إيران على عتبة الأزمة
العربي الجديد
غالباً ما جرت قراءة المكاسب الإيرانية من صفقة الاتفاق النووي مع الغرب، بشكل نظري تصاعدي، من دون النظر إلى أي اعتبارات أو احتمالات واقعية، وهي عادة معروفة في التحليل السياسي الذي يعطي أهمية كبيرة للمؤشرات الطافية على السطح، ويصنع منها سياقاً سردياً متناغماً، قبل أن تنفجر الفقاعة، وتكشف ما تخبئه، على افتراض أن إيران وصلت إلى الحد الذي يمكن معه وصفها بالفقاعة أصلاً.
لعل السبب في ذلك وجود خلط هائل بين مسألتين، هما حجم تأثر العرب من الاتفاق، ومدى صعود إيران. الأولى فيها نظر وإمكانيات محتملة، كون إيران تستهدف العرب بدرجة كبيرة، ويمكن القول إنه لا إستراتيجيات حقيقة لديها سوى محاربة العرب، وتوظف في سبيل ذلك علاقاتها الإقليمية والدولية، وتسخر له طاقاتها ومجهوداتها.
أما مسألة صعود إيران وتحوّلها قوة كبرى، إلى حد أن متحمسين يقارنونها بالصين، فتلك المسألة لا يمكن بناؤها على مؤشر واحد واضح “استعادة الأموال المحتجزة في البنوك الغربية”، ومجموعة مؤشرات محتملة لم يجر تفحص إمكاناتها أو قبولها للتحوّل إلى معطيات واقعية “هجمة استثمارية غربية على إيران”، ومن ثم دمج هذه المؤشرات لصنع سياق من الصعود والنفوذ الإقليمي؟
لا تزال مبكرة معرفة كيف ستسير الأمور مستقبلا، لكن المؤكد أن هناك حقائق بمثابة اليقينيات توفرها التجربة التاريخية لصعود القوى وتحوّلاتها، وهي شروط أكثر منها توقعات، إذ غالباً ما تحتاج الدول التي يكون لديها ملامح صعود إلى تجهيز قواعد علمية وبشرية وتكنولوجية وبنيوية، بوصفها روافع لعملية النهوض وتحقيق الانطلاقة، وهو ما لم يتوفر لإيران، ولا توجد مؤشرات على توفره، كما أن الاستثمارات تتوافد على بلد ما، لتوفر جملة من العناصر، كوجود طبقة وسطى واسعة، وكوادر تقنية وأسواق إقليمية، وتلك العناصر غير متوفرة في وضع إيران الحالي.
ثم لسنا بصدد إقليم ناهض، مثل شرق آسيا، حتى يمكنه استيعاب نهوض مراكز متعددة، كما أن المنطقة متخمة بمشاريع تفوق قدرة سكان الإقليم على الاستهلاك، من اسطنبول إلى دبي، ولا يمكن إضافة مراكز جديدة في إقليم ذاهب إلى الحرب، وإيران التي أشعلت الحرب السنية- الشيعية لن تكون جزيرة معزولة، ذلك أن نسبة المخاطر الموجودة في الإقليم تشكل عامل طرد لاجتذاب الرساميل والاستثمارات، ولا يمكن الخروج من هذه المعادلة إلا إذا تراجعت إيران عن كل سلوكها الإقليمي، ما يعني أن صعود إيران مرهون بتقلص مساحات تدخلها بدرجة كبيرة، وتحقق الاستقرار في الإقليم.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن إيران ستواجه مشكلة خطيرة، وهي عدم القدرة على سد الفجوة بين إمكاناتها وتوقعات الجمهور المتحمس لحياة رغيدة في اليوم التالي، وسيتعامل مع أي تقصير على أنه إخلال مقصود وحرمان مسيّس. هذه الإشكالية ستدفع الحكومة إلى أحد خيارين: إرهاق نفسها والإنفاق أكثر من طاقتها لتحقيق رغبات الجمهور، بما يعنيه ذلك من تأجيل للمشاريع التنموية ذات الطابع الإستراتيجي لصالح الإنفاق على إشباع الحاجات الاستهلاكية، أو الاستعداد لمواجهة الاضطرابات المطلبية، وهذه الإشكالية ستخلق فجوة مؤكدة بين تكنوقراط الحكومة ومراكز القوة المتنفذة في الجمهورية الإسلامية، وهو مظهر من جملة مظاهر صراعية محتملة.
وعلى العكس من المتوقع والمقدّر تجاه قدرة النظام على السيطرة واحتواء المطالب الصادرة عن المجتمع الإيراني، كما كان قبل توقيع الاتفاق النووي، حينها كان النظام مرتاحاً، ويملك هامشاً واسعاً للمناورة، وبذريعة عداء العالم له بنى كل تلك المليشيات في الإقليم، وقمع المعارضة في الداخل، وبذريعة الحصار الاقتصادي أجبر الشعب على نمط حياة متقشف ومنع الشفافية. كما أن المناخ الحالي ليس صالحاً لطرح مشاريع استراتيجية كبرى، في ظل ارتفاع سقف توقعات المجتمع بالرفاه ونمط حياة الرخاء، والحاصل أن الوضع الداخلي سيكون أمام سلسلة من التداعيات، تغذي بعضها بعضاً، بما ينهك صانع القرار الإيراني.
لا تشكل عودة العلاقات وفتح السفارات، بحد ذاتها، انتصاراً للدول، لا يضيف ذلك شيئاً لمقدراتها، فالسفارات الأميركية موجودة في كل دول العالم، المتقدمة والمتأخرة، ولم يغير ذلك شيئاً في أوضاعها، بل على العكس، دائما كان وجود السفارات الأميركية يعني مزيداً من التواصل مع الشرائح والقوى الليبرالية، ما يعتبر خسارة صافية في الحالة الإيرانية، كما ستشكل العلاقات مع الغرب قيداً على تحركات إيران، لأن الأخيرة بات لديها ما تخسره، بعد بداية التشابك والانفتاح مع الغرب.
وبخصوص الوضع الإقليمي وترتيباته، فهو قضية تعني أميركا، بمقدار ما تعني الأطراف العربية، أميركا يعنيها الحفاظ على قوام النظام الإقليمي الذي أسسته طوال عقود ماضية، واستثمرت فيه، وجهزت بنية لوجستية مكلّفة من مصر والخليج إلى تركيا، نظاماً فرعياً يغذي استراتيجيتها الكبرى، ويسهّل سيطرتها وقدرتها على ترتيب العالم، والقول إن أميركا ستسلّمه لإيران فيه كثير من اللاواقعية التي لا يمكن تحقّقها في السياسة الدولية، كما من غير المحتمل أن تستعيض أميركا عن هذه المنظومة، وتتحالف مع إيران التي لا تملك سوى بنية مليشيوية، خارجة عن القانون.
لا شك أنّ إيران حصلت على حزمة من المكاسب، لا يمكن إنكارها، لكن سيكون لها دور في ظهور نمط من الأزمات كانت مؤجلة، وأشكال جديدة من المطالب لا يستطيع النظام السياسي الإيراني، بعقيدته وتركيبته الحالية، التوافق معها، وربما يشكل ذلك مكمن رهان الغرب على حصول تحوّلات جذرية في إيران، قبل الوقت الذي ينتهي فيه مفعول نظام مراقبة برنامجها النووي
وسوم: العدد 629