النجدةُ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

1

نصُ رسالةٍ وَرَدتني عِبرَ البريدِ الالكترونيِّ

النجدة  يا دكتور حامد قبل أن أترك ملتكم ..؟! "من المؤكد أنه لا يخفى عليكم ما استجد في عصرنا من أفكار ومعتقدات لا حصر ولا عد لها وبحكم عملكم الإسلامي وتصدركم للمجال الدعوة إليه فنأمل من سعادتكم النظر في قضيتنا هذه..أنا رجل أعتنق الديانة الإسلامية ولله الحمد،في السنوات الأخيرة وبعد الإطلاع على أفكار الملحدين واللادينيين بدأت أشك في صحة هذا الدين وبدأت أراجع الحسابات وأبحث هنا وهناك وبكل أسف فإن كل الممثلين للإسلام من مشائخ وغيرهم لم يعجبني كلامهم بل وجدت ساذجا وبدائيا ويدعو للتسليم بالأمور دون تفكير.

دكتور حامد

إن المشكلة تبدأ في وجود الخالق ذاته وتعرج على أصل الوجود والأزلية وتمر بصفات الخالق وأحقيته للعبادة وما تلبث الشكوك أن تدور حول نبوءة محمد وصدق الأخبار المنقولة عنه هذا فضلا عن تعدد زوجاته الغريب وزواجه بطفلة وقتل أب إحداهن ثم الزواج بها فورا والكثير من أفعاله الغريبة أللتي لا يمكن أن تقبل ثم تحوم الشكوك حول الإسلام وتشريعاته وما إذا كان آت من السماء،هذا إن سلمنا بوجود أحد في السماء وأيضا قصص الجنة والنار التي لا تصلح إلا أن تروى للأطفال الحالمين والحور العين والخمر..والقتل الذي ما انفك تاريخنا يعج به في كل سطر..و..و..و..دكتور حامد أدركني قبل أن أدع ملتكم .هذا نص خطاب جاءني من شخص عبر البريد الإلكتروني أوردته كما جاء من دون تعديل في اللغة أو الصياغة أو التنسيق.

الجواب:أخي الفاضل وفقني الله تعالى وإياه إلى كل خير..السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..أما بعد:أشكركم على كريم ثقتكم وحسن ظنكم..واختياركم لي للتعامل مع حالتكم الإيمانية..وإني لأسأل الله تعالى ربي وربكم أن يسددني لما ينهي هذه الحالة التي تمرون بها بكل علمية وموضوعية..وطلبي الوحيد أن تساعدني بالاستعداد لنبحث معاً عن الحقيقة بدون مسلمات مسبقة..مثل قولك (إن سلّمنا بوجود أحد في السماء) وأنا أعدك بالمثل التزاماً بالتوجيه الرباني العظيم"وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"هذا التوجيه القرآني السالف الذكر علّمه ربُ النَّاسِ (كافرهم ومؤمنهم) لِرسولِه محمد صلى الله عليه وسلم ليقول لمن رفض دعوته للإيمان بالله:تعالوا لنتحاور على أساس الافتراضات التالية:إما نحن وإياكم على هدى..أو أنَّ كِلانا في ضلال .. أو أحدُنا مؤمنٌ والآخرُ ضالٌ..فأين الحقيقة ..؟

2

أخي الفاضل تساؤلاتك شبيهة بتلك التي طرحها عليّ زميل من قادة أتباع الديانة البوذية/عضو المجلس البوذي العالمي وعالم في الفيزياء النوويِّة..وفي سياق الحوار معه قلت:من أين جاء العقل البشري..؟وهل هو مطلق القدرة في الإجابة عن كل ما نتساءل عنه..؟وسبب طرح هذا السؤال:أن البوذيين يعتقدون أن العقل هو جوهر قوة الإله الذي يؤمنون به ويسمونه بالإنجليزية) Supreme being) أي (الحي الأعلى).فقال:ليس لدي جواب وأعترف:أنني عاجزٌ عن الإجابة فقلت:هل بإمكاننا الاتفاق على أن العقل البشري محدود الطاقة..وأنه غير مؤهل ليجيب عن كل تساؤلات النفس البشرية..؟قال:بكل تأكيد هو محدود الطاقة والإمكانية قلت:لنبحث معاً لعلنا نستكشف جهة قادرة على ذلك قال:حسناً وإني لأتطلع إلى ذلك ثم قال:وهل عندكم في الإسلام ما يساعد على الوصول لمثل هذه الجهة..؟قلت:نحن المسلمين ننطلق في كل اعتقاداتنا من فلسفة جوهرها:أنَّ كلَّ مَخلوقٍ أومصنوعٍ له خالقٌ أو صانعٌ..ونؤمن بأن المخلوق أوالمصنوع لا يمكن أن يرتقي بقدراته ومواصفاته ليتطابق تماماً مع من خلقه أو صنعه..ونؤمن بأن هناك عالمين عالم شهادة وعالم غيب..وعالم الغيب لا يقدر الإنسان أن يسبر حقيقته بقدراته البشريِّة..ولكن يمكن أن يدرك جوانب من حقيقته بالتفكر والموضوعية العلمية..وهو عالم يتعلق بالذات الإلهية وصفاتها وأحوالها وغيرها من الغيبيات..فسارع ليسأل:فمن أوجد الله الذي تؤمنون به..؟ قلت:هذا سؤال مشروع..قال:ما هو جوابك..؟قلت:وهل يرتقي المخلوق أو المصنوع ليحيط بأسرار خالقه وصانعه..؟ فما دام الإنسان مخلوق فهو محدود أليس كذلك..؟ قال:لماذا الخالق لم يخلق الإنسان مطابقاً له تماماً..؟ولماذا لم يؤهله لمعرفة كل شيء..؟ولماذا لم منحه القدرة على فعل كل شيء..؟قلت:هذه أسئلة مبررة من حيث المبدأ فليس هناك سقف لحرية التفكير في الإسلام..ولكن هل هي أسئلة موضوعية..؟قال:بكل تأكيد وأنت ماذا تقول ..؟قلت:حسب طبيعة اعتقادي ومنهجيتي في التفكير فهي ليست موضوعية..قال:لِمَ..؟قلت:لأنني أعتقد أن العقل البشري محدود..وقد اتفقنا منذ قليل أنه محدود الطاقة والقدرات..أليس كذلك..؟قال:بلى قلت:إذاً فهو غير مؤهل ليقدم إجابة عن تساؤلاتك..أما من حيث التعامل المنطقي معها فإنني أتساءل:هل هناك مبرر ليخلق الله النَّاسَ مطابقين لحاله..؟أوليس هذا تكرار للإله لا مبرر لها..؟قال:لِمَ؟قلت لأنه مناقض لفلسفة الإلوهية..؟قال:لِمَ ..؟ قلت:الحاجة إلى نسخة إضافية من الإله لا تتولد إلا من كون هذا الإله معرض للعجز أو الموت..مما يولد عنده التخوف من فراغ من بعده يستدعي وجود البديل أليس كذلك..؟قال:بكل تأكيد ثم استدرك فقال:ربما ليساعده.

3

قلت:من أهم خصائص الإله:أنه لا متناهي القوة والقدرة..فهولا يضعف ولا يمرض ولا يعجز ولا يحتاج إلى مساعدة..وهو خالد دائم لا يموت..وبالتالي لا مبرر لوجود البديل أو المساعد..أليس كذلك؟قال:لا شك أن مواصفات الخالق غير وأعلى من مواصفات المخلوق وإلا كانوا سواء..لذا أتعجل لأقول:لا مبرر لتساؤلي:لماذا الخالق لم يخلق نسخاً مطابقة له من البشر..؟قلت:أشكر وأقدر لكم سرعة نباهتكم وعمق إدراككم ولكن بتقديري يبقى إشكالات أخرى لو وجد نسخ ربانية متعددة..قال:وما هي..؟قلت:لو أن الكون فيه آلهة متعددة فمن سيتولى زمام القيادة وإدارة شؤون هذا الكون..؟قال مداعباً:بالديمقراطية..قلت:ولكن مَنْ سينتخب مَنْ ما دموا جميعاً آلهة..؟وإذا أخذوا بالديمقراطية فالديمقراطية تقوم على مبدأ اختيار الأكفأ والأصلح والأقدر أليس كذلك..؟قال:بكل تأكيد..قلت:وهل يصح مبدأ التفاضل مع منطق الإلوهية ..؟وهل يبقى للآلهة المَرجُوحة شيئاً من الإلوهيِّة مع وجود الإله الرَاجح والأفضل ..؟قال:بكل تأكيد لا..قلت:إذاً لا مكان للديمقراطية مع منطق وفلسفة لإلوهية أليس كذلك..؟قال:بلى لأن قانون وفلسفة الإلوهية يرفض قانون الترجيح والتفاضل بينهم باعتبارهم  سواء..ثم قال:ولكن ماذا تقول لو أن أحدًا قال لك:إذا كانت الديمقراطية لا مكان لها مع منطق الإلوهية..فليلجأ الآلهة إلى القرعة لتحديد من المؤهل ليحكم الكون ويحكمهم..قلت:ألا ترى أن اللجوء إلى القرعة يسقط صفة الإلوهية عنهم..؟قال:لِمَ ..؟

قلت: لأن مبدأ القرعة يعني أن المقترعين عجزوا عن اتخاذ القرار بينهم وهذا العجز يتناقض مع جوهر فلسفة الإلوهية أليس كذلك..؟قال:بكل تأكيد..قلت:إذاً القرعة شأنها شأن الديمقراطية لا مكان لها مع مفهوم الإلوهية وفلسفتها أليس كذلك..؟قال: هذا منطق لا يقاوم ويصعب رفضه ثم قال:لعل هناك من يقول لك:ليحكم الآلهة الكون بالتناوب بينهم مادام منطق الإلوهيِّة يرفض الديمقراطية ويرفض مبدأ القرعة..قلت:وهل هناك مبرر للتناوب ..؟ما داموا جميعاً آلهة متماثلين في قدراتهم ومتطابقين في مواصفاتهم..قال:لاشك أنها نكتة..لأن تعدد الآلهة يسقط معنى (الإلوهيِّة)فالإله بكل تأكيد هو الجهة التي تمتلك صفات وقدرات خارقة..لا يمكن لأحد غيره أن يتحلى بها بحال من الأحوال..وبهذا التفرد بالخصائص يكون مستحقًا ممن هم دونه الخضوع والتسليم له ويستحق أن يؤلهونه ويعبدونه..فقلت معلقاً على ما قال:أوافقك تماماً فهذا هو معنى الإله وهذه هي فلسفة الإلوهية..ثم قلت لصاحبي البوذي وأنا أحاوره:تصور لو أن كل واحد من البوذيين أصبح نسخة كاملة ومتطابقة مع ربكم بوذا ..؟ فهل يبقى له أتباع بوذيين في الأرض..؟!قال ضاحكاً:قطعاً لا..لأنهم سيكونون بوذا مكرراً..!قلت:أوافقك تماماً لأن الموضوعية لمعنى الإله تقضي أن تبقى فوارق معتبرة بين الخالق والمخلوق..ومن الموضوعية كذلك ألا تتعدد الآلهة. 

وسوم: 636