أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي

الإسلام في أفريقيا

الحلقة (20)

فقيه القيروان

فقيه القيروان في وقته لا ينازعه في زمانه أحد في علومه. كان فاضلاً صالحاً متواضعاً في نفسه، قليل الهيبة للملوك في حق يقوله، لا يخاف في الله لومة لائم، مبايناً لأهل البدع ومعادياً لهم، حافظاً للحديث والفقه. تجشم ابن فروخ عناء السفر والترحل وأخطار الطريق طلباً للعلم وسعياً للمعرفة، فقد رحل إلى المشرق فسمع من جماعة من العلماء، منهم زكريا بن أبي زائدة، ومالك، وسفيان الثوري، وغيرهم. وكان اعتماده على مالك، لكنه يميل إلى طريقة أهل النظر والاستدلال. وكان مالك يكرمه ويرى له فضلاً ويقول لأصحابه: وهذا فقيه أهل المغرب. ويقال: إن مولده كان بالأندلس سنة (115هـ/733م)، ثم سكن القيروان وأوطنها، ثم رحل إلى المشرق فلقي نخبة علمائه وكبار فقهائه فنفعه الله عز وجل بهم.

نظر سحنون في رسالة مالك إلى ابن فروخ - وكان ابن فروخ قد كتب إلى مالك يخبره: إن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلاما في الرد عليهم - فكتب إليه مالك في الرسالة: إنك إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل أو تهلك. لا يرد عليهم إلا من كان ضابطاً عارفاً بما يقول لهم، ليس يقدرون أن يعرجوا عليه، فإن هذا لا بأس به. وأما غير هذا فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيتعلقوا به ويزدادوا تمادياً على ذلك.

قال عبد الله المالكي: أشفق مالك، أن يكون ذلك سبباً لإظهار طريقة الجدل بإفريقية فيؤدي ذلك إلى أسباب يخاف من غوائلها ولا يؤمن شرها، فأراد حسم الباب.

وبعد أن نهل ابن فروخ ما وفقه الله إليه من العلوم في المشرق رجع إلى إفريقية فأوطنها وأقام بها يعلم الناس العلم ويحدثهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفع به كثير، ثم رحل إلى المشرق لما ألحَّ عليه عبد الله بن عمر بن غانم قاضي إفريقية في المشاورة في بعض أقضيته وأحكامه، وأن يتقلد له ما يراه صواباً، فأشفق من ذلك ابن فروخ وخاف من التقليد، فأراد السلامة والهروب من الرئاسة فرحل إلى المشرق فوصل إلى مصر، ثم تمادى إلى مكة فحج، فرجع إلى مصر فتوفي بها ودفن بسفح المقطم سنة (176هـ/792م). وكانت لوفاته بمصر فجعة عظيمة في قلوب أهل العلم، وقالوا: طمعنا أن يكون خلفاً لنا من الليث وكانوا يعظمونه ويعتقدون إمامته، رحمه الله.

قال سحنون: (اختلف ابن فروخ وابن غانم في مسألة، فقال ابن فروخ: لا ينبغي للقاضي إذا ولاه أمير غير عدل أن يلي، وقال ابن غانم: يجوز له أن يلي، وإن كان الأمير غير عادل. فكتب بها إلى مالك في المدينة، فلما أتى الرسول إلى مالك، فأصاب مالكاً على دكان كبيرة مرتفعة كثيرة الارتفاع، والناس يجتمعون عليه. فقعد حتى تفرق الناس عنه، فقام إلى مالك وأعطاه الكتاب، فقرأ مالك وقال للرجل: أوليَّ ابن غانم ؟ فقال الرجل: نعم، فقال مالك: إنا لله وإنا إليه راجعون ! فألاّ هرب، فألاّ فر حتى تقطع يده !  ثم قال: أصاب الفارسي - يعني ابن فروخ - وأخطأ الذي يزعم أنه عربي - يريد ابن غانم - رحمهم الله جميعا. وكانت هذه خير شهادة لابن فروخ من الإمام مالك وحيد عصره.

فضائل ابن فروخ ومناقبه وأخباره

قال سنان بن أبي سنان الأسدي الكوفي: سمعت أبي يقول: قدم عبد الله بن فروخ المدينة حاجاً، فلما نزل المدينة لبس ثيابه ثم توجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، ثم أتى مالكاً بن أنس للسلام عليه، فلما رآه مالك تلقاه بالسلام وقام إليه، وكان لا يكاد يفعل ذلك بكثير من الناس.

وكان لمالك موضع من مجلسه يقعد فيه وإلى جانبه المخزومي معروف له ذلك لا يستدعي مالك أحداً إلى القعود فيه، فأقعده فيه وساءله عن أموره وأحواله، وقال له: (متى كان قدومك يا أبا محمد؟) فأعلمه أن قدومه كان في الوقت الذي أتى إليه فيه، فقال له: (صدقت، لو كان قدومك تقدم إذا لعلمت بك، ولو علمت لأتيتك).

وجعل مالك لا ترد عليه مسألة وعبد الله حاضر إلا قال: أجب يا أبا محمد فيجيب عبد الله، ثم يقول مالك للسائل: هو كما قال لك. ثم التفت مالك إلى أصحابه. 

ويروى أنه ناظر زفر في مجلس أبي حنيفة، فازدراه زفر للمغربية، فلم يزل ابن فروخ يناظره حتى علا على زفر، وقطعه بالحجة. فقال أبو حنيفة لزفر: ((لا خفف الله ما بك !)) معاتبة من أبي حنيفة لزفر، إذ ازدرى ابن فروخ.

ويذكر أنه قال: كنت يوماً عند أبي حنيفة، فسقطت آجرة من أعلى داره على رأسي فدمي، فقال لي: اختر: إن شئت أرش الجرح، وإن شئت ثلاث مئة حديث، فقلت: الحديث خير لي، فحدثني ثلاث مئة حديث.

وفي هذه السفرة لقي مالكاً بن أنس وسمع منه وتفقه، وعليه اعتمد في الحديث والفقه، وبصحبته اشتهر. وكان ربما مال إلى قول أهل العراق إذا تبين له أن الصواب في قولهم.

قال سكن الصائغ: كنت أعمل السلاسل من نحاس وأطليها بماء الذهب الذي يجعل في اللجم، وأبعث بها تباع ببلد السودان. فوقع في قلبي منها شيء، فسألت البهلول بن راشد فقال: (ما عندي فيها علم، ولكن اذهب إلى ابن فروخ الفارسي وانظر الجواب وأخبرني، فذهبت إلى ابن فروخ فسألته فقال: أهؤلاء الذين تبعث إليهم هذه السلاسل معاهدون ؟ قلت: نعم، فقال: ما أرى هذا، وهذا غش. فرجعت إلى البهلول فأخبرته فقال: يا بني هو كما قال ابن فروخ. ثم قال: ابن فروخ الدرهم الجيد وأنا الدرهم الستوق. قال سكن الصائغ: فما عرفت أي شيء الدرهم الستوق، فسألت عنه فقيل لي الدرهم النحاس.

ذكر أبو عثمان سعيد بن محمد أنه قال: حدثني من أثق به أن روح بن حاتم أرسل إلى عبد الله بن فروخ ليوليه القضاء فلما جاءه، قال له: بلغني أنك تريد الخروج علينا.. فقال ابن فروخ: نعم ! فتعاظم ذلك روح من قوله، فقال له ابن فروخ: أرى ذلك في ثلاث مئة وسبعة عشرة رجلا، عدة أصحاب بدر، كلهم أفضل مني. فقال له روح: قد أمّناك أن تخرج علينا أبداً.

ثم عرض عليه القضاء فأبى من ذلك وامتنع، فأقعده في الجامع، وأمر الخصوم أن يكلموه وهو يبكي ويقول لهم: ارحموني يرحمكم الله !. ولما أبى من ذلك أمر به أن يربط ويصعد به على سقف الجامع فإن هو قبل وإلا طرح من أعلاه، فصُعد به إلى سطح الجامع. وقيل له: (تفعل ؟) قال: (لا !) وحُلَّ على أن يطرح. فلما رأى العزيمة جداً، وكان يظن أنه لن يطرح حقاً، فقال: (قد قبلته)، فأجلس للناس وجعل معه حرس، فتقدم إليه خصمان فلما صارا بين يديه نظر إليهما، فبكى وطال بكاؤه فأقام طويلاً باكياً، ثم رفع رأسه إليهما وقال:

سألتكما بالله إلا أعفيتماني من أنفسكما ولا تكونا أول مشؤومين علي. فرحماه وقاما من بين يديه، فأعلم الحرس روحاً، فقال: امضيا إليه فقولا له: فأشر علينا من نولي أو أقبل. فقال: إن يكن أحد فعبد الله بن عمر بن غانم، فإني أراه شاباً له صيانة، فقبل ذلك منه روح، وولى عبد الله بن غانم القضاء.       

وكان ابن فروخ أشد الناس كراهة في القضاء.

وكان يقول: قلت لأبي حنيفة: ما منعك أن تلي القضاء ؟ فقال لي: يا ابن فروخ، القضاء على ثلاثة أوجه، مثل رجل يحسن العوم فأخذ البحر طولاً، فما عسى أن يعوم يوشك أن يكل فيغرق، ورجل لا بأس بعومه فعام يسيراً فغرق، ورجل لا يحسن العوم فألقى بنفسه في البحر فغرق من ساعته، فهذا يمنعني من القضاء والدخول فيه.

وأرسل يزيد بن حاتم إلى ابن فروخ يسأله عن دم البراغيث في الثوب، هل تجوز الصلاة به ؟ فقال: ما أرى به بأسا، وقال بحضرة الرسول: يسألوننا عن دم البراغيث ولا يسألوننا عن دماء المسلمين التي تسفك !.

وكان ابن فروخ كثير التهجد، وكان تهجده في آخر الليل.

قال أحمد بن زيد: كان ابن فروخ إذا أخذ الجند أعطياتهم أغلق حانوته تلك الأيام حتى يذهب ما في أيديهم، فإذا ذهب ما في أيديهم فتح حانوته.

وكانت وفاة ابن فروخ - رحمه الله - سنة (176هـ/792م). 

وسوم: العدد 684