وبكره تشوفوا مصر.. عندما يُجسّدها الجوع!
"خِصْبٌ دَارٍ، تتسع النفوس به في الأحوال، ويشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، فيقل في الناس الحسد، وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا".
تلك هي القاعدة الخامسة التي وضعها الإمام الماوردي لصلاح حال الدنيا، حيث تطرق إلى الأمن الغذائي والأمن العام، وهو ما قعّد له القرآن الكريم في معرض الامتنان على قريش بتلك النعمة {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 – 4[.
ويأتي الأمن الغذائي في المستوى الأول من الاحتياجات البشرية، وفق هرم الاحتياجات الذي وضعه العالم النمساوي ماسلو.
*ومن أجل تحصيله، قامت حروب وثورات، وأريقت دماء وتناثرت أشلاء، بل يدخل الجوع ضمن منظومة الأسلحة الفتاكة التي تستخدمها الدول وفق انتهاج سياسة "صناعة الجوع"، وهو ما بحث فيه فرانسيس مور لابيه، وجوزيف كولينز من خلال دراسة اتخذت ذات العنوان، وتعرضا لخرافة النّدرة التي تدعيها الدول، فقالا: "كل الدلائل تشير إلى أننا سنزداد تعرضا لهذا الابتزاز يوما بعد يوم، لأن قدرتنا على إنتاج ما يكفي لغذاء أعدادنا المتزايدة تقل يوما بعد يوم، على الرغم من أننا نملك المال والأرض الشاسعة الصالحة للزراعة، وجيوش الفنيين والفلاحين".
لكن هذا الأمن الاقتصادي أو الأمن الغذائي لا يكون إلا "بأن يطمئن المسلم أنه لا يُحارب في رزقه لمجرد أنه مخالف أو معارض سياسي كما يقال اليوم" وفقا لتعبير الدكتور محمد العبدة في إحدى رسائل دروب النهضة.
*وكما أنه يُقال "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، فينبغي في المقابل أن يُقال "بغير الخبز لا يحيا الإنسان".
تلك المقدمة الطويلة التي قد يمل منها البعض، تقودنا رغما عنا للحديث عن الأزمات الاقتصادية في مصر، والتي لا تنال من أحد سوى من الفقير المعدوم، والذي يطلب منه زعيمه أن يجوع من أجل بناء مصر، وتغافل عن حقيقة أن الجياع لا يبنون.....لكنهم يثورون، وقد يأكلون لحم أو يكسرون عظم من جوّعهم.. فاحذروا ثورة الجياع.
*الوقوف على الحالة الاقتصادية المتردية في مصر لا يمكن فصله عن الحديث عن الانقلاب الذي باع الهواء للشعب المطحون ، في زجاجات عليها طابع "صنع في مصر".
مشروع قناة السويس، وآبار الغاز، ومليون وحدة سكنية، وعلاج الإيدز بأصابع (الكفتة)، كلها مشروعات قد سخرت من المواطنين وأفقدتهم الثقة في مستقبل أفضل، فاحذروا ثورة للجياع لا تبقي ولا تذر.
*خلال الأسبوع الماضي كنت أجهِّز تقريرا لوكالة الأناضول حول فشل السيسي في إدارة الدولة، وطلبتُ من المهندس حاتم عزام - أحد أبرز الرموز الثورية المعارضة للانقلاب، والنائب السابق بمجلس الشعب ونائب رئيس حزب الوسط – أن يدلي بدلوه في هذا الشأن.
وحقيقة الأمر، قد أتحفني بحشدٍ من التصريحات الهامة، ضاقت مساحة التقرير عن استيعابها، فآثرتُ أن ينتفع بها قرائي على الموقع، فاقتطفت من حديثه لمقالتي هذه، ما يتعلق بارتباط التدهور الاقتصادي بالانقلاب، بمعنى آخر: كيف أسهم الانقلاب في تدهور الاقتصاد المصري الذي ينذر بثورة جياع..
*استهلّ عزام حديثه باعتبار غياب الحل السياسي أحد أبرز أسباب التدهور الاقتصادي، حيث قال "السلطة الحالية أتت بشكل غير ديموقراطي، وكرست للانقسام المجتمعي، وقامت على تفرقة المصريين وبث روح الكراهية والفرقة المجتمعية، وصنفت طائفة من المصريين كإرهابيين أو مؤيدين لجماعة إرهابية أتى منها رئيس يحكم الدولة، وقتلت الكثيرين من المعارضين للانقلاب".
وأضاف أنه "في ظل هذا الانقسام المجتمعي الذي أحدثه الانقلاب، لا يمكن لأي سلطة تحقيق نمو اقتصادي، لأن هناك أزمة سياسية متجذرة وأزمة مجتمعية متجذرة".
ونظرا لأن ثورة يناير أظهرت حجم الفساد والمشكلات التي خلّفها نظام مبارك، رأى المهندس حاتم عزام أن التعامل مع هذا الفساد "يحتاج إلى تكاتف الشعب المصري لتحمل تبعات القرارات والسياسات الاقتصادية والتنموية، ولن يتأتى ذلك التكاتف في ظل الانقلاب العسكري الذي أتى على أكتاف حكم ديموقراطي ".
عسكرة الدولة أحد أهم العوامل التي حالت دون تلبية الحد الأدنى من تطلعات الشعب المصري، حيث "أصبحت مصر مؤسسة عسكرية وليست جمهورية ديموقراطية مدنية، تجلى ذلك في التواجد العسكري في الشارع المصري تحت مسمى مواجهة الإرهاب" هكذا تحدث عزام. ورأى أن أجواء العسكرة، والتشريعات الصادرة في عهد عدلي منصور بشكل غريب، كثير منها أدى إلى تحويل مصر لثكنة عسكرية، ما أدى إلى هروب المستثمرين، وإحجام الشركات الاستثمارية عن مزاولة أنشطتها في مصر، بسبب قوانين تؤسس لنزول الجيش".
وحمّل النائب السابق بالبرلمان المصري، المؤسسة العسكرية مسئولية التدهور الاقتصادي، بسبب توسع هذه المؤسسة في العمل في المجالات الاقتصادية، مشيرا إلى أنه "كان أحد الداعين في برلمان ما بعد الثورة، إلى مراقبة ميزانية الجيش، وأن يكون في مكانه الطبيعي كمؤسسة من مؤسسات الدولة وليست فوق الدولة".
وبالرغم من أن الجيش كان يعمل في المجال الاقتصادي في عهد مبارك، إلا أن عزام قد أكد "أن المؤسسة العسكرية تعمل في ظل الانقلاب بصورة فجة ومعلنة، وأشار إلى أن "المزايدات والمناقصات تأخذها شركات تابعة للجيش، وأن السيسي أصدر مؤخرا قوانين تعطي الجيش حق إنشاء الشركات ومشاركة المصريين والأجانب"
ويرى (عزام) أن هذا التدخل الفج للجيش في الأعمال الاقتصادية "يقتل المنافسة بين الشركات المدنية ويزيد من الفساد، ويجعل مراكز القوى الاقتصادية مرتبطة بالمؤسسة العسكرية وينهي فكرة حرفية المؤسسة ويجعلها منافسا لرجال الأعمال".
ومن أوجه إسهامات الانقلاب في تدهور الاقتصاد المصري، والتي ذكرها عزام، "اعتماد نفس سياسات ورجالات مبارك" وأتى برئيس الوزراء الحالي كمثال على ذلك، حيث أنه "كان وكيلا لوزير البترول سامح فهمي، والذي ارتكب جريمة تصدير الغاز لإسرائيل بخسارة كبرى للمصريين، وأضاع المليارات على الشعب" مؤكدا أن عنوان المرحلة الراهنة هو "الاستعانة بالدولة العميقة التي سقط فقط رأسها" لافتا إلى أن هذه المنظومة الجديدة "أسوأ من منظومة مبارك، لأنها تمارس الفساد الاقتصادي بصورة فجة وبخبرة أقل".
*سبب آخر للتدهور الاقتصادي تسبب فيه النظام الانقلابي ذكره عزام ، وهو "السعار الإعلامي الذي يوجه الجماهير، ويتم استغلاله للترويج للصوت الواحد، وهو صوت السيسي، ويُخوّن معارضيه بل مؤيديه، ويدمجهم في تهمة الطابور الخامس للغرب".
ورأى أن هذا التوجيه الإعلامي يقضي على أي فكرة "لإدارة حوار مجتمعي يُحسّن من الوضع الاقتصادي والتنموي، وهو التوجيه الذي أبرز اللواء عبد العاطي صاحب اكتشاف علاج فيروس سي بـ (الكفتة)، في الوقت الذي يحارب فيه علماء مثل عصام حجي"، "معدلات البطالة والركود والاقتراض، وكل المؤشرات الاقتصادية والتنمية الكلية والجزئية والتصينفات الدولية، تضع مصر في المراتب الأخيرة دون منازع، ولا تتقدم إلا في حالات الفساد الحكومي أو أحكام الإعدام" بحسب كلام عزام.
ولطالما كان الرأي العام المصري يضع المبررات للتدهور الاقتصادي في عهد الانقلاب، ويعزوه إلى الرئيس مرسي والإخوان، ويتذرع بمحاربة الإرهاب، لكن نائب رئيس حزب الوسط، يرى أن هذا الأمر "أصبح مُبتذلا لدرجة أن سخر منه الناس، حيث أن عامل الوقت والممارسة كشفا بطلان هذه الدعوى".
وأشار عزام إلى أن هناك "نوعا من السخط العام، حيث يشتم السيسي في وسائل النقل والمواصلات العامة، وهذا لم يكن قبل سنتين".
هذا التحول سببه كما يرى عزام هو "إدراك الرأي العام لحقيقة هذه المنظومة القمعية التي تقتل المصريين، وتفسد أكثر مما تصلح، وهذا التحول ظهر في مقاطعة الانتخابات البرلمانية، التي جاءت نسبة المشاركة فيها 2% و 4% من إجمالي الناخبين، في حين كانت المشاركة في انتخابات برلمان ما بعد الثورة 60 % من إجمالي الناخبين".
وأكد عزام أن الشعب المصري المسالم يتعرض حاليا للانضغاط، وأن "لحظة انفجاره باتت وشيكة، لأن وعيه قد تحول بعد ثورة يناير، وأيقن بقدرته على إسقاط الأنظمة"..
ورأى النائب السابق في البرلمان المصري "أن القمع والقتل يؤخر ثورة الشعب، لكن الأمر سيتغير بعدما يدرك أن المعركة ليست معركة إخوان مع مجتمع مصري، وإنما معركة شعب مع نظام إجرامي يحكم منذ أكثر من ستين عاما، وانقلب على رئيس منتخب، وعاد إلى الحكم على أشلاء الديموقراطية".
"الثورة لم تنته، نحن فقط في فصل أسود من فصول الثورة المصرية يناير بفعل الثورة المضادة، وهناك موجة ثورية قادمة لا محالة، وأدركنا أن قراءة كتب التاريخ وحدها لا تكفي للتعامل والتفاعل مع الثورات من الداخل، وأن مسار الثورة مسار طويل، وسقوط رأس النظام يخفي تحته قاعدة من الورم الخبيث، الذي يحتاج استئصاله إلى معركة شرسة نخوضها الآن، لكن تدهور الأحوال الاقتصادية سيكون أحد العوامل التي ستفجر الثورة المصرية" هذا ما قاله المهندس حاتم عزام في تتمّة حديثه..
وأختم أنا حديثي بأن الثورة المصرية تقرع الأبواب، وأنفاس الانقلاب باتت معدودة، وحمى الله مصر وأهلها من كيد الكائدين.
وسوم: العدد 646