ثورتنا السورية، بين السلميّة والعسكرة
ظهرت في العقود الأخيرة من السنين دراسات تؤكد أهمية العمل الجماهيري، والتغيير السلمي أو "اللاعنفي"، والمقاومة السلمية، والعصيان المدني، والدفاع السلبي... إلى غير ذلك من التسميات، وتبيّن أن هذا النوع من العمل جدير بأن يوصل الشعب إلى غاياته، ويرغم الحكام على أن يزيلوا الظلم، أو أن يزولوا من مواقعهم... ومن أشهر من يُنسب إليهم النجاح في المقاومة السلمية المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ.
ولعل من أبرز مَن كَتَبَ في هذا الموضوع جين شارب Gene Sharp (ولد في 21/1/1928 في ولاية أوهايو، لأب يهودي وأم نصرانية. وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس، كما يُشرف على الأبحاث والدراسات في جامعة هارفارد. ارتبط اسمه بالتنظير للكفاح السلمي. ومن أشهر كتاباته في ذلك كتاب "من الدكتاتورية إلى الديموقراطية" وكتاب "البدائل الحقيقية"). وكذلك الأستاذ جودت سعيد، لا سيما في كتابه: "مذهب ابن آدم الأول" والدكتور خالص جلبي في مقالاته الكثيرة، ولا يُخفي الكاتبان الأخيران جودت وخالص تأثرهما بكتابات مالك بن نبي وبتجربة غاندي.
وكنت أقرأ بعض هذه الدراسات وأقول: قد يجدي هذا النوع من التغيير في بعض بلدان العالم أو في كثير منها، ولكن هل يجدي في بلدي الذي عانى من تسلّط مزدوج: تسلط حزب البعث والتسلط الطائفي، منذ الثامن من آذار 1963؟
لقد وجدتُ أن هذه الدراسات تقوم على أن المقاومة السلمية أو المدنية تراهن على واحد أو أكثر من بين الاحتمالات الآتية:
الاحتمال الأول: أن الحاكم المستبد، مهما بلغ ظلمه، لا يمكن أن يستمر في مقاومة شعب يحتج عليه بمظاهرات سلمية، ومطبوعات، وكلمات وخُطب... وقد يبلغ به الظلم أن يقتل آحاداً من المحتجين أو عشرات، ولكن لا يمكن أن يقتل المئات والآلاف... لأن ضميره يأبى عليه ذلك!.
ولقد وجدتُ أن هذا الاحتمال غير وارد في سورية، فالطاغية ابن الطاغية، بسبب نشأته وتربيته وما اقترفت يداه... لا يمكن أن يستجيب لمطالبة الشعب بحقوقه ولو قتل منه مئات الآلاف أو الملايين.
الاحتمال الثاني: أن الجيش الذي يستخدمه الطاغية في قمع الشعب لا يمكن أن يستمر في قتل الشعب إرضاء للطاغية، فالشعب هو أهل الجنود والضباط الذين يطلب الطاغية قتلهم.
وهذا الاحتمال كذلك غير وارد في الحالة السورية، إذ إن هذا الجيش قد بني على الطائفية الفجّة، وقد أصبحت جميع مفاصل القرار في كل وحدات الجيش بيد ضباط طائفيين حاقدين، كان الجيش عندهم وسيلة للتسلط والسرقة حتى ملكوا القصور الفخمة والمراكب الفارهة... وهم لا يُحسّون بانتمائهم لهذا الشعب، والشعب عندهم ليس سوى عبيد يسخّرونهم للمزيد من تضخيم الثروات...
والاحتمال الثالث: أن العالم بمؤسساته الدولية وأحلافه العسكرية ومنظماته الإنسانية لن يسكت على طاغية يذبح المئات والآلاف وعشرات الآلاف من شعبه الذي يطالب بحقوقه، إذ لا بد من قرارات حازمة من مجلس الأمن أو من بعض القوى الدولية تضع لهذا الطاغية حدّاً يقف عنده، أو تزيحه وتحاكمه...
هذا الاحتمال وارد جداً لو كان شعب سورية ينتمي لأي دين غير الإسلام. أما وهو شعب مسلم فما المشكلة عند هذه المؤسسات الدولية؟ ما المشكلة لو قُتل من هذا الشعب من قتل؟ بل ما المشكلة لو قُتل هذا الشعب كله؟
فواقع الأمر في سورية، وربما في أقطار أخرى، أن الشعب أمام خيارين قاسيين: إما أن يستسلم للطغيان، ويستمر في دفع ضرائب الذل من دينه وكرامته وماله... وإما أن يثورَ فيتحمّل القتل والدمار والتشريد... ويكون بعد ذلك الفرج والنصر بإذن الله.
*****
لقد بدأ شعبنا، مع ذلك، احتجاجه على طغيان آل أسد، احتجاجاً سلمياً، فقابله الطاغية بالحديد والنار، فبدأ الاحتجاج يتحول بعد شهور إلى نوع من المقاومة، ثم تحول بالفعل إلى المقاومة المسلحة، وهو مالم يكن منه بُدّ.
*****
ومن ناحية أخرى بدأ التمييز الطائفي، بل التسلّط الطائفي، يعمل في مجتمعنا السوري مذ جثم على صدر شعبنا حزب البعث في الانقلاب الذي شارك فيه مع الناصريين في 8/3/1963م، ثم أزاح شركاءه وانفرد بالسلطة لكن التسلط الطائفي بدأ بشكل بسيط ثم تعاظم شرّه حتى ضج منه الشعب. فحين كانت البداية تحسس بعض الناصحين وبدؤوا يحذّرون شرائح المجتمع الواسعة فكان كثير من الناس يشكّكون في هذه الحقيقة أو يهوّنون منها... إلى أن تفاقمت فراح المشكّكون في البدايات يُعلنون عجزهم عن التغيير في النهايات. بل عندما قامت الثورة المباركة في آذار 2011 شكّك كثير من الناس في طائفية هذه المعركة، معتمدين على أن شعبنا يرفض الروح الطائفية، ولم يدرِ هؤلاء أن النظام القائم طائفيّ من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، فلا بدّ له من أن يحوّلها معركة طائفية، وقد ظهر هذا جليّاً حين تحرّكت القرى الشيعيّة في أرياف حلب وإدلب وغيرهما لتجنيد الشبّيحة ومناصرة النظام، فضلاً عن تدخّل حزب حسن نصر الله وقوات المالكي وعصابات إيران وغيرها، بشكل مستور في البداية، وبصورة علنيّة بعدئذ، حتى لم يعد عاقل يشكّ في أن هذه المعركة طائفية بامتياز، من طرف النظام وأعوانه في أقل تقدير.
هذه صورة من المشهد المأساوي الذي حلّ بشعب سورية حتى شبّ عن الطوق، وثار على الطغيان، ووقف معه أهل المروءة والشهامة والنجدة فقدّموا ما قدّموا من دعاء وكلمة طيبة ودعم مالي...
وبرز كذلك بعض المنظّرين يشترطون على هذا الشعب شروطاً حتى يؤيدوا ثورته، ويعترفوا بشرعيتها.
يشترطون عليه أن يكون على رأسه قيادة تاريخية تمتلك "كاريزما" فائقة، وأن يكون للثورة هيئة تخطط وتنظم وترسم الخطوات وتُحْكم الأعمال، وتركّز على الاقتصاد لتشُلّ قدرة الطاغية على التصدي للثورة، وتملك جهازاً إعلامياً متطوراً، وتنشئ تحالفات داخلية وخارجية، وتحدث تغييراً في الرأي العام العالمي...
لو أن هؤلاء المنظّرين قالوا: هذه نصائح نقدّمها للثوار، ليحققوا منها ما استطاعوا ويعملوا على زيادة الفاعلية لثورتهم... لكان هذا مقبولاً منهم. أما أن يَعُدّوا هذا شرطاً للقيام بالثورة فهو تخبّط وتنظير في الفراغ، ورزع لمشاعر الإحباط، إذ كيف يملك شعب عاش منه جيلان أو ثلاثة أجيال تحت القهر والتجهيل والتضليل، وتحت حكم يحصي عليه الأنفاس، ويوظف على كل مواطن جاسوساً، ويمنع أي اجتماع لخمسة مواطنين، ويحتكر وسائل الإعلام، ويغلق منافذ الثقافة، ولا يأذن بوجود أي تنظيم سياسي بجوار حزبه "القائد"... كيف يملك هذا الشعب أن يوجد فيه هذا التنظيم والإحكام والربط والضبط والتخطيط...؟ أيفعل هذا تحت سمع الطاغية وبصره، أم في غياب عن أعين أجهزته الأمنية؟!.
إن منطق التاريخ وقوانين المجتمعات، بل قل: إن سنّة الله في المجتمعات، لا تجعل تلك الشروط ممكنة التحقيق، ولا تتيح أمام الشعب إلا سيرورة واحدة تبدأ بأن يخضع أمام الأمر الواقع، فينصاع وينقاد للطاغية، فيزداد الطاغية طغياناً، ويعمّق جذوره في المجتمع، ويهيمن على مفاصل القوة العسكرية والأمنية، بل المالية والإعلامية والثقافية كذلك، ويضيّق على الناس فرص الثورة عليه، ويجعل كلفة التحرك باهظة، وقد تحدُث بين فينة وأخرى بوادرُ تململٍ من الفساد والطغيان، فيقابل هذا التململ بقمع وتنكيل... لكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى أبد الآبدين، إذ لا بد أن يتفاقم الاحتقان في النفوس حتى يأتي ظرف ينفجر فيه بوجه الطغيان بشكل عفوي، وتنطلق الثورة بأعمال ارتجالية، وتتوسع لتعمّ معظم شرائح المجتمع، ويظهر بين الثوار أصحاب إرادات صلبة، وأصحاب مبادرات إبداعية، وأصحاب تضحيات عظيمة... وهنا تسير الثورة وفق المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية، فتؤثّر فيها، وتتأثر بها، وتكون النتائج مفتوحة على خيارات عديدة، ولكنْ ليس من بين هذه الخيارات أن يعود الطاغية إلى طغيانه، ويعود الشعب إلى انصياعه وانقياده. بل لا بد أن يحقق الشعب النصر كاملاً أو مجزوءاً.
وإن مما يقصّر من مرحلة إذعان الشعب للطاغية، بل يعجّل في انتصار الثورة بعد انطلاقها، تلك العوامل التي أشرنا إليها في بداية المقال: أن يكون لدى الطاغية شيء من الشعور بالانتماء للشعب فيستسلم ويتراجع، أو أن تتخلى عنه أجهزته القمعية، أو أن تمارس عليه ضغوط عالمية...
وإن نظرة إلى ما حدث فيما سمي بثورات الربيع العربي، بدءاً بتونس، ومروراً بمصر وليبيا واليمن، وانتهاء بسورية، تؤكد أن هذه السيرورة هي التي تحدد مراحل الصراع بين شعب وطاغية. على أن انطلاق أي ثورة، بل انتصارها، ليس نهاية التاريخ، بل إن لكل حدث تداعيات وارتجاجات يصعب التنبّؤ بها، وهي بحاجة إلى المزيد من اليقظة، ومزيد من الثبات، ومزيد من التضحيات.. (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وسوم: 634