الشباب الطامحين الباحثين عن مستقبلهم، ولاعلى الآباء والأمهات الحريصين على تعليم أبنائهم وبناتهم ، بعد أن أغلقت براميل بشار الأسد وقوانين داعش المدارس والمعاهد والجامعات، ولا على الأطباء والمهندسين والمحامين والفناّنين الذين وصلوا إلى مرحلة اليأس النهائي من عودة البلاد إلى المستوى الذي يلبّي الحد الأدنى من متطلّبات الحياة السوّية التي لايمكنهم العيش بدونها.
حلم الهجرة، تحوّل خلال السنوات الماضية إلى هدف مصيريّ تبيع الأسر كل من تملك من أجل ان توفّر تكاليفه ، حتى تنتقل لتعيش في إحدى الدول الأوروبية. وليس مهمّاً كيف تتم عملية الهجرة، برّاً بين الوديان والغابات، أو بحراً في السفن التالفة، ممّا أصبحت كوارثه مقلقة لمنظمات ودول فيها بقيّة حسّ إنساني.
مأساة السوريين أكبر من أن تبكي لها عيوننا وأن تنزف لها قلوبنا. مأساة السوريين أصبحت تتحدّى عقولنا أن تبقى قادرة على التفكير السليم..
البارحة اتصلت بأحد الأصدقاء أدعوه لنشرب قنجان قهوة مع أصدقاء اجتموا من أنحاء متفرقة من تركيا ، في مدينة أورفا على الحدود التركية السورية ، ورغبت أن أعرّفهم عليه وأعرفه عليهم. جاء صديقى واعتذر بأنه لن يستطيع أن يسهر معنا طويلاً لأنه سوف يسافر في الصباح الباكر إلى مدينة أزمير على الساحل الغربي التركي من أجل تهريب مجموعة من الصبيان الصغار بإحدى السفن إلى اليونان ، لعلهم يتمكنون من الانتقال من هناك بمساعدة بعض أصاقائه إلى ألمانيا. بعض هؤلاء الصبيان لم تتجاوز أعمارهم الحادية عشرة سنة!
لم أجرؤ على النظر في عيني صديقي وهو يتكلّم.. اثنان من هؤلاء الصبيان هما من فلذات كبده، قبل أيام كنت أتحاور معهما حول المستقبل الذي يطمح كل واحد منهما أن يحققّه لنفسه
إحدى العائلات دفعت طفلتيها الصغيرتين لركوب البحر، هرباً من جحيم سوريا، دون أن يكون معهما أي مرافق من الأقارب أو الأصدقاء يرعاهما.. يقول والد الطفلتين إن الحكومة الألمانية سوف تمنح العائلة حق اللجوء إلى ألمانيا من أجل رعاية الطفلتين !!
في قصة قرأناها ونحن أطفال على مقاعد الدراسة، أمّ تحمل رضيعاً كانت تمشي على شاطئ النهر، زلقت رجلها فوقعت في الماء، فبدأ التيّار يجرفها نحو الأعماق. كانت تغالب التيّار بيد وترفع رضيعها باليد الأخرى حتى لا يصله الماء. عندما بدأت تغرق وصار الماء يقطّع أنفاسها، ألقت طفلها تحت قدميها وداست عليه لعلها تتمكن من استنشاق الهواء..
ثمّة مأساة جعلت بعض السوريين يدوسون على فلذات أكبادهم من أجل أن يعيشوا هم.
لست ممّن يلعنون العالَم المجرم الكاذب الذي يقف ضدّنا، ولكنْ.. ألسنا نحن المطالَبين بأن أن نضحّي بأنفسنا من أجل أن نستنقذ بلدنا وفلذات أكبادنا من الغرق .. أم أن هذا لم يعد من التفكير السليم؟
وسوم: العدد 629