شريعتنا الشاملة .. والقيم الفطرية المشتركة
حينما يتضمن الدين قوانين وشرائع تحدّد واجبات المسؤول، بصفته مُكلّفاً من الشعب وموظفاً لديه، وليس بصفته العائلية أو الطائفية.. وحين يكون القائمون على الحُكم أو الساعون إليه في أي بلد بمستوى الوعي المطلوب في فهم الدين والتدرّج في تطبيق أحكامه.. وحين لا يؤثّر استخدامُ مصطلحات الدين في عرقلة تجربة الحُكم الراشد ويؤلّب عليه.. فأهلاً بحُكم الدين بكلِّ وضوح!
أما حين يفتقر الدين لهذه القوانين المنظّمة للحياة بشمولها، أو يكون القائمون على الحُكم أو الساعون إليه، ليسوا في هذا المستوى لتطبيقها، وبالتالي ستشوِّه تجربتُهم صورةَ الإسلام كلّه..
فلا لزوم حينئذ ولا معنى لاستخدام اسم الدين أو شعاراته ومصطلحاته في الحُكم، ولنا في القوانين البشرية الوضعية المَبنيّة على العدل والتكافؤ، مندوحة عن أن نغامر بتشويه اسم الإسلام وصورته، إن كانت هذه القوانين الوضعية - رغم قصورها - متطابقة ومتلاقية معقوانين الدين، وتخدم جوهرَ مقاصدِ وغاياتِ أحكامه، دون معارضةِ ثوابته.
علماً أن كثيراً من القوانين الوضعية البشرية الغربية المعاصرة، والمتوافقة - في مُجملها - مع تعاليم الإسلام تحديداً، لا يلزم بالضرورة أن تكون مُستقاةً من الإسلام وقوانينه، وإنما جاء معظمها نتيجة تجربة بشرية موغلة في التاريخ، ظلماً واستبداداً وسفكاً للدماء، وحرباً للعلم والوعي!
تجربة مرّت بمراحل أليمة من محاولات الإصلاح عبر قرون، وأفضت أخيراً إلى هذا النموذج من أنظمة الحُكم، الذي له وعليه، باعتباره تجربة بشرية بعيدة عن التوجيهات العامة للهدي الرباني، ساهم في إبعادها أكثر عن بعض هذا الهدي، ردة الفعل المتطرّفة على تطرّف الكنيسة في العصور الوسطى!
إذن.. أسهم التاريخ بمراحله السوداء في أوروبا قبل العصر الحديث، في الوصول إلى هذه الباقة من القوانين الإنسانية المعتدلة - في المجمل -، دون أن يكون للإسلام - بالضرورة - علاقة من قريب أو بعيد بهذه القوانين.
تماماً كما ليس من الضرورة أن تكون رسالة الإسلام قد وصلت إلى موحّدٍ لله، توصّل إلى حقيقة خالقه بعد نشأة وثنيةٍ وحياة إلحادية، فطالما كان هذا الشخص دائمَ التفكير والبحث في أطوار حياته الدينية، وطالما كان حُرّاً ومحايداً في بحثه الدؤوب، لا تقيّده نوازع العصبية أو التقليد، فتوحيد الله سيكون نتيجة حتمية لبحثه، حتى لو لم يَسمع يوماً عن شريعةٍ سماوية ولو محرّفة.
وكما أن توحيد الله فطريّ في النفس التي لم تُمْسَخ، فإن مبادئ العدل والمساواة والتكافؤ والحرية الفكرية، مبادئ فطرية كذلك، تتفق عليها النفوسُ السّويّة من كلِّ الأديان، وقد تتوصّل إليها بالتجربة المتراكمة.
وفي هذا السياق.. تأتي دعوة الإسلام للاجتهاد في تطبيق المبادئ السياسية والاجتماعية، وتطعيمِها بالتجارب الإدارية البشرية، الخاضعة لظروف الزمان والمكان.
لهذا كلّه.. وضع الإسلام منظومة شاملة للحياة، قابلة للتطبيق وصالحة للتطوير، وفق هديه العام وتعاليمه المتوازية، وترك التفاصيل والجزئيات المتغيّرة لأهل الاجتهاد وفق ظروف زمانهم ومكانهم، بما يحقق مقاصده وغاياته في النهاية، لينعم الناس في ظل هذه المنظومة - بصفتها الإسلامية الصريحة أو بغيرها - بحياة دنيوية كريمة آمنة، تحقق غاية الاستخلاف، بالرقيّ الروحيّ القِيَمِيّ الأخلاقي، والارتقاء المادي الحضاري التقدّميّ.
وسوم: العدد 647