مؤتمر الشيشان واللعب بورقة الدين

مؤتمر الشيشان الذي انعقد في العاصمة غروزني للفترة من 28 – 30 من شهر أغسطس،2016 تحت عنوان "من هم أهل السنة والجماعة؟" لم يستطع أن يخفي أنه سياسي بامتياز، على الرغم من أنه جاء بإطار علمي ديني، وبمشاركة عشرات العمائم، مؤتمر لافت للنظر في جذوره وزمانه ومكانه والأشخاص الذين شاركوا فيه.

الجذور

رغم السخط الذي عبر عنه كثير من المسلمين على هذا المؤتمر، والذي كشفت عنه عشرات مقالات الرأي والسياسة وآلاف التغريدات على موقع تويتر الاجتماعي، يبقى المؤتمر ترجمة وإجراء عملياً لحدث أخطر منه سبقه بسنوات.

المكان: واشنطن DC الولايات المتحدة الأمريكية.

المنظمة: مركز نيسكون[1].

الحدث: ندوة عقدها برنامج الأمن الدولي في المركز، ضيوفها المحافظين الجدد ومنهم ديك تشيني (نائب الرئيس) وبول وولفوتز (رئيس البنك الدولي في حينها، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق) والكاتب برنارد لويس، وآخرين من الضالعين في الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، بالإضافة إلى رؤوس التصوف في أمريكا ومنهم هشام قباني.

الهدف: استكشاف ومناقشة الدور الذي يمكن أن تؤديه القيم الباطنية في خدمة أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وتقديم النصح والمشورة للإدارة الأمريكية في كيفية فهم التصوف وتفعيل دوره في السياسة الخارجية الأمريكية

التاريخ: 24 أكتوبر 2003، أي قبل مؤتمر الشيشان بثلاث عشرة سنة.

وجاء هذا المؤتمر بثلاث جلسات إحداها كانت سرية أو لم تكتب محاضرها وهي الجلسة المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، ولقد ركز المؤتمر على تعريف صانعي السياسة الخارجية ومجتمع صناع القرار في أمريكا بالحركات التي تحمل قيماً باطنية وتتبناها أقلية في العالم الإسلامي، وقد ذكر التصوف بشكل خاص حيث أطلق عليه تسمية الجزء المهمل من الإسلام، وأشير إليه بالإسلام الثقافي مركزين على منطقة أوراسيا التي تضم أكبر الحركات الباطنية[2].

أما أهم التوصيات التي خرجت بها الندوة فكانت تدور على دعم التصوف من خلال إعادة إعمار المزارات والأضرحة ونشر الكتب الصوفية ونشر المدارس الصوفية ودعم الطرق الصوفية، وبرر المشاركون هذه التوصيات بأنها تتسم بالتسامح مع الأديان والمعتقدات الأخرى، لأن التصوف لا يعرف الكراهية، ولا يتسامح مع الآخر فحسب وإنما يقبله بعكس الوهابية أو غيرهم من المسلمين.

ومع أن معظم الحديث في الندوة يدور على الصوفية وتاريخها وواقعها المعاصر في الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي(سابقاً)، إلا أن أوراق المؤتمر والنقاشات ركزت الحديث عن علاقة التصوف بما أطلق عليه المشاركون "الوهابية"، واختصروا الإسلام إلى فئتين لا ثالث لهما: التصوف والوهابية، معتبرين الوهابية المصدر الحقيقي للإرهاب في العالم وربطوها بالمملكة العربية السعودية ومساعداتها الإنسانية في دول البلقان وفي دول آسيا الوسطى وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي (السابق)، واستعرضوا تاريخ العالم الإسلامي الحديث قبيل انهيار الدولة العثمانية ودور السلفية أو الوهابية في هذه الأحداث ومن ذلك ما تحدثت به د. هدية مير أحمدي، المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي الأعلى، حيث قالت "إن الأحداث الخطيرة التي وقعت في القرن العشرين (انهيار الإمبراطورية العثمانية، والحملات الاستعمارية لبعض القوى الغربية، والتراجع العام للحضارة الإسلامية) قد أدت إلى موجة جديدة من الفكر في العالم الإسلامي تسعى إلى توحيد المسلمين في قوة سياسية موجهة ضد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأيديولوجية يشار إليها بالوهابية (ويطلق عليها اليوم السلفية)، وقالت إن الناس غالباً ما يسألوا كيف أن هذه الجماهير العظيمة التي تتجاوز البليون سمحت  لعقيدتها أن تغير بطريقة دراماتيكية، والإجابة البسيطة هي إن المسألة لم تكن مسألة "السماح" بتعديل الدين فقد كان هناك من قاوم وقاوم بقوة، وأصرت بأن هذا الجهد الوهابي الضخم للهدم قد تسبب في سفك الدماء والعنف في كل ركن من العالم الإسلامي، وقد أصبح الآباء والأبناء ضد بعضهم البعض ومزقت الأسر حيث تعلم الجيل الجديد في مدارس الفكر السلفي"[3].

ثم جاء دور ألان جودلاس، من قسم دراسات الأديان بجامعة جورجيا، ليقول: " هناك معركة حقيقية بين الوهابية والإسلام الصوفي حول من يقود الإسلام في آسيا الوسطى والعالم، فإذا ما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية إجراءً حمائيا في دعم إحياء الصوفية في آسيا الوسطى فإنها يمكن أن تكون قادرة على أن تحول المنطقة من أيدي العسكريين نحو مستقبل أكثر إشراقاً"، أما ألكس ألكسييف، وهو كبير الباحثين في مركز دراسات السياسات، فقد ركز على الصراع بين الصوفية والوهابية، وبين أن مشكلة الصوفية والوهابية تمثل جزئياً صراعاً أكبر بين الأصولية والصوفية على جوهر الإسلام، وثمة اختلاف مهم بين الاثنين هو في تفسير الجهاد؛ ففي الصوفية يعني الجهاد بذل الجهد من أجل التطهير الروحاني الشخصي بينما يمثل لدى الوهابيين الصراع من أجل انتصار عالمي للإسلام، وشبيه بذلك تعد الولاءات التقليدية والعشائرية والقومية مهمة للصوفية، بينما يرى الوهابيون هذا التفكير على أنه غير إسلامي، ويجادلون أن الإنسان يجب أن يسعى من أجل جمهورية شمال القوقاز الإسلامية أولاً وبعد ذلك يتطلعون إلى انتصار الأمة في العالم كله.

ومع ذلك يرى ألكسييف أن ما جعل انتشار الوهابية أكثر درامية هو المال، يقول السعوديون أنفقوا ثمانين بليون دولار في مساعدة النشاطات الإسلامية حول العالم منذ منتصف السبعينيات والتي أنفق جزء مهم منها في شمال القوقاز، ولكن كم أنفق بدقة أمر غير معروف ولكن كإطار مرجعي يمكننا أن ننظر إلى البوسنة فقد أنفق السعوديون ستمائة مليون دولار في التسعينيات أي حوالي ثلاثمائة دولار لكل مسلم، وهناك مائة وستون مسجداً وهابياً ومدارس لا يمكن إحصاؤها والعديد من المؤسسات الإسلامية المتطرفة، وفي قلب منطقة إسلامية معتدلة. والشيء نفسه حدث في شمال القوقاز على الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة فالمساجد الوهابية والمدارس موجودة في كل مكان، ولاحظ ألكسييف أن كل الصحف الإسلامية والمنظمات الإسلامية هي من النوع المتطرف في هذه المنطقة وبالفعل كل هذا النمو كان بتمويل سعودي[4].

ومن خلال كل ما سبق في أعلاه واضح أن جانبا كبيرا من نقاشات هذه الندوة أو المؤتمر جاء لاستهداف المملكة العربية السعودية ونظامها السياسي.

الحركات الصوفية في عيون الغرب

لم تكن الحركات الباطنية الصوفية بعيدة عن أنظار الغرب، فعلى سبيل المثال نشرت مجلة "U.S.News" الأمريكية في تاريخ في 17/4/2005م تقريرا بعنوان (قلوب وعقول ودولارات) وسُطِّر في ديباجته العبارة التالية (في جبهة غير مرئية في الحرب على الإرهاب، أمريكا تنفق الملايين.. لتغيير وجه جديد للإسلام)، يقول مُعد التقرير "ديفيد كابلان"[5]: «يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحدة من أفضل الأسلحة ضد تنظيم القاعدة والإسلام الجهادي، فالصوفية بطرقها الباطنية تمثل برأيهم توجهاً مناقضاً للطوائف الأصولية كالوهابية التي يمنع أشد أئمتها تعصباً "الموسيقى والرقص لا بل حتى الحب الرومانسي، فالمزارات الصوفية دُمِّرت في السعودية واضطر أتباعها إلى التواري عن الأنظار بعد اتهامهم بالزندقة بذريعة تقديسهم للقديسين، ولكن الصوفية تعود، ولها اليوم عشرات ملايين الأتباع المخلصين في آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا الغربية، ناهيك عن مئات الملايين ممن يتبعون التقاليد الصوفية، لكن النشطاء الصوفيين يقولون أنهم يواجهون في ميدان الدعوة مليارات الدولارات التي تنفقها الإرساليات المدعومة رسمياً من الدولة السعودية لنشر الوهابية" وأضاف التقرير أيضاً أنه: «بينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقروا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية».

بل إن التقرير أورد أمثلة عملية على بوادر الدعم الأمريكي الخفي للصوفية فقال: «في قرغيزستان، ساعدت أموال السفارة الأمريكية بترميم مزار صوفي مهم. وفي أوزبكستان، أُنفق المال لحفظ النصوص الإسلامية العتيقة»[6].

أما مؤسسة مؤسسة "راند" فقد أوصت في تقريرها الذي يحمل عنوان "إسلام حضاري ديموقراطي، شركاء وموارد واستراتيجيات" بـ: «تعزيز مكانة المذهب الصوفي»[7].

والمنهج الصوفي – بحسب راند-لا يشبه الأصوليين ولا التقليديين، وإنما هو أقرب للتيار "المجدد"، لأنه يمثل التأويل الفكري المنفتح للإسلام[8].

ويزعم المستشرق الألماني شتيفان رايشموت[9] أن «مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي»[10].

ويقول دانيال بايبس[11]: «إن الغرب يسعى إلى دعم التصوف الإسلامي لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية، وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة»[12].

أما على المستوى الرسمي فإن اللجنة الخاصة بالحريات الدينية في الكونغرس الأمريكي كانت قد أوصت في وقت سابق بتشجيع هذه الحركات داخل الدول العربية، بل وطرحتها كبديل أقوى يملأ به أرض الواقع ويحل محل دعاة الشريعة، وبحجة تقويض امتداد الإرهاب والقضاء على تنظيم «داعش» وقبله تنظيم «القاعدة» توجهت أمريكا نحو إعادة إحياء الحركات الباطنية ومنحها دوراً ريادياً.

لماذا الشيشان؟

عقد المؤتمر في الشيشان التي اجتمعت فيها مقومات ودلالات، أهم مقوماتها أن رئيسها ينتمي لحركة باطنية وبالتالي لديه الحافز الكبير لرعاية وإنجاح المؤتمر فهو يعتبر عمله دينا يتقرب به إلى الله، وكذلك جميع التقارير الواردة في أعلاه وندوة مركز نيكسون ركزت على الشيشان باعتبار أغلب أهلها ينتهجون التصوف، ولذا فهي محل اتفاق بين الروس والأمريكان، ومع أن أمريكا تختلف مع روسيا في ملفات كثيرة إلا أن هذا الملف محل اتفاق بينهما، وبالنسبة لدلالات المكان فهي سياسية فجمهورية الشيشان هي إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية التي قامت على أنقاض الاتحاد السوفيتي، والروس ذاكرتهم ليست قصيرة ولا ينسون انهيار الاتحاد السوفيتي، وبينهم وبين المسلمين ثأر لا يمكن نسيانه، فهم يعتبرون أحد أسباب انهيار محورهم ومعسكرهم الكبير هو استنزافهم في حروب أفغانستان والشيشان وغيرها من الأماكن التي كانت تحت سيطرتهم، ولا يخفى أن دور المسلمين كان كبيرا في هذه الحروب وخصوصا المسلمين العرب الذين جمعوا الأموال وهاجروا للجهاد بعلم أغلب دولهم، وروسيا تعتبر المملكة العربية السعودية الداعم الأكبر للمسلمين في تلك المناطق آنذاك، ولذا تريد استخدام نفس السلاح الذي أرهقها وفككها من قبل، وتحديدا مع السعودية  فضلا عن محاولة تفكيك الإسلام بصفته دينا.

فتى بوتين المدلل راعي المؤتمر

جاء مؤتمر الشيشان برعاية الرئيس الشيشاني رمضان أحمدوفيتش قديروف، وهو صوفي متشدد، كان سابقاً أحد الثوار الشيشانيين ضد الروس، وهو ابن الرئيس الشيشاني السابق أحمد قاديروف أحد أمراء الحرب في الشيشان الذي اغتيل في أيار 2004، استلم رمضان السلطة في فبراير 2007 وجاء ذلك بعد فترة قصيرة من بلوغه الثلاثين عاماً وهو العمر الأقل الذي يسمح فيه للشخص أن يكون رئيساً في الشيشان.

قاتل رمضان قاديروف الى جانب والده ضد القوات المسلحة الروسية وبعد الحرب أصبح السائق والحارس الشخصي لوالده أحمد قاديروف الذي أعلن الجهاد ضد روسيا، ثم ما لبث في بداية الحرب الشيشانية الثانية بالانشقاق والانضمام الى جانب المعسكر الروسي، ومنذ ذلك الحين قاد قاديروف ميليشيا بدعم من خدمات الأمن الفدرالي الروسي وأصبح قائداً للأمن الرئاسي الشيشاني، فيما بعد اطلق على هذه الميليشيا اسم قاديروفيتس.

رمضان قاديروف هو الرئيس الأقرب الى الرئيس فلاديمير بوتين ويعتبر واحداً من أكثر الشخصيات قرباً إلى الكرملين، وقد أعلن مرات عدة وفي عدة مناسبات أنه يهب حياته دفاعاً عن روسيا وعن الرئيس فلاديمير بوتين وكتب ذلك على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وبالتالي الرئيس الشيشاني – راعي المؤتمر – ليس أكثر من موظف عند بوتين، حاول إضفاء القداسة على كبار الشخصيات التي حضرت من خلال بعض التصرفات التي لا يمكن لرئيس غيره أن يتصرفها كهرولته باتجاه الحبيب الجفري واستقباله بعض الحضور كما يستقبل الرؤساء.

في النهاية نحن أمام أعتى زعيم للميليشيات وقائد فرق الموت في العالم، أثار الرعب في الشيشان، خطف قادة المقاومين للوجود الروسي في الشيشان وهدم دور من حمل السلاح بوجه روسيا، شيد المعتقلات والسجون، تاريخه حافل بالبطش والإجرام، شخص لا يقل إجراما عن بشار الأسد مع فارق أن الرجل حاقد على كل من يخالف منهج التصوف من المسلمين، وبذلك لا يختلف كثيرا عن قادة ميليشيات إيران في العراق وسوريا فجميعهم تحركه عقيدته لحرب المسلمين[13].

اللعب بورقة الدين

لطالما كانت ورقة الدين من اختصاص بريطانيا التي راهنت عليها سنين طويلة، فهي ورقة رابحة في كل زمان ومكان، والحقيقة أنها خير من يتقن التفنن في اللعب بها فقد اختارت من الديانات تيارات تمثل أقلية ولها نزعة متطرفة، فعملت على تقوية وجودها على حساب وجود الأغلبية، وهي تحتضن الأحزاب الدينية المتطرفة، ومنذ سنين وأمريكا تلعب بهذه الورقة لكن بطريقة تختلف قليلا عن بريطانيا التي تحتوي الجماعات والأحزاب الدينية لتستخدمها لتحقيق مصالحها، أما أمريكا فذهبت أبعد من ذلك لأنها لا تأبه لاحتواء التيارات الدينية بقدر ما تعمل على صناعتها ليكون المنتج مطابقا للمواصفات الأمريكية كما هو حالها في صناعة السيارات والأجهزة والمنتجات الأخرى، ولذا وظفت أمريكا مراكز بحوثها ودراساتها المتخصصة بالسياسة والشؤون الإسلامية فترة طويلة ليست بالقليلة لتعد لها نموذج الإسلام المتوافق مع المواصفات الأمريكية، وأطلقت عليه بعد ذلك "الإسلام المعتدل" والحقيقة هو الإسلام "المعدل" كما يفعل الأمريكيون مع سياراتهم عندما يضعون تعديلات عليها لتصبح بشكل أسرع أو أفضل من وجهة نظرهم.

المهم في هذا الموضوع أن الطباخين في مراكز البحوث الذين أوكلت لهم مهمة طبخة "الإسلام المعتدل" لم يحذروا الغرب ويخوفوه إلا من السلفية، من ذلك عبارة روبن رايت[14] التي لخص بها كتابه (هواجس أمريكا حول التطرف الإسلامي): "لا تخافوا سائر الإسلاميين، خافوا السلفيين"، كما أن صفحات الانترنت ومكتبات مراكز الدراسات تزخر بمئات المقالات والمؤلفات في هذا الاتجاه.

أكثر من ذلك فقد عمل هؤلاء على جعل تهمة الإرهاب التي ألصقوها بالإسلام "ماركة" للسلفية، وربطوا السلفية بأنظمة الحكم في دول الخليج العربي بشكل وآخر، معتبرين تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وقبله تنظيم القاعدة رمزا للسلفية التي يخوفون منها، في حين لم يعد خافيا على أحد أن تنظيمي القاعدة وداعش صناعة استخباراتية محترفة، وإن كان بعض قادتها أو أتباعها ينتمون في بداياتهم للمدرسة السلفية فهذا لا يعني أن هذه التنظيمات من نتاج المدرسة، فالتطرف موجود في كل مكان ويمكن استغلاله لصناعة تنظيمات كداعش والقاعدة، وهنا أذكر كلاما للدكتور عبد الله عزام رحمه الله، وهو قائد المجاهدين العرب في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وهو يتحدث في وقتها عن المجاهد وكأنه يستشرف المستقبل، فيقول: ((أخطر إنسان هو المجاهد، لأنه بلحظة يتحول إلى قاطع طريق)) وبالفعل فهو شخص مدرب لا يهاب الموت إذا ما فقد الضوابط التي يعمل بها أو تخلى عنها فإنه من السهولة أن يتحول إلى مجرم، أما كيف صنعت التنظيمات الإرهابية فليس لأحد أن يجزم بطريقتها، لكنها إما جاءت بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال تهيئة الظروف لبنائها ثم توجيهها عن بعد أو من قريب، وعليه فمسألة ربط المنهج السلفي بأنظمة الحكم في الخليج أمر فيه إجحاف، لا سيما وأن هذه الأنظمة لا تعتمد الإيدلوجيات الإسلامية في عملها وإدارتها للحكم.

وفي مقابل كل ذلك تتجاهل التقارير والدراسات الإرهاب الذي تمارسه الميليشيات الصفوية، وأحزاب إيران الدينية، بل تتجاهل إرهاب الحكومات كحكومتي العراق وسوريا ولا تحذر من خطورة التيار الديني الذي تنتسب إليه هذه الجماعات والذي يدعي الإسلام، بل تأتي التقارير لتتحدث عن مظلومية أتباعه.

ويبدو أن روسيا اليوم تلعب هي الأخرى بورقة الدين بعد أن وضعت أمريكا لها المقدمات وهيأت لها الظروف، لا سيما وأن الورقة الدينية آذت روسيا من قبل وقد استخدمتها أمريكا ضدها في حرب أفغانستان والشيشان، لذا رعت روسيا هذا المؤتمر الذي عبر عنه بأنه "نقطة تحول مهمة وضرورية لتصويب الانحراف الحاد والخطر، الذي اعترى مفهوم أهل السنة والجماعة إثر محاولات المتطرفين اختطاف هذا اللقب وقَصرَه على أنفسهم، وإخراج أهله منه"، لننتظر بعد ذلك فصولا جديدة من العداء الإسلامي الإسلامي، وليختزل المؤسسات الدينية الإسلامية بمراكز العلوم الشرعية في العالم الإسلامي بـ "الأزهر، والقرويين، والزيتونة، وحضرموت".

لماذا التصوف؟

والسبب المهم وراء الالتفاتة الأمريكية نحو التصوف كان تاريخياً، فغالباً ما كانت السيطرة اليهودية على مجريات الأمور في بعض الدول معتمدة على الحركات الباطنية، فالأوروبيون مثلا لفت انتباههم إجرام إسماعيل شاه الصفوي فعقدوا الاتفاقيات معه ودعموا الفكر الباطني الذي يمثله حتى اللحظة، وانهيار الإمبراطورية العثمانية كان على يد اليهود الذين ادعوا الإسلام وشكلوا حركات التصوف الباطني الذي نخر الدولة وسيطر على رأس الحكم فيها، فالقضية كلها مبنية على أساس المصلحة والتخادم.

ومن الأسباب الأخرى لهذه الالتفاتة رغبة الغرب بإظهار الجانب الاستسلامي في بعض طرق الصوفية وتأصيل الروح الاستسلامية المنهزمة في نفس المسلم، وهنا أشدد على كلمة "بعض" حتى لا يظلم التصوف وأهله لأن التاريخ مليء بصور مشرقة لعظماء وقادة على منهج التصوف قاوموا المحتل وقادوا الجهاد في سبيل الله.

إن أخطر ما في حركات التصوف الخلايا الباطنية المنتشرة بين الطرق الصوفية، والمستترة بقناع التصوف، حتى بدأ بعضهم يبحث فيما يسميه «التصوف السني»، وهو السالم من الوقوع في براثن الكيد الباطني، فقد تسلل الصفويون واليهود وغيرهم من أعداء الإسلام عن طريق حركات التصوف، وهو أمر دفع أهل الاستشراق إلى دراسة التصوف دراسة مستفيضة، ومما هو معلوم أن تقارير هؤلاء تبنى عليها سياسات وحروب الدول فأكثرهم يعمل لصالح دوائر الاستخبارات الغربية[15].

واليوم جاء الوقت لينفذ الغرب خططه ويحتوي هذه الحركات ويعدل عليها ويعمل على توحيدها ويجند أتباعه لتنفيذ خططه في العالم الإسلامي.

مؤتمر الشيشان ترجمة عملية لندوة مركز نيكسون

لا شك أن مؤتمر الشيشان إجراء عملي لندوة مركز «نيكسون»، وتنفيذ عملي لتوصيات تقارير مؤسسة راند وغيرها من تقارير المستشرقين، ولأن هدف المؤتمر إحداث شرخ عميق في المجتمع الإسلامي طرح السؤال الآتي: من هم أهل السنة؟ وكأننا بعد أكثر من 1400 سنة لا نعرف الإجابة، ولتأتي الإجابة بحصر أهل السنة بالأشاعرة والماتريدية اعتقادا، وهذه مصطلحات لا يعرفها عامة الناس بل وبعض طلبة العلم الشرعي من المبتدئين، وهي من اختصاص علماء الشريعة وطلبتها، وأضاف لهذين المذهبين العقديين أصحاب التصوف الصافي كما أطلقوا عليه، وفي جانب الفقه اعتروا أتباع المذاهب الأربعة من أهل السنة، وأخرج المؤتمر كل من سواهم من دائرة أهل السنة، ليضيق المصطلح تضييقا واسعا

الهدف السياسي للمؤتمر

الواقع أن هدف هذا المؤتمر سياسي بامتياز لأنه يريد تجريد السعودية من أقوى سلاح تمتلكه وهو قدرتها على التأثير على أكثر من مليار مسلم حول العالم من خلال السيادة الدينية التي تتمتع بها، مع أنها لم تستخدم هذا السلاح في يوم من الأيام ولم تلوح به مطلقاً. المؤتمر بمثابة إيذان بأن المرحلة القادمة ستكون الدائرة فيها والدعم الدولي للحركات الباطنية، أما إذا تبنت الدول الإسلامية مقرراته بضغوطات أمريكية فسيشكل أزمة حقيقية في العالم الإسلامي لأنه سيمزق المسلمين ويشعل نار العداوات بينهم بأي صورة ويفتح مزيدا من جبهات الصراع، خصوصا وأن الأمة الإسلامية بعد الأحداث الجسام التي مرت وتمر بها تركت الحديث عن الاختلافات الدينية بين أهل السنة فلم نعد نسمع بخلافات بين الصوفية والسلفية كما كان ذلك حاصلا قبل أكثر من عشر سنوات، وبعد المؤتمر بدت بوادر الحديث في هذه الموضوعات من جديد، مع أن الخلاف الحقيقي الآن ليس خلاف الأشاعرة مع السلفين، أو السلفين مع الصوفية، أو السلفيين مع الإخوان، لكن الخلاف بين من يعمل لصالح المشروع الإسلامي، وبين من يعمل ضده، حتى من يختلف الآن مع الإخوان من الإسلاميين وغيرهم، لا يختلف معهم على مسألة العقيدة وإنما خلافه على أساس الحزبية وضعف الأداء السياسي أو محاولة الاستحواذ على السلطة، لكنه تحول بفضل هذا المؤتمر اختلاف على أساس العقيدة وهذا أمر لا صحة له.

بالإضافة إلى ذلك سينتج عن المؤتمر حالة من إقصاء وإبعاد ومحاصرة كثير من العلماء والتيارات التي لا يمكن دمجها في مشروع مؤتمر الشيشان والتي لا يمكن تدجينها، خصوصا وأن المؤتمر استغل قضية رفض دول العالم بما فيها الدول العربية لما عرف بالإسلام السياسي، ليتقدم المؤتمر ببديل وهو التصوف السياسي المدعوم من الغرب والشرق، الذي سيتولى صياغة إسلام وفق التوجهات الغربية ليختزل الشريعة والدين ببعض القيم الروحية، ويسلم زمام الأمور في النهاية لمجموعات تخدم المشروع الصهيو صفوي.

المملكة العربية السعودية اليوم أمام تحد كبير أكثر من غيرها من الدول، وعلى المستوى الديني المجتمعي سيتولى المسلمون التعامل مع مقررات مؤتمر الشيشان وما سينتج عنه، أما على المستوى السياسي فالمهمة تقع على السعودية باعتبارها المقصود بهذا المؤتمر كما أنها الوحيدة التي تمتلك الأدوات السياسية التي يمكن أن تتعامل بها مع نتائج هذا المؤتمر.

أهم ما كشفه المؤتمر

من أهم ما كشفه المؤتمر هو خطورة الحركات الباطنية في الوقت الحاضر واستعدادها وتقديم نفسها لتكون الأداة التي يحارب بها الإسلام من داخله، كما كشف المؤتمر أن العداء الحقيقي ليس مع السلفية بل مع جميع الإسلاميين ومنهم الإخوان الذين اجتهد الكثير في تصويرهم على أنهم يتقاطعون مع السلفية، كما بين أن حصان طروادة القادم للغرب هم الحركات الباطنية التي تسللت للتصوف بالإضافة إلى الصفويين الذين لم يتستروا بالتصوف أو غيره.

مرة أخرى أينما وردت كلمة الصوفية في هذا المقال، فلا أعني بهذا أولئك الذين يلتزمون بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً من الصوفية واختار لأنفسهم حياة الزهد والعبادة ولزوم مجالس الذكر، وإنما المقصود الحركات الباطنية ذات الارتباطات الخفية التي تسير وفق خطط مرسومة، كما لا يجب أن ينجر أحد من المسلمين في التهجم على الصوفية ومعاداتها ردا على هذا المؤتمر، فهذا هو مراد من خطط ودبر له، خصوصا وأن كثيرا من عوام الصوفية لا علاقة لهم بالحركات الباطنية التي تعمل وتخطط بأشراف الغرب

المراجع

[1] هو مركز أسسه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون قبل وفاته، متخصص في تحليل التحديات والسياسات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التركيز على المصلحة الأمريكية القومية.

[2] ينظر: فهم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، تقرير مؤتمر مركز نيكسون، إعداد: توبياس هيلمستروف وياسمين سينر وإيميت توهي، ترجمة وتقديم: د. مازن مطبقاني، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية/ إدارة البحوث والدراسات-وحدة دراسات العالم الغربي

[3] ينظر: المصدر السابق.

[4] ينظر: المصدر السابق.

[5] ديفيد كابلان  David E. Kaplan (1955م- )، كاتب ومحقق صحفي أمريكي، مدير مركز النزاهة العامة للاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين، ويعمل مع مجلتي "يو إس نيوز" و "وورلد ريبورت".أنظر: موسوعة ويكيبيديا، مادةDavid Kaplan

[6] ينظر: موقف الغرب من الصوفية، للدكتور صالح بن عبد الله الحساب الغامدي، مقال منشور على موقع الصوفية الألكتروني.

[7]  التقرير، ص: 72

[8]  يُنظر: التقرير، ص: 58

[9] أستاذ الدراسات الشرعية والعلوم الإسلامية بجامعة (الرور) بـ (بوخوم) بألمانيا.

[10] مقال «الصوفية هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير»، عمار علي حسن،

[11] مؤلف ومؤرخ أمريكي متخصص في نقد الإسلام، مؤسس ومدير «منتدى الشرق الأوسط»، وإحدى الشخصيات البارزة في تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، ومن زعماء الحركة الصهيونية، وأحد كبار المحرضين على شن الحرب على العراق.

[12] صحيفة الزمان، عدد (1633)، تاريخ (12/10/2003م)، نقلاً عن «التصوف بين التمكين والمواجهة» لمحمد بن عبد الله المقدي (ص 8).

[13] ينظر: رمضان قاديروف جلاد روسيا في أرض الشيشان، للأستاذ محمد الأمين مقراوي الوغليسي، مجلة البيان.

[14] روبن رايت، باحث بمعهد السلام الأمريكي – كلامه حول السلفيين مترجم من مجلة «نيويورك تايمز» في 20-8-2012

[15] ينظر: الشيعة المتصوفة، للدكتور ناصر عبد الله القفاري، مجلة البيان العدد 320 فبراير 2014.

د.فراس الزوبعي    

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 686