السيادة بين الوهم والحقيقة

يقول أستاذ العلوم السياسية برتران بادي، في كتاب "عالم بلا سيادة" إن "السيادة مبدأ غامض، يستخدمه بطريقة متناقضة فاعلون من ذوي العقلانيات الأكثر تناقضا، وعلى هذا فهي أولا، وهم، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بدلا من أن تلجأ إلى الواقعي فهي تلجأ إلى الخيالي، وتمنحنا بنيانا منطقيا يضفي على الحياة الدولية مظهر الترابط".

منذ نشأة مصطلح السيادة وحتى هذه اللحظة، لم يكن ذلك المبدأ مستقلا عن الأوهام والنسبية والارتباط بالمصلحة الخاصة، وذلك على جميع مستوياته.

فمثلا كان مبدأ السيادة على المستوى الداخلي لدى نشأته في أوروبا في القرون الوسطى، يتمسك به ملوك أوروبا للتملّص من سيطرة البابا، ثم يتنكّرون لهذا المبدأ إذا تعلق الأمر بشعوبهم.

وعلى المستوى الخارجي، شهد العالم ألوانا شتى من أوهام السيادة رغم اعتماد ذلك المبدأ كأساس في القانون الدولي الذي يقضي بأن لكل دولة سلطة مطلقة مستقلة عن الدول الأخرى، إلا أن المبدأ امتزج برغبة الدول الكبرى في القيام بدور شرطي العالم تحت زعم المسؤولية الدولية، فانتهَكت سيادة الدول الأخرى الأضعف.

هو مبدأ فضفاض، يتم التلاعب به وتطويعه للمصالح الخاصة.

ومر بنا في الآونة الأخيرة، حدثان هامان، يعبر كل منهما عن أوهام السيادة والتلاعب بمبادئها، وأن تطبيقها أو رفع شعارها يمتزج دائما بالانتقائية.

الحدث الأول هو إقرار قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" المسمى بـ"جاستا"، وهو قانون أمريكي يتيح لأهالي قتلى الحادي عشر من سبتمبر، مقاضاة الدول التي يُشتبه ضلوعها في رعاية الإرهاب، وعلى أساسه بدأت الدعاوى في المحاكم الأمريكية ضد السعودية، بزعم أنها مسؤولة عن رعاية الأعمال الإرهابية التي نُفّذت على الأراضي الأمريكية.

فجأة، أصبحت المحاكم المحلية تحاكم دولا أخرى، في اعتداء صارخ على مبدأ السيادة للملكة العربية السعودية.

انتهاك السيادة يرتبط بالقوة، فأمريكا لها الحق في خرق المواثيق والأعراف الدولية، باعتبارها شرطي العالم، والمنوط بها تنظيم الحياة الدولية، أيضا لأنها الأقوى. منتهى العبثية.

ومن ثم، تتحدث أمريكا عن مبدأ السيادة في الغزو العراقي للكويت، فتتدخل - بعدما أغرت صدام بالغزو - لا لشيء إلا لأن القضية تتعلق بمصالحها في المنطقة.

لكنها اليوم تصر على التدخل الشكلي الصوري في سوريا، على الرغم من المجازر البشعة التي ينفذها نظام الأسد ضد شعبه، لأن مصالحها هنا ترتبط بتقاسم الكعكة مع أطراف دولية أخرى، فلا مانع إذن من الصمت على التدخل العسكري الإيراني السافر في سوريا لصالح النظام الأسدي.

فاحترام مبدأ السيادة إذن لدى الأقوياء، يرتبط بالقوة والمصلحة.

الحدث الثاني يدل أيضا على عبثية وأوهام مبدأ السيادة - الذي علا ضجيجه وأصبح لا يتجاوز كونه مسرحية هزلية – وهو ذلك النكير والصراخ المتعالي من الحكومة العراقية ضد تركيا، بسبب تجديد البرلمان التركي التفويض للحكومة بإرسال قوات عسكرية إلى سوريا والعراق للتصدي لأي هجمات محتملة تتعرض لها تركيا من قِبل تنظيمات إرهابية.

الحكومة العراقية اعتبرت الوجود العسكري التركي في الشمال العراقي اعتداء على سيادة العراق على أراضيها، وصوّت برلمانها على اعتبار الوجود التركي احتلالا، وتعالت صرخات العبادي محذرا تركيا من أن هذا الوجود العسكري قد يجر إلى حرب إقليمية.

تجاوزوا معي مسألة أن الوجود التركي ابتداء كان بعلم وقبول الحكومة العراقية.

وتجاوزوا أيضا إعلان إقليم كردستان في بيان له، أن وجود القوات التركية في مخيم "بعشيقة" تم بعلم الحكومة الفيدرالية بهدف تدريب القوات المحلية لمواجهة تنظيم الدولة.

وتجاوزوا كذلك أن تركيا تهدف من التدخل إلى المشاركة في معركة الموصل المرتقبة ضد تنظيم الدولة، ومكافحة التنظيم وصيانة البنية الديموغرافية للمنطقة من التغيير.

سنتجاوز كل ذلك، ونُبقي على طرف الخيط الذي التقطناه أولا من الحديث عن السيادة، والذي أصبح في ظل هذا الحدث مدعاة للسخرية.

الحكومة العراقية تتحدث عن خرق تركيا للسيادة العراقية، مع أنها (أي العراق) لم تعد سوى محافظة إيرانية أخرى خاضعة لإدارة المرشد في طهران، فأين السيادة؟

الحكومة العراقية التي غابت عن المشهد، سمحت لـ 67 ميلشيا من الحشد الشعبي - الممول من إيران - بتمثيل القوة الأكبر داخل العراق، فأين السيادة؟

الولايات المتحدة وإن كانت تتدخل بعلم الحكومة العراقية، إلا أنها تمارس تنفيذ أهدافها الخاصة، وقامت بتمويل وتدريب ودعم القوات الكردية على الأراضي العراقية، فأين السيادة؟

تعالت صيحات الاعتراض على التدخل التركي دون غيره، مع وجود عدد من القوات الدولية هنالك فأين السيادة؟

هذا لأن السيادة في هذا السياق، تم توظيفها لصالح إيران، التي لا تقبل بالوجود التركي في معركة الموصل، وتعتبر هذه المعركة امتدادا للمعارك في سوريا التي تدعم فيها تركيا المعارضة المعتدلة. تلك هي السيادة المرتبطة بالانتقائية.

الانتقائية التي تعاملت بها الجامعة العربية مع الرفض العراقي للوجود التركي، حيث تعهد أمينها أبو الغيط – صديق إسرائيل ورفيق ليفني – ببذل الجهود لإنهاء ما أسماه بالانتهاك التركي للأراضي العراقية، فلم تتذكر الجامعة من الانتهاكات الدولية المستمرة منذ احتلال العراق سوى التدخل التركي.

ليتنا نعي أن السيادة ما هي إلا "وهم" في عالم تسيطر عليه القوة، ولن نعيشها واقعا إلا إذا امتلكنا قرارنا، بامتلاك السلاح والقوت، حينئذ سنعرف معنى السيادة يا قوم.

وسوم: العدد 689