مطبخ الاعلام ...!

في احدى المحاضرات الجامعية قال محاضرنا اليوم سنتعلم كيف نكذب ونصدق كذبتنا حتى يصدقها الآخرين وتصبح حقيقة لا تحتمل الجدال.

ضحكت في داخلي، وقلت في خاطري وما شأننا بالكذب مع أننا مبدعين فيه..؟! ثم أخذ المحاضر يتحدث عن فن الكذب وأساليبه. وحقيقة الأمر، لم يكن مقنعاً ولا متمكنا مما يحاول ايصاله لنا، ربما لأننا نعي من فنونه أكثر مما تعلمه، غير أن الفكرة راحت تدور في رأسي من يومها، وترسخت حتى دخلتُ ما يسمى سوق العمل الصحفي، وبدأت ألاحظ الروابط المعقدة.

كنت أيضاً قد درست المهنية، الحياد والموضوعية، النزاهة والشفافية، وغيرها من النظريات التي تستنفذ كميات لا يستهان بها من الورق والحبر.

تلك المقدمة لا علاقة لها بالموضوع الذي سأتحدث عنه، غير أنها سقطت سهواً وتثاقلت عن حذفها، فأنا كما يقول أبي في وصفي "طيزك ثقيلة".

عذراً على اللفظ الخادش للحياء، لكني تذكرت هذا المصطلح وضحكت كثيراً عندما إلتقيت يوماً أحد المبتكرين الفلسطينيين الذي حصل على أكثر من براءة اختراع في مجال الالكترونيات، يومها سألته عن الدافع الأكبر الذي جعله يبتكر نظام التحكم عن بعد، فقال لي ضاحكاً "طيزي ثقيلة" وأحب الراحة.

مرة جديدة أكرر اعتذاري، غير أن هذه الجملة نسمعها كثيراً في حياتنا العامة، ولا نخجل منها إلا ببعض المحطات والأماكن، وأنا على ما يبدو محباً للفحش الذي يتم بالسر، فقناعتي تقول لا اشكال من اظهار السر لطالما أن بلادي لا سرّ فيها.

هذه الجزئية التي كتبتها بعد المقدمة لا علاقة لها بالموضوع الذي أنوي كتابته، سقطت سهواً، وما منعني من حذفها وصف أبي لي .......، لم أكتب الكلمة حتى لا أخدش الحياء العام مرة ثالثة فيقام عليّ الحد المجتمعي أو حتى الوطني...!

خلال دراستي الجامعية كنت أستغل يومي الجمعة والسبت في مهنة الطهي، حالي كحال كثير من زملائي، نعمل لنستطيع اكمال دراستنا، غير أنني كنت متميزاً عنهم لأنني في أيام الدراسة أدرس عن المطبخ الاعلامي وكيفية اعداد الوجبات الدسمة والصحية وحتى الضارة حتى نعرف كيفية تجنبها، وفي اليومين الأخيرين أنتقل لمطبخ البطن، أقصد الطعام الذي يُبقي أجسادنا على قيد الحياة، وبالتالي أيام الأسبوع السبع جميعها أبقى في "المطبخ"، مع بعض الاختلاف بكمية البهارات المستخدمة لكل وجبة.

الناس أذواق، أخذت هذه الفكرة عن أمي أولاً، ثم تعلمتها في آن واحد بالمطبخين السابقين، وبهما تعلمت أن البشر بعضهم يحبون الطعام مالحاً، وآخرين مالح جداً، وبعضهم ملحه متوسط، وآخرين قليل، والبعض الآخر لا يحبون الملح بتاتاً.

وتعلمت أيضاً أن الناس ليسوا جميعاً يحبون البهارات، ومن يحبها بالتأكيد كل واحد يحبها بنسبة مختلفة عن الآخر، وفي مطبخ الطهي، كنا نواجه أناساً يريدون كميات معينة ويأتي آخرون يريدونها بكمية مختلفة، وبنهاية المطاف نقدم ما يحلو لنا، وندّعي أننا استجبنا لمطلبهم جميعاً، وكلهم يصدقون.

أدركت مع الوقت أن هناك فئة ليست بالقليلة تتفلسف لمجرد الفلسفة مع أنها لا تدرك ما تقول، ثم تقتنع حتى ولو بالكذب والضحك عليها، المهم أن يقال لهم أننا فعلنا ذلك كما طلبتم ولأجلكم.

على سبيل المثال لا الحصر، أحدهم ذات مرة، جاء يصرخ عندما شاهدنا نقشر الثوم، وقال بعصبية لماذا الثوم، فقلت للبن، فقال لا نريده فأنا لا أحبه. قلت له لا يصح الأمر إلا به، فقال لكنني لا أريده، فقلت له حسنا: المهم رضاك. وتظاهرت بأني أتلفت الثوم، وابتسم وقال لا يصح إلا الصحيح. ثم غادر.

بعد مغادرته أعددنا اللبن مع الثوم، ثم ناديته وقلت له "تذوق اللبن، أتمنى أن يعجبك، مع أنني كنت راغباً بوضع الثوم"، تذوقه وقال:" هذا اللبن الصح، بلا ثوم بلا هبل"، ابتسمت وقلت له: بالنهاية أنت صاحب القرار.

صدق صديقنا الكذبة بأنه صاحب القرار، وفي المطبخ الاعلامي تعلمت كيف تعد الوجبات الاعلامية، وما زلت أتعلم في كل يوم وجبة جديدة، أو توابعها وما يزيّن المائدة التي تروق للمتذوقين.

في مطابخنا الاعلامية لا توجد آلية معينة لإعداد الوجبات، كل مطبخ يعد الطبخة التي يحبها أو تلك التي تعلمها من احدى المطابخ التي لا علاقة لها بالإعلام، وبالأغلب هي الأخيرة، ينفذ ما تعلمه، فيعد ويجهز دون زيادة أو نقصان، حتى أنه يرفض أية اضافات أو تغييرات حتى لا تفسد طبخته التي تعلمها عن ....!

في مطابخنا الاعلامية، الأيادِ المشاركة كثيرة للحد الذي كما يقول المثل الشعبي " اذا كثروا الطباخين حرقت الطبخة"، وكثيرة هي الوجبات المحروقة والمتفحمة أيضاً، لكن الغريب أن كثير يحبها كذلك، حتى وإن كان بعضهم يدرك أن الوجبة المحروقة تضر بخلايا الجسم، وتتسبب بالأمراض كالسرطان مثلاً، لكنهم يلتهمونها بنهم لا يتصور.

بالمناسبة ليست هذه فكرتي، وما ذكر أعلاه سقط سهواً هو الآخر، لكني أقل حيلة من حذفها، وفعلاً صدق أبي يوم قال ".......". قلت لن أقولها، وسأكتفي بما قاله أحد معارفي بينما كنت أتحدث إليه عن ضرورة مشاركته الأسرة في اعداد الطعام والواجبات المنزلية فقال :" مستعد أكل أيّ شيء يوضع أمامي، ومستعد أن أموت لو لم أجد من يحضر لي الطعام، المهم أن لا أعمل شيئا ولا يقال عني نعجة".

ولا تظنوا أني أقصد بالمثل الأخير واقع المجتمع والمطابخ الاعلامية التي معظم طهاتها تعلموا مهارات الطهي في مطبخ بعيد كل البعد عن المطبخ المهني.

وسوم: العدد 658