بوتين ثرثرة فوق أشلاء سورية و السوريين
( كانت فرصة مهمة ونادرة لتجريب أسلحتنا وتقنياتنا )
وكأن العالم ، بين الرئيسين القائدين ، طاولة بينغ - بونغ . فمن أسبوع نشر فيه "جيفري غولديبرغ " مقابلته المثيرة للكثير من الجدل مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى أسبوع وقف فيه الرئيس بوتين ، بعد إعلانه سحب قواته من سورية ، ليستقبل قادة عملياته العائدين المنتصرين ، فيقول فيه الكثير .
وكما كان حديث أوباما إلى مجلة اتلانتيك ادعائيا نرجسيا ؛ جاءت مفاجأة بوتين بإعلان الانسحاب الجزئي من سورية لإعادة خطف الأضواء من غريمه ( أوباما ) الذي لم يقصر في مدحه والثناء على لباقته وعلى دقة مواعيده ، في حين نال بلسان غير دبلوماسي من حلفائه الكثيرين .
لم يكن بوتين في موقفه أمام الرأي العام العالمي والروسي والسوري أقل غرورا ولا نرجسية من صديقه اللدود أوباما ، ولاسيما في رسائله إلى صناع السياسة الدولية والمحللين الاستراتيجيين الذين لم يتمكنوا بعد من تفهم أبعاد الخطوة ( البوتينية ) الرشيقة ، بإعلان انسحاب – وإن قيل إنه جزئي – في خضم عملية تفاوضية سورية واهنة لا أحد يرجو منها ولا لها ..
حتى معلقو البيت الأبيض والناطقون باسم الخارجية الأمريكية ما زالوا متحفظين حتى الساعة على إعطاء تفسيرات أو تحديد موقف من طبيعة القرار الروسي ، معلنين في كل مرة عن ترددهم في معرفة انعكاس هذا القرار ، وفي أي اتجاه يمكن أن يكون .
ومما يصعب قراءة القرار الروسي ، أو الموقف ( البوتيني ) بتعبير أكثر دقة ؛ أننا أمام حالة يختلط فيها القرار السياسي بالبروباغندا الإعلامية فلا يدري المرء على ماذا يعلق ، وعلى ماذا يعول ...
وإذا كان غزو سورية أو احتلالها أو التدخل فيها قرار بوتين الذي جاء مغطى بدعوة رسمية من بشار الأسد ؛ فإن قرار الانسحاب من سورية ، كان قرارا بوتينيا صرفا ، أصر بوتين على أنه لم يستشر فيه أحدا ولم يرجع فيه إلى أحد ، وهو يقصد بكل تأكيد المعتوه الذي لا يزال يلقب بالرئيس السوري .
ثرثرة طويلة أطلقها الرئيس بوتين أمام العالم وأمام شعبه وأمام الشعب السوري أيضا ، لم يكن لغير مخمور بخمار العظمة أن يقدم عليها ، فيتباهى أمام شعبه والعالم بالأباطيل وبالمخزيات ولا يكاد يميز بين ما يقال وما لايقال ...
فهو ، كما زعم ، قد أمر بالانسحاب من سورية لأن الحرب التي خاضها قد حققت أهدافها !!. وهو لا يتوقع أن يجرؤ أحد على سؤاله ، عن أي أهداف يتحدث ؛ عن الأهداف التي في عقله ونفسه أو عن الأهداف الاستراتيجية التي أعلنها مع عملية الغزو ، والتي تحددت بالنصر على الإرهابيين ، وليس على أطفال المدارس والسكان الآمنين الذين قتل منهم وهجر منهم أضعاف أضعاف ما أصاب من الآخرين.
ومع تقرير بوتين إنه انسحب من سورية لأن الحرب قد حققت أهدافها ؛ يعود ليقول بأنه انسحب لأن البقاء في سورية لم يعد يستحق كلفته !! أي أنه تبين في دراسة متأخرة أن الكلفة في غزو سورية أكبر من الجدوى . وهي حقيقة راهن عليها خصومه وأعداؤه منذ اليوم الأول ، ولكنه لكي لا يسمح له أن يشمتوا به ، وهو يعلم أنهم سيقولون إن واقعه الاقتصادي المنهار هو سبب انسحابه ، يلتف من جديد ليؤكد أن العملية برمتها ، بما فيها تأسيس قواعد حربية جديدة لمنظومة إس 400 ومنظومة (بانتسير ) ، وتجريب صواريخ بعيدة المدى من شواطئ بحر قزوين إلى شرق المتوسط ، وتحريك البوارج ، وأسراب الطائرات ، وتنفيذ تسعة آلاف طلعة جوية استخدمت فيها آلاف الأطنان من أنواع القنابل العنقودية والفراغية المحرمة دوليا ، كل هذا لم يكلف وزارة الدفاع الروسية كما يعترف بوتين إلا أقل من نصف مليار دولار ، وليس كما يقول أعداؤه عشرات المليارات من الدولارات .
إن تخفيض كلفة العملية ( الدون جوانية ) لها أسبابها المتعددة ومنها تهدئة لواعج الجماهير الروسية ، التي تعاني من الحاجة ما لا يحس به القيصر الصغير . ولم تكن تلك هي الرسالة المطمئنة الوحيدة التي توجه بها بوتين للرأي العام الروسي لشراء رضاه ، فقد أضاف مؤكدا بأن الحرب التي خاضها في سورية قد كانت نوعا من حرب الدفاع الوطنية لكي لا يصل الإرهاب إلى بلاده ، وهي إشارة لها مغزاها الإيجابي والسلبي في عقول وقلوب الكثير من الروس .
وفي إشارة ثالثة هي الأشد خطورة ، والأكثر جلافة وتجردا من المعاني والقيم الإنسانية يأتي اعتراف بوتين الخطير، الذي يجب أن يحتسب كجريمة حرب حقيقية ، بالاعتراف بأن مغامرته في سورية ( مكنت روسية من تجربة أسلحة وتقنيات حربية كثيرة لم يكن من الممكن القيام باختبارها في ظروف أخرى ، لأنها كانت فرصة نادرة ومهمة أن نختبر في ميدان المعركة تقنياتنا ) . نضع هذا الاعتراف أو الإقرار الخطير إزاء احتجاجات الإنسان المعاصر على إجراء التجارب على فئران المختبرات رحمة بها وإشفاقا عليها .
ماذا بقي بعد من أركان الجريمة التي لا يناقش فيها المجرم بوتين ولا المتواطئون معه والساكتون عليه ، وإنما يناقش فيها بان كيمون ومنظمات حقوق الإنسان وبقية البشر من هؤلاء الذين يصر البعض على وصفهم بالسوريين.
وسوم: العدد 660