الجزائر : إرث لا ينتهي من الآلام والمشكلات مع فرنسا
منذ أن انتزعت الجزائر استقلالها بدم أبنائها في 5 يوليو/ تموز 1962؛ والإرث الاستعماري الفرنسي بما حواه من آلام ومشكلات يتفجر بين الطرفين من حين إلى آخر ؛ لشعور الجزائريين بأنهم لم ينتصفوا من فرنسا اعتذارا وتعويضا عما ألحقته ببلادهم من قتل وتخريب طوال 132عاما . أحدث تفجرات هذا الإرث المأساوي الدامي ما كشفته " الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان " من أن ضحايا الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر 10 ملايين شهيد ، وليس مليونا ونصفا مثلما هو شائع وشبه مستقر . وتستند الرابطة في رقمها الكبير إلى أقوال مؤرخين بينهم المؤرخ الفرنسي جاك جورك . ويؤلم الجزائريين دائما أن فرنسا تأبى بقوة وصلف الاعتذار والتعويض عن ماضيها الاستعماري الإجرامي في بلادهم ، ولا تفعل مثلا ما فعلته إيطاليا مع ليبيا حين اعتذرت في 30 أغسطس / آب 2008 عن 40 عاما من سيطرتها على ليبيا ، ووافقت على دفع 5 مليارات دولار في 25 عاما تعويضا لليبيين عن تلك السيطرة الظالمة التي استهدفت ضم ليبيا إلى إيطاليا ، وأنهاها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية . فرنسا تأبى أن تحذو حذو إيطاليا على ضآلة تعويضها وطول أمد تسديده . فرنسا هذه ، هي التي حرصت في معاهدة فرساي التي وقعت في28 يونيو / حزيران 1919بعد الحرب العالمية الأولى على وضع إقليم السار الألماني تحت سيطرتها 15 عاما لتستغل حديده وفحمه لتعويض ما أنزلته بها ألمانيا في الحرب من الخسائر التي لا اعتبار لها قياسا بما أنزلته فرنسا بالجزائر من قتل وتدمير صاحبهما إصرار لا يلين على محو شخصية الجزائر العربية الإسلامية لجعلها امتدادا جغرافيا وثقافيا لفرنسا . وادعاء فرنسا " فرنسية الجزائر " لم يكسب أهلها _ في بلادهم _ أي حقوق مدنية وإنسانية ، ما عنى أنها كانت تريد البلاد لا العباد . قاتل الجزائريون دفاعا عن فرنسا في الحربين العالميتين ، وكانت تلقي بهم في طليعة قواتها ليكونوا دروعا أولية لها في المعارك ، واستشهد منهم في الحرب العالمية الأولى 175 ألفا ، وفي الثانية 150 ألفا ، وفرنسا تعترف بمشاركتهم في الدفاع عنها إلا أنه ليس الاعتراف الذي يوجب حقوقا لبلادهم وتعويضات ، وترى ما قاموا به واجبا لها عليهم . وظن الجزائريون بناء على وعود غامضة من فرنسا في الحرب العالمية الثانية أن دفاعهم عنها سيشجعها على منحهم الاستقلال ، فخرجوا في 8 مايو1945 للاحتفال مع بقية العالم بالانتصار على دول المحور ، وطالبوا في مظاهرات الاحتفال بالاستقلال ، فجاوبتهم القوات الفرنسية بالقتل ، واستشهد 45 ألفا ، وتشير إحصائية أخرى إلى أن الشهداء كانوا 70 ألفا . وفي ستينات القرن الماضي اتخذت فرنسا الصحراء الجزائرية مكانا لتجاربها النووية ، ويقول الباحث الفرنسي برينو باريلو إن فرنسا جعلت 42 ألف جزائري مع عدد من أسرى جيش التحرير فئرانا لتلك التجارب . لماذا ترفض فرنسا الاعتذار والتعويض ؟ لاقتناعها بأن الجزائر لا تستطيع فرضهما عليها أو حتى فرض الاعتذار وحده مع أن الاثنين في الجوهر مرتبطان . من يعتذر يقر بأنه مذنب ، ومن حق ضحية ذنبه أن يطالبه بتعويض مادي .وفي القضية جانب " قانوني " ؛ يقول محمد مسلم في مقال بعنوان " فرنسا ترفض الاعتذار للجزائر وتؤكد أنه ليس هناك ما يستدعي الندم " في عدد 3 سبتمبر / أيلول 2008 من " الشروق " الجزائرية : " ... ويرجع مؤرخون مختصون في العلاقات التاريخية بين الجزائر وفرنسا ، وفي مقدمتهم المؤرخ الجزائري المولد والفرنسي الجنسية بنيامين سطورا ؛ الهروب الفرنسي للأمام فيما يتعلق بهذه القضية إلى وقوف باريس على أرضية قانونية صلبة تحميها من أي موقف تقدم عليه الجزائر بهذا الخصوص ، وذلك استنادا إلى اتفاقية إيفيان التي غلقت الباب أمام مطالبة أي طرف بتبعات الاستعمار الذي استمر 132 عاما " . ونستدل مما ورد في قوله على أن فرنسا بخبرتها الطويلة في هذا النوع من القضايا احتاطت " قانونيا " ضد المطالبات الجزائرية المستقبلية ، وأن جبهة التحرير وجيش التحرير الجزائريين قد صرفهما التلهف على الاستقلال _ وهو تلهف مفهوم ومعذور في ذلك الحين _ عن التفكير في أي شيء سواه . كانت غايتهما الكبرى أن يزول الاحتلال الإلحاقي وأن تستقل البلاد . والآن ليس لدى الجزائر وسائل ضغط تكفي لإجبار فرنسا على الاعتذار والتعويض أو الاعتذار وحده ، وهو أقرب منالا ولو نظريا مع إمكان أن تشترط فرنسا على الجزائر الاكتفاء به دون تعويضات مادية . وهذه حال كثير من الدول والشعوب العربية التي فاضت جرائم الاستعمار الأوروبي والعدوان الأميركي والصهيوني عليها . من يجبر بريطانيا على تعويض الفلسطينيين عن تسليم وطنهم للحركة الصهيونية ؟! ومن يجبر أميركا على تعويض العراقيين عن تحطيم دولتهم وتمزيق مجتمعهم ووطنهم وقتل أكثر من مليون عراقي وتشريد الملايين ؟! ومن يجبر أطراف المؤامرة الدولية الكبرى على تعويض الشعب السوري عن قتل مئات الآلاف من أبنائه وتشريد الملايين منهم داخليا وخارجيا ؟! ومن يجبر إسرائيل على تعويض الشعب الفلسطيني عن سرقة وطنه وقتل ابنائه ووأد حياتهم ؟! الضعف العربي في أطواره التاريخية الحديثة أغوى المعتدين على جرائمهم ؛ فكيف يجبرهم على تعويض ضحاياهم عن تلك الجرائم ؟! في مؤتمر يالطا في 11 فبراير / شباط 1945الذي ضم قادة الاتحاد السوفيتي وأميركا وبريطانيا ؛ قرر المؤتمرون الثلاثة أن تسلم ألمانيا التعويضات المطلوبة منها " حسب الأوليات إلى الدول التي تحملت عبء الحرب الأساسي والتي تحملت القسط الأكبر من الخسائر التي أسهمت في الانتصار على العدو " . ومدلول ما قرروه أن التعويضات لا تشمل من تقول الحركة الصهيونية إن ألمانيا قتلتهم من اليهود ، ومع ذلك الإغفال لهم في قرارات المؤتمر استطاعت تلك الحركة وأنصارها في الغرب أن تأخذ من ألمانيا تعويضات مالية هائلة أسهمت في بناء إسرائيل في سنواتها الأولى التي ميزها فيها فقرها وضعفها الاقتصادي إلى حد أن بلغ عدد العاطلين فيها عن العمل عشية حرب 1967 ؛ 90 ألفا ، وهو رقم كبير جدا في دولة كان عدد سكانها مليونين ونصف المليون حينئذ . باختصار ، الأقوياء يحمون أنفسهم ، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى اعتذارات أو تعويضات من أحد ؛ لأنه لم يعتدِ أحد عليهم ، وحال العرب خلاف هذا .
وسوم: العدد 676