بالخبز وحده قد يحيا الإنسان
“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
قصة شهيرة للكاتب الروسي “إيليا اهرنبرج”، اقتبس عنوانها من عبارة منسوبة للمسيح عليه السلام، ورأى فيها بعض أنصار السوفييت إعلانًا على تجاوز شعوب الاتحاد السوفييتي مرحلة الحاجة إلى مرحلة الرفاهية، في حين رأى البعض الآخر فيها دعوة للانفتاح على أسلوب الحياة الغربية الديمقراطية.
لكنّ واقع أُمّتي المر، الذي فقد فيه الكثيرون من أبنائها مقومات الحياة، في ظل الحروب المدمرة والاعتداءات الوحشية من ناحية، وفي ظل الطبقية ووجود ثروات البلاد في أيدي قلة قليلة مسيطرة من ناحية أخرى.
هذا الواقع يجعل دلالة قصة الكاتب الروسي نسبية؛ فهناك من أمتي من يصارع الموت من أجل رغيف الخبز، فصحة هذا القول إذن لا تتعدى مرحلة انعدام الرغيف، لكن الأمر سيكون مختلفًا عند توافره.
عندما وضع عالم النفس النمساوي ماسلو هرمه الذي يبين الدوافع الأساسية للسلوك البشري، ورتب الاحتياجات الإنسانية في صورة هرم له خمسة مستويات؛ بدأ بأهمها وهو الحاجات الفسيولوجية التي تتعلق بغريزة حب البقاء، ثم الحاجة إلى الأمان، ثم حاجات الحب والانتماء، ثم حاجات التقدير والاحترام، وأخيرًا حاجات تحقيق الذات.
وبحسب ترتيب الاحتياجات في هرم ماسلو، يتجه الإنسان لإشباع حاجاته الفسيولوجية من الحصول على طعام وشراب ونوم ومسكن، ويمثل ذلك بالنسبة إليه رأس الاهتمامات، ثم بعدها في الأهمية الحاجة إلى العيش في أمان وسلام بعيدًا عن الحروب والدمار ومناطق الكوارث الطبيعية.
والأمران، الأمن الغذائي والأمن النفسي، تحدث عنهما القرآن الكريم عندما قال الله تعالى في معرض الامتنان على قريش بهاتين النعمتين: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
تذكرت حين أردت طرق هذا الجانب ما قرأتُ سابقًا عن الأوضاع المأساوية لإخوتي السوريين في صراعهم مع الجوع والموت معًا؛ حيث كان القناصة من شبيحة بشار الأسد يتربصون بمن يخرج من بيته لاصطياده وقتله.
لكنه الجوع الذي لا يرحم، وأكباد الأطفال التي تكاد أن تتفتت، تجعل الأب يجازف بحياته ويجتاز الشارع الذي يسيطر عليه القناصة للحصول على الخبز؛ فربما أرداه رصاص القناصة قبل أن يجاوز، وربما أتته رصاصات الغدر وهو عائد بالخبز الذي يتلطخ باللون الأحمر، هو طعام الأطفال.
ما أسوأ أن يحرم إنسان كرمه الله من لقيمات يقمن صلبه ويبقينه على قيد الحياة، تلك هي المَوَاطن التي تنكشف فيها حقيقة الإنسانية البائسة، والشعارات الجوفاء الخرقاء لحقوق الإنسان. فتلك الدول التي ترفع شعارات الإنسانية البراقة هي ذاتها تلك الدول التي تستغل الجوع في السيطرة على قرارات الدول ومسارات الشعوب.
النازيون استغلوا شدة الأزمة الاقتصادية في مطلع الثلاثينيات ووجهوا دعايتهم للعمال العاطلين، ملوحين لهم بالطعام، ووعود بتوفير العمالة المستديمة لهم؛ وفازوا بأصوات ستة ملايين عاطل جائع.
أمريكا هددت اليونان في أعقاب الحرب العالمية الثانية بمنع شحنات القمح وتعريضها للهلاك إذا تم انتخاب حكومة اشتراكية لحكم البلاد؛ الأمر الذي كان له تأثيره على اتجاه أغلب الناخبين.
واستخدمت أمريكا سياسة التجويع للشعب العراقي، وقامت بضرب الحصار عليه، في أكبر عملية قتل غير مباشر في العصر الحديث.
دُمرت البنية التحتية للعراق، محطات الاتصال والكهرباء والمصانع والمعامل والمنشآت النفطية ومخازن الحبوب والمواد التموينية والأسواق المركزية ومحطات ضخ المياه، والقضاء على معظم الثروة السمكية بسبب تلويث المياه.
وتضاعفت نسبة سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة من 12% إلى 23% خلال الفترة بين عامي 1991 و1996. كذلك، ارتفعت نسبة سوء التغذية الحادة في الوسط والجنوب من 3% إلى 11% لنفس الفئة العمرية.
وبحسب تقرير للجزيرة 2004م، عانى خُمس أطفال العراق دون الخامسة من سوء التغذية، وهناك ما يثبت أن الاضطرابات العقلية لدى الأطفال دون الرابعة عشر زادت بدرجة كبيرة، كما زادت معدلات الوفيات بين الأطفال بسبب سوء التغذية.
الإنسان، الذي كرمه الله، يموت جوعًا بسبب الأطماع والاستبداد الذي تشبعت به السياسات الخارجية لتلك الدول الاستعمارية، التي لم تتخل بعد عن طبيعتها الاستعمارية هذه؛ إلا أنها اتخذت أشكالًا وقوالب أخرى. وجاع الإنسان العربي المسلم بسبب الأنظمة الديكتاتورية القمعية التي حكمت بالحديد والنار، ورأت أن شعوبها لن يتم ترويضها إلا بتجويعها، وقد كان.
استأثرت الأنظمة وفئات متنفذة بمقدرات وخيرات البلاد، وتركت الفتات للجماهير العريضة تتصارع عليه، وتنشغل به عن حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشروعة.
أنظمة مستبدة استغلت الجوع كسلاح ضد شعوبها؛ فالرجل الذي يكدح ليل نهار في توفير مقومات الحياة الأساسية لأبنائه كيف سيفكر في سياسة دولة؟ كيف يطمح إلى التغيير؟ كيف سينادي بالحقوق المسلوبة؟
صار المواطن العربي في العديد من الدول كثور يدور بالساقية والسوط كذلك على ظهره؛ قتلوا فيه الإبداع، قتلوا فيه الرغبة في الإنجاز، شوهوا معالم شخصيته، غرسوا فيه الحقد والدونية والأنانية دون أن يشعر، وهو يرى أمواله في يد ثلة عابثة.
إن الإنسان بصفة عامة من حقه أن يعيش، من حقه أن ينعم بما خلقه الله له دون جور أو تجاوز على حقوق الآخرين. وإن الإنسان من أمتي من حقه أن ينعم بمقومات الحياة؛ فما معنى ألا يجد مواطنٌ قوت يومه بينما الحفلات والولائم يُنفق عليها الملايين؟!
أيها الحكام، أطعموا شعوبكم قبل أن يأكلوكم، ترفقوا بالمواطنين البسطاء، واجعلوا الاهتمام بهم على رأس أولوياتكم؛ فوالله لئن فعلتم لتنقذن أنفسكم من ثورة جياع لا قبل لكم بها، وهو حق مكتسب لهؤلاء ليس لكم عليهم به منة أو فضل.
وسوم: العدد 632