أم سُلَيْمٍ رضي الله عنها

أنس بن مالك رضي الله عنه كان في العاشرة من عمره حين جاءت به أم ((أم سُليمٍ)) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  تقول: يا رسول الله! هذا أنس يَخْدُمُك، فبقي رضي الله عنه في خدمة الرسول الكريم حتى التحق بالرفيق الأعلى. وكان زواج أمه من أبي طلحة من أكثر الزيجات بركة، فحين مات زوجها مالك على غير ملة الإسلام، وهجر المدينة حين قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي حتفه في بلاد الشام متنصّراً. جاءها أبو طلحة وكان على الجاهلية، فخطبها، فاشترطت عليه أن يكون إسلامه مهراً لها ففعل وحَسُن إسلامه وصار من كرام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

يقول أنس رضي الله عنه: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم – وكان أبو طلحة غائباً – فقالت لأهلها: إن جاء أبو طلحة فلا تحدّثوه بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فلما جاء سألها: كيف ولدك يا أم سليم وكان مريضاً، قالت: سكن ولله الحمد، فظنَ أن الحمى بارحته وأن صحته تحسًّنت فحمد الله على ذلك، وطابت نفسه .. فجاءته بما غسل به أطرافه وبدَّل ثيابه وارتاح قليلاً، فقدَّمت له عَشاء تناوله راغباً وشكر الله على نعمائه .. ثم حسَّنت نفسها وتزينت ليرغب فيها. وتجمّلت كأفضل ما تتجمل المرأة لزوجها. فوقع بها، فلما أن رأته قد شبع، وأصاب منها، قالت له: يا أبا طلحة، أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا غيرهم شيئاً يخصُّهم، فمكث عند هؤلاء مدّة، ثم طلبه أصحابه، ألهم أن يمنعوهم إياه؟ قال: لا، قالت: فاطلب ثواب مصيبتك في ابنك من الله تعالى، فقد استردّه .. فظهر الغضب على وجه أبي طلحة ثم قال: كيف فعلت هذا كلّه؟ لم تفصحي عن موت ابني، إنما موّهتِ فلم أفهم، ثم جئتني بطعام فأكلته مطمئناً، ثم تزينت لي، فوقعتُ عليك، فلما صرت جنباً أخبرتني بموت ابني؟ حسبي الله ونعم الوكيل، والله لأشكوّنكِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما كان، فهوَّن رسول الله على أبي طلحة ما فعلا، ودعا لهما قائلاً: ((بارَكَ الله لكما في ليلتكما)).

ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  موصول بعرش الرحمن لا يخطئه، فحملت أم سليم من ليلتها، وعاد أبو طلحة إلى بيته وزوجته راضياً برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سعيداً بدعائه، يرجو البركة واليُمن، فتلقّته زوجته أحسن لقاء، وعاد الأنس يرفرف على بيتها والسعادة تملأ أركانه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  في سفر، والمسلمون ومنهم أبو طلحة وأم سليم معه، فوصل المدينة ليلاً، فلم يدخلها، لماذا؟ إن سيد البشر خيرُ الناس لطفاً وذوقاً، فهو يقيم خارج المدينة حتى يبزغ الفجر، فيصلي، ويذكر الله ثم يدخله نهاراً، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن الليل ستار كل العيوب، يهدأ الناس فيه، فإن امتلأت الطرقات بالعائدين ضجّ المكان بالحركة واللغط، وهذا يفزع النائمين، ويخيف الآمنين، فقد يظنون العدوّ دهمهم على حين غرّة، فيهبون مذعورين، كما أن النساء يعزفن عن الزينة حين يكون أزواجهنّ على سفر، ولا يرغبن أن يفجؤوهن على غير ما يرغبن أن يَرَوهن عليه، ومن عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم  حين يصل المدينة أن يكون مستعداً لصلاة ركعتي سنة العودة من السفر، وأن يلقى أصحابه فيسلم عليهم، ويستطلع أخبار المسلمين، وهذا لا يكون إلا نهاراً .. إنها رحمة الرسول الكريم بالمسلمين، وحكمته الرائعة تتجلّى في التصرفات المناسبة لكل موقف، وتشريعٌ عظيم ينبغي للمسلمين أن يتأسوا به إن أرادوا النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

حين أذن بلال لصلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم  للصلاة وقام معه المسلمون، فلما أدّوا المكتوبة، وتجهزوا لدخول المدينة المنورة، جاء أمَّ سليم المخاضُ فبقي أبو طلحة معها على مضض منه – إذ لم يكن أولادها أو بعض أهلها معها – يخدمها، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم  وصحبه إلى المسجد، فحزن أبو طلحة أنه لا يدخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  فرفع يديه إلى السماء .. يا رب إنك لتعلم أنّه ليعجبني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد حبسني – كما ترى – مخاضُ زوجتي.

فما أنهى دعاؤه حتى قالت زوجته أم سليم: يا أبا طلحة سكن ما أجده، فما عدت أشعر بألم الولادة، فانطلق بنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقا حتى وصلت دارها ضربها المخاض، فولدت غلاماً، فنادت أنساً، فقالت له: يا أنس، لا يرضعه أحد حتى تغدوَ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح احتملتُه فانطلقتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه بيديه الشريفتين ثم تناول تمرة فمضغها عليه الصلاة والسلام، ثم حنّكه، فتلمظ الوليد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((انظروا حبّ الأنصار التمر)) رضي الله عنك أم سُليم.

يروي أصحاب الحديث أنه ولد لهذا الغلام تسعة أبناء حفظ جميعهم القرآن الكريم.

رياض الصالحين: باب الصبر، رواه مسلم

الحديث/32/

وسوم: العدد 632