الأيّام كلها لا تفي والديّ حقّهما
يحتفي العالم في الثامن من آذار –مارس- كلّ عام بيوم المرأة العالميّ، وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه بعيد الأمّ، ويحتفل ملايين البشر بهذين اليومين، دون أن يتساءلوا عن بقيّة أيّام السّنة، فهل هي للرّجل، أم أنّ تخصيص هذين اليومين للمرأة يأتي مِنَّةً من الذّكور للاناث؟ ما علينا! وماذا سأقول أنا الذي رحلت أمّي –رحمها الله – في 22 يناير الماضي في هذا اليوم؟
ولكي أصدق مع نفسي قبل صدقي مع الآخرين، فإنّني أفتقد أمّي في ساعات يقظتي ونومي وكأنّني طفل رضيع، فأترحّم عليها وعلى الأمّهات كلّهنّ، ففراق الوالدين صعب جدا. عندما رحل والدي – رحمه الله- في نيسان 1992 انهمرت دموعي غزيرة دون إرادة منّي، وافتقدته ولا أزال وسأبقي أفتقده وأترحّم عليه، وها هي دائرة فَقْدِ الوالدين تكتمل بفقدان والدتي، وما بينهما فقدان والدتي الثّانية، المرحومة الحاجّة حمده زوجة أبي -رحمها الله-. ومع أنّ الموت حقّ، وهو نهاية حتميّة للأحياء كلّهم، إلّا أنّ فراق الوالدين صعب جدّا مهما بلغوا من العمر. لقد اختطف الموت أبي ووالدتيّ وهم في حدود التّسعين من العمر، بل إنّ والدي وأمّ الثّانية تجاوزا التّسعين بعامين، في حين رحلت والدتي قبل التّسعين بعامين.
فلماذا أفتقد والديّ بشكل دائم؟ وهل الأبناء كلّهم يفتقدون والديهم؟ وكيف يكون حال من افتقد والديه أو أحدهما وهو في سنّ الطّفولة؟
وفي اعتقادي أنّ أيّ انسان سويّ لا بدّ وأن يفتقد والديه أحياء وأمواتا. فالوالدان بحر حنان وعطف وتضحية لا ينضب، وهما يشقيان ويكدّان ويتعبان ويسهران في تحقيق الرّعاية التي يستطيعونها لأبنائهم. ولا يدّخران وُسْعا في ذلك. ومن باب ردّ ولو جزء بسيط من الجميل للوالدين، يأتي اطلاق "ستّ الدّنيا" على الأمّ، و"القدوة الأوّل على الأب. وهذا ما ينطبق على والديّ، فما قدّماه لي ولأخوتي وأخواتي يصعب حصره ماديّا ومعنويّا.
فوالدي وعمّاي الاثنان "موسى ومحمد" رحمهم الله ذاقوا مرارة اليتم من الأب، وكبيرهم لم يتجاوز الرّابعة من عمره، ولا أحد منهم يذكر ملامح والده الذي توفّي في العام الأوّل من العقد الأوّل من القرن العشرين، دون أن يترك صورة شخصيّة له. فكدّوا واجتهدوا تحت رعاية والدتهم المرحومة جدّتي صفيّة، ومارسوا العمل وهم أطفال قبل سنّ العاشرة ركضا وراء رغيف الخبز المرّ، واجتهدوا وتعبوا وشقوا وتزوّجوا وأنجبوا، واشتروا أراضي وبنوا بيوتا، وأصبح يشار إليهم بالبنان، وبقيت والدتهم التي ترمّلت وهي في بداية العشرينات من عمرها ترعاهم إلى أن توفّيت معزّزة مكرّمة عام 1946، وكانوا يبكونها دموعا حارقة كلّما أتوا على ذكرها، حتّى وفاة كلّ منهم.
وعدا عمّا تركوه من أراضي وعقارات وسمعة حسنة وذكرى طيّبة، فإنّه يسجّل لهم أنّهم حرصوا وهم الأمّيّون على تعليم أبنائهم.
وأستذكر المرحوم والدي وشدّة رعايته ومتابعته وسهره على كلّ واحد منّا. وتعود بي الذّاكرة إلى المرحوم والدي الذي بكى بحرقة عندما زارني للمرّة الأولى وأنا أسير في سجن الدّامون، على قمّة جبل الكرمل في حيفا عام 1969، كيف بكى بحرقة، واستذكر أيّام اعتقاله إداريّا لمدّة عام في سجن عكّا عام 1939، وقال، لقد طال بي العمر لأرى ابني معتقلا بنفس القانون الذي اعتقلت بناء عليه. أستذكره وهو يبكي بحرقة أحد أحفاده الذي توفيّ طفلا في الثالثة من عمره، وكان يتمنّى لو أنّ الله توفّاه هو بدلا من حفيده. أتذكّر مواقفه التي تحتاج مجلّدات لتدوينها، فلروحه الرّحمة ولاسمه الخلود.
أمّا المرحومة والدتي فإنّ القلم يعجز عن تعداد مناقبها وتضحياتها من أجلنا، فأستذكرها وهي توزّع حنانها ورضاها ومحبّتها علينا جميعنا، حتّى أنّ كلّ واحد منّا يخال أنّها تحبّه وتعطف عليه دون غيره! فلله درّ هذا القلب الكبير الذي وسع هذا الحبّ كلّه. وأزعم صادقا أنّنا لم نقصّر مع والدينا في شيء نستطيعه، وقد رحلوا وهم راضين عنّا، وهذا هو جزء من عزائنا فيهم. لذا فلن أقبل أن أحيي ذكراهم يوما في السّنة، فلهم السّاعات والأيّام والأشهر والسّنوات كلها، أترحّم فيها عليهم وهو أضعف الايمان.
وسوم: العدد 660