حلب الشهباء

• وُلِدتُ في حلب، وعشتُ فيها خمس عشرة سنة، وفارقتُها خمسًا وعشرين سنة، ثم عدت إليها زائرًا في فصل الصيف عدة سنوات، ثم كان الفراق الثاني...

♦♦♦

• زار حلبَ[1] علماء كبار، ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد أملى في جامعها الكبير (اﻷموي) مجالس عدة، وصلتْ إلينا، وتزوَّج من أهلها امرأة أحبّها كثيرًا، وقال فيها حين عاد إلى القاهرة:

رحلتُ وخلّفتُ الحبيبَ بداره 

برغمي ولم أجنحْ إلى غيرهِ ميلا 

أشاغِلُ نفسي بالحديث مُعلِلًا 

نهاري، وفي ليلي أحنُّ إلى ليلى 

ثم استقدمها إليه.

وألّف عن رحلته إليها كتابًا سمّاه (جلب حلب)، لانعرف له - مع اﻷسف - نسخة.

وقد قمتُ بجمع أخباره في حلب في مقالٍ بعنوان: (ابن حجر في حلب)، وحددتُ المكان الذي كان نازلًا فيه، إلى غير ذلك من الطرائف.

♦♦♦

• وممن دخلها بعد الصحابة: ابن اﻹمام الشافعي، وكان قاضيًا فيها.

ومنهم: ابن خالويه، وأبو علي الفارسي، والخطيب البغدادي، والعماد الأصفهاني، وموفق الدين عبداللطيف البغدادي - وأُبيعتْ مكتبته فيها-، والحظيري، وابن مالك، ويوسف بن خليل، وابن النقيب، والصفدي، وسعدي الشيرازي، وابن ناصر الدين الدمشقي، والسويدي.

ومن المتأخرين طاهر الجزائري، وعبدالحكيم الأفغاني، وبدر الدين الحسني، وعبدالوهاب الحافظ (دبس وزيت)، وعلي الطنطاوي، وأمجد الزهاوي، وعبدالعزيز سالم السامرائي، ومعروف الرصافي، وخليل الخالدي، وعبدالرحمن بن زيدان، وأبو الحسن الندوي، وحبيب الرحمن الأعظمي، وعبدالغني الدقر، وغيرهم كثير...

♦♦♦

رحل إلى حلب طلابٌ كثيرون، ومنهم مَنْ صار علمًا كبيرًا كالإمام أحمد بن حنبل، وقد قال: كتبتُ عن مبشر الحلبي خمسة أحاديث بمسجد حلب[2].

ومنهم ابن خلكان اﻹربلي، وقد ذكر حلبَ في (وفيات اﻷعيان) في مواضعَ كثيرة استخرجتُها مُعنونًا لها...

وقد بحثتُ عن المكان الذي عاش فيه -وهو مدرسة القاضي بهاء الدين ابن شدّاد- حتى توصلتُ إليه[3]...

وجمعتُ مادة كثيرة لمقال بعنوان: (ابن خلكان في حلب).

وممن رحل إليها: أبو العلاء المعري، وابن النجار البغدادي، وعبدالحليم ابن تيمية، والدمياطي، والذهبي، والزركشي، والبقاعي، والسخاوي، وغيرُهم كثير...

♦♦♦

• أحمدُ اللهَ أنني كحلتُ طرفي بزيارة مساجد حلب، ومعاهدها، ومدارسها، ومراقدها، وآثارها قبل أنْ يُدمَّر الكثير منها في المحنة الفاجعة التي نزلتْ بها في هذه السنوات.

• ولي فيها:

وفي الشهباء آثارٌ خوالدْ 

مساجد أو مدارس أو معاهدْ 

تُنادي الزائرين بملء فيها: 

كذا كنّا، وتلكَ هيَ الشواهدْ 

♦♦♦

• دُمِّرتْ حلب مرات عدة، ومن ذلك في هجوم الروم في عهد سيف الدولة، واجتياح هولاكو، ثم في اجتياح تيمورلنك، ولم تدمر بعدهم مثل هذا الدمار الذي حلَّ بها اﻵن، إلا ما كان من الزلازل.

♦♦♦

• مِنْ أعظم تواريخها إلى القرن السابع الهجري: (بغية الطلب في تاريخ حلب) للعلامة الكبير الصاحب ابن العديم، ولم يصل إلينا كاملًا، وقد طُبع طبعة دون قدره.

وابنُ العديم شخصية حلبية كبيرة من أسرة علمية ممتدة، وليت باحثًا نبيهًا يَكتب عن هذه اﻷسرة.

وقد غادر ابنُ العديم حلب قبيل الاجتياح المغولي، إلى القاهرة، ثم عاد بعد الاجتياح، وحين رآها مُدمَّرة بكاها بقصيدة باكية، وعاد إلى القاهرة، وكأنه لم يستطع أن يبقى فيها، وتوفي بعد عودته بقليل...

ودُفن في جبل المقطم، ولا يعرف قبره اليوم.

♦♦♦

• من أبرز ما كُتب عن حلب في عصرها الأخير (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء) للشيخ المؤرِّخ المسند محمد راغب الطباخ، في سبعة مجلدات، و(نهر الذهب في تاريخ حلب) للشيخ كامل الغزي، في ثلاثة مجلدات، وبقي مجلد رابع للتراجم لم يُطبع.

♦♦♦

• ممّا يَلفت النظر أن الذي حثَّ ابن العديم على وضع هذا التاريخ هو ملك حلب الظاهر غازي بن يوسف (صلاح الدين) اﻷيوبي.

كما أن الذي حثَّ ابنَ عساكر على تبييض (تاريخ دمشق) هو نور الدين محمود بن زنكي.

♦♦♦

• دُمِّر قبر الملك الظاهر غازي في تدمير (المدرسة الظاهرية الجوانية)، وهي مدرسة بدأ بإنشائها قبل وفاته، ثم نقل قبرُه من القلعة إليها، وتُعرف هناك بالسلطانية...وتقع أمام باب القلعة...

وله مدرسة أخرى تُعرف بـ (الظاهرية البرانية) لأنها بُنيتْ خارج اﻷبواب، وقد ظلتْ قائمة، ورُمِّمتْ في السنوات الأخيرة على أيدي التجار، وجُعِلتْ مدرسة لتعليم القرآن وتحفيظه، وزرتُها مرارًا، ولا أدري أخبارها اﻵن.

♦♦♦

• هناك كتبٌ عدة تُنسب في عناوينها إلى حلب ﻷنها كانت أجوبة على أسئلة من أهلها، أو لسببٍ آخر، وهذه الكتب ﻷبي علي الفارسي، والشريف المرتضى، والطوسي، والعكبري، وابن العربي، وابن قيّم الجوزية، وتقي الدين السبكي، والسيوطي، وابن المبرد...

♦♦♦

• من رجال عصر الملك الظاهر: الشيخ السائح أبو الحسن الهروي صاحب (اﻹشارات إلى معرفة الزيارات)، وقد دُفِنَ في مدرسته خارج (باب المقام) على طريق دمشق (سابقًا).

وقد دثرتْ المدرسة، ولم يبقَ سوى قبره، وقد بحثتُ عنه ووصلتُ إليه، وعدتُ بعد مدةٍ فرأيتُه قد أزيل، ورأيتُ مسجدًا يُبنى مكانه، وحجارةُ القبر على طرف، وسألتُ بعضَ الناس عنه فقال: لم نجد في القبر شيئًا!! وكأنهم يسوِّغون بذلك عملهم. وعجبًا لدائرة اﻷوقاف واﻵثار كيف أذنتا بذلك، فوجودُ القبر مهمٌّ جدًا في تحديد معالم تلك المنطقة وخططها، وهي منطقة مهمة جدًا.

♦♦♦

• عاش في حلب في آخر عمره ياقوت الحموي، وأنجز أهمَّ كتابين له وهما: (معجم البلدان)، و(معجم اﻷدباء)، وأهدى اﻷولَ إلى الوزير القفطي، وأثنى عليه ثناء بليغًا بالغًا.

ولكن القفطي حين ترجم ياقوتًا في (إنباه الرواة) نال منه نيلًا سيئًا جدًا!.. وما زلتُ أعجبُ من ذلك.

ياقوت عالم أديب مؤرِّخ جليل...وقد تُوفي في حلب، ولم يَذكر أحدٌ أين دُفِن، ولا كيف، ولا يُعرف له اليوم أثر ولا خبر!

وكنت أطمح أنْ يُحيى ذكره بندوةٍ عنه هناك، في الندوات التي بدأ مديرُ المكتبة الوقفية اﻷخ العزيز الدكتور محمود مصري بإقامتها، ولكن المحنة قطعت السبيل...وسبحان الله فإنَّ ياقوتًا لم يكن محظوظًا في حياته، وظلَّ كذلك بعد وفاته.

وكتابه (معجم البلدان) لم يُحقق تحقيقًا يليقُ بمكانته.

وكتابه (معجم اﻷدباء) لم يصل إلينا كاملًا، وهذه خسارة كبيرة، ولم يُطبع طبعة لائقة، حتى طبعة اﻷستاذ إحسان عباس - رحمه الله -، وقد وقع له فيها وهمٌ مستغربٌ.

♦♦♦

• كان في حلب مدارس علمية وخزائن كتب كثيرة، وقد وصل إلينا مخطوطٌ بعنوان (المنتخب ممّا في خزائن الكتب بحلب)، فرغ منه جامعُه في اليوم العاشر من شهر رمضان سنة (694هـ) وفيه (914) كتابًا من غرائب الكتب ونوادرها، والقائمةُ تُبيِّنُ ثراء حلب المدهش في ذلك الوقت.

ومن خزائن حلب خزانة القفطي، وتقدر قيمتها بخمسين ألف دينار!

♦♦♦

• تتبعتُ المخطوطات الحلبية المهاجرة طوعًا أو كرهًا، واجتمع لي من ذلك قدرٌ جيدٌ.

ومن ذلك:

نسخة كتاب (الجامع في آداب الراوي وأخلاق السامع) للخطيب البغدادي.

وقد أقامتْ هذه النسخة في حلب مئات السنين، ثم آلتْ في القرن الماضي إلى مكتبة البلدية في الاسكندرية في خبرٍ معروفٍ.

ومن مخطوطات حلب:

(نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب) لابن سعيد.

وهو اليوم في جامعة (توبنغن)! وقد حظيتُ بالنظر فيه وتقليبهِ، وكان يُظَنُّ أنه فُقِدَ منها...

♦♦♦

• يُعَدُّ الجامع الأموي الكبير بحلب روحَ المدينة ومركزَها العلمي، ووجهَ جمالها البديع، ولهذا الجامع تاريخ طويل عريض، وكنت أودُّ أن يُقام مؤتمرٌ وندواتٌ علميةٌ موسعةٌ عنه، وبدأنا طرح الأفكار حول ذلك، ثم حصل ما حصل...

وقد أصابه الآن من الدمار جانبٌ كبير، وأُسقطتْ مئذنته التاريخية الشامخة، ويُذكرمن فظائع التتار أنهم أحرقوا منبره[4]!

وهو الآن مُعطل من الجمعة والجماعة والله المستعان[5].

♦♦♦

• من مفاخر حلب (البيمارستان النوري) نسبة إلى نور الدين محمود بن زنكي.

وقد وصلتْ (وقفيتُه) إلى يد الشيخ محمد مطيع الحافظ، وقام بنشرها مشكورًا، مع أنَّ جلَّ اهتمامه بدمشق... ورأينا فيها ما يدعو إلى الاعتزاز، وهو النص على أنْ يُعامَلَ مَنْ يُتوفى فيه (أي في هذا البيمارستان) وفق معتقده[6]...

إذن العلاج للمسلمين وغيرهم...

وإذا ماتوا فيه تُراعى معتقداتهم...

تلك هي أخلاق المسلمين وسماحتهم...

وكان في هذا البيمارستان قاعة للمصابين باﻹسهال، اكتُشف أنَّ في زاوية كلِّ مريضٍ فيها مكانًا خاصًا لقضاء الحاجة... لكل مريض على حدة، ﻷنَّ مرضه لا يَحتمل انتظارًا!!

♦♦♦

• من أبواب حلب القديمة القائمة إلى اﻵن: (باب النصر) وكان يُسمّى باب اليهود، فجدَّده الملك الظاهر غازي، وغيَّر تسميته إلى هذا الاسم... ونعم ما فعل.

ومن أبوابها (باب العراق)، سُمِّيَ بذلك ﻷنَّ المسافرين إلى العراق يخرجون منه، وكان يقع في المحلة التي وُلِدتُ فيها، ومنها خرجتُ إلى العراق....

ومنها (باب الجِنَان) و(باب الفرج) وقد قال عمر اللبقي:

فعجْ ولجْ وتأمَّلْ بلدةً جَمَعَتْ ♦♦♦ "بابَ الجنانِ" و"بابَ النصرِ" و"الفرجِ"

وقال يوسف بن حسين الحسيني:

قل لمَنْ رام النوى عن حلبٍ 

ضاق فيها ذرعُه مِنْ حرجِ 

علل القلبَ بسكنى حلبٍ 

إنَّ في الشهباءِ "بابَ الفرجِ" 

♦♦♦

• في حلب نهرٌ هو (نهر قُويق) كان الحلبيون يشربون منه، ويتنزهون على ضفتيه، وله في الشعر ذكرٌ، ومن ذلك قول أبي فراس الحمداني:

الشام لا بلد الجزيرة لذتي ♦♦♦ وقويقُ لا ماء الفرات منائي

وقول محمد بن حرب الخطيب:

لقد طفتُ في الآفاق شرقًا ومغربًا 

وقلّبتُ طرفي بينها مُتقلِّبا 

فلم أرَ كالشهباء في الأرضِ منزلًا 

ولا كقويقٍ في المشاربِ مَشربا 

وكان له عند أهلها منزلة، أشار إلى ذلك أبو العلاء المعري بقوله:

فقويقٌ في أعينِ القومِ بحرٌ ♦♦♦ وحصاةٌ منهُ نظير ثبيرِ

♦♦♦

• مِنْ أعظم آثار النساء وأوقافهن مجمع (الفردوس) العظيم في حلب، الذي أنشأته الملكة الصالحة (ضيفة خاتون) زوجة الملك الظاهر، التي وُلِدتْ في قلعة حلب، وزُفَّتْ فيها إلى الظاهر، وتُوجتْ فيها ملكة، ودُفنتْ فيها...

زرتُ هذا المجمع مرارًا... وقسمٌ منه مغلقٌ استطلعته من السطوح...

وهو يشتمل على مسجدٍ، ومدرسةٍ، وخانقاه، ومطعمٍ، ومدفن.

وفي المسجد محرابٌ من أجمل المحاريب.

♦♦♦

• للشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي (1179-1264هـ) (منظومة) في (756) بيتًا ذكر فيها أنبياء وعلماء وصلحاء دُفنوا في حلب، وشرحها الشيخ عبدالرحمن الأويسي في كتابٍ سمّاه "نخبة من أعلام حلب الشهباء من أنبياء وعلماء وأولياء" طُبِعَ سنة (2003م) في (880) صفحة.

♦♦♦

• للأديب محمد خير الدين الأسدي (1900-1971م) (موسوعة حلب المقارنة) تتبَّع فيه لغة حلب في كلامها وأمثالها، وردَّها إلى أصولها، وهو كتابُ لغة وتراث شعبي، بذل فيه جهدًا كبيرًا، وتتبَّع تتبعًا مدهشًا، وقد أعدَّ هذه الموسوعة للطباعة ووضع فهارسَها الأستاذ الأديب الشاعر المُحقِّق محمد كمال، وطبعتها جامعة حلب، وجاءتْ في سبعة مجلدات، ولا يستغني عنه دارسٌ، ولا مؤرخٌ، ولا باحثٌ، ولا قارئ مستمتع.

♦♦♦

• كُتِبَ عن حلب في القديم والحديث الكثير، ومن ذلك (رونق حلب) لأبي الهدى الصيادي، وقد صدر للدكتور شوقي شعث والأستاذ فالح بكور كتابٌ جامعٌ لكثيرٍ ممّا كُتِبَ عنها من القرن الثالث إلى القرن الرابع عشر الهجري، بعنوان: (حلب في كتب البلدانيين العرب)، في (263) صفة.

وللإعلامي عامر رشيد مبيض (عروق الذهب فيما كُتب عن حلب: المؤلفات المطبوعة والمخطوطة)، وللباحث مختار فوزي النعّال (ينبوع الذهب فيما كُتب عن حلب).

♦♦♦

• في حلب جهات نشر رسمية وخاصة كثيرة، ومنها "معهد التراث العلمي العربي" في جامعة حلب، وقد أصدر كتبًا مهمة، ومنها "اتحاد الكتاب العربي".

♦♦♦

• وبعد: فرحم الله القائل[7]:

وما أمتعتْ جارَها بلدةٌ 

كما أمتعتْ حلبٌ جارَها 

هي الخلدُ تجمعُ ما تشتهي 

فزرْها فطوبى لمَنْ زارَها

[1] لأنستاس ماري الكرملي مقالٌ بعنوان: "معنى حلب الشهباء" في مجلة المشرق 10 (1907) ص 856-858.

[2] يعني الجامع الكبير.

[3] تقع هذه المدرسة في موقع المسجد المسمى بمسجد أبي حنيفة في محلة جنينة الفريق تحت القلعة.

[4] انظر: تذكرة النبيه (1 /59).

[5] في مجلة العربي، العدد (575) الصادر في رمضان سنة (1427هـ) تحقيق عنه بعنوان: (سلام إلى الجامع الأموي الكبير) ص 104- 113.

[6] ونصه: (ويجبُ على المتقلد لهذا أنْ يتفقد الكبير والصغير... فمَنْ درج منهم بالوفاة يُجهزه بما يليق به من دينه واعتقاده، ليُجزى عليه يوم معاده).

[7] هو كشاجم أو أبو بكر الصنوبري، انظر: إعلام النبلاء (3 /448).

وسوم: العدد 674