الشعبي لا يستحيي!
بدأت الحديث في الأسبوع الماضي عن الإمام الشعبي رحمه الله، وقلت إنه من أظرف ظرفاء الدنيا، ومن أعلم علمائها.. وأشرت إلى أنه رحمه الله كان ذكياً سريع البديهة، فقيهاً محدثاً، ظريفاً مُزَحة، واشتهر عنه بذلك، ودونته مجامع كتب التاريخ والسِّيَر، وكانت المُلحة تخرج منه عفو الخاطر، فلا يملك من أمامه إلا الابتسام أو الضحك، لحلاوتها، وما تحمل من مفارقات ولطائف!
فاسمح لي قارئي الكريم أن أسوق لك بعضاً آخر من لطائفه وطرائفه، وإن كان كثير منها يحتاج لتوثيق، كما نتوقف عن قبول بعضه:
* لقي رجل الشعبي، وهو واقف مع امرأة يكلمها، فقال الرجل: أيكما الشعبي؟ فأومأ الشعبي إلى المرأة وقال: هذه!
أقول: أهل الغفلة كثيرون، كذلك الرجل الذي سأل الشاعر الأعمى بشار بن برد حين كان في ضيافة الخليفة المهدي، وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري، فأنشده قصيدة يمدحه بها، فلما أتمها قال له يزيد: ما صناعتك أيها الشيخ؟ فقال له: أثقب اللؤلؤ، فقال له المهدي: أتهزأ بخالي؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما يكون جوابي له، وهو يراني شيخاً أعمى ينشد شعراً.. فضحك المهدي وأجازه!
* وجاء بعض طلبة العلم إلى الأعمش يوماً، فخرج للقائهم، وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت. أقول: وكم من امرأة (طفّشت المسكين جوزها) وبغّضت إليه المقام بالبيت، وحببت إليه الخروج بل الفرار، خصوصاً صاحب الزوجتين أو الضرائر، كذلك الذي قال:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي بما يشقى به زوج اثنتينِ
فقلت أصير بينهما خروفاً ينعم بين أكرم نعجتينِ
فصرت كنعجة تضحي وتمسي تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يهيج سخط هذي فما أعرو من إحدى السخطتين
وألقى في المعيشة كل ضر كذاك الضر بين الضرتين
لهذي ليلة ولتلك أخرى عتاب دائم في الليلتين
فإن أحببت أن تبقى كريماً من الخيرات مملوء اليدين
فعش عزباً فإن لم تستطعه فضرباً في عراض الجحفلين
* ومن المنقول عن الإمام الشعبي أن رجلاً قال له: إذا نزعت ثيابي، ودخلت النهر أغتسل.. فهل أتوجه إلى القبلة أم إلى غيرها؟ فرد الشعبي: توجه إلى ثيابك التي نزعتها؛ كيلا تُسرق!
* دخل الإمام الشعبي الحمام، فرأى رجلاً بادي العورة بلا مئزر، فأغمض عينيه، فقال الرجل: متى عميت يا أبا عمرو؟! فقال الشعبي: منذ أن هتك الله سترك. قلت: الرجل عار ومتبجح، والجواب – على شدته - يناسب من كان هذا حاله!
* وسئل الشعبي رحمه الله عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فقيل: ألا تستحي؟ فقال: ولم أستحي مما لا تستحي منه الملائكة حين قالت لله تعالى: (لا علم لنا إلا ما علمتنا).
أقول: ينبغي أن نتعلم أدب قول لا أعلم، والوقوف عند حدود ما نعلم دون أن نتجاوزه؛ فإن من آفات عصرنا - خصوصاً في الدعاة – جرأتهم على الفتوى في كل شيء، مهما كان جديداً وغريباً، وهذه جريمة سيسأل الله عنها أهلها!
* وقد رأيت الإمام الشعبي يؤكدها لداود الأودي حين قال له: قم معي هاهنا حتى أفيدك علماً، بل هو رأس العلم. قلت: أي شيء تفيدني؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه علم حسن!
فهل يتعلم الجرآء والمتسورون؟
* قال رجل للشعبي: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليه دم، أترى له أن يحتجم؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. قلت: لأن المسألة ليست من الفقه، بل هي من الطب، فأولى أن يسُأل عنها غيره، وهذا تأكيد للمعنى السابق!
* ومر الشعبي يوماً بابن له صغير، وهو عريان، يلعب في الطين مع الصبيان. فقال لبعض من كانوا معه: انظر إلى هذا الصبي، ما أقذره!
فقال له صاحبه: هذا ابنك محمد! فغلبته روح الدعابة، ففتح عينيه، ومسحهما، ونظر إليه، وتأمل، ثم قال:
شوفوا ما أحلاه! انظروا إليه كيف يتقلب في الطين كأنه شبل. عين الله عليه، ربنا يحميه!
* وجاء رجل إلى الشعبي، فسأله: إني تزوجت امرأةً فوجدتها عرجاء؛ فهل لي أن أردها؟!
فقال له: إن كنت تريد أن تسابق بها فردَّها. قلت: بعض العرب يتعاملون مع المرأة كأنها معزة، فانظر إلى رد الشعبي ما ألذعه!
* وسئل الشعبي: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم. قلت: وهكذا يكون جواب التنطع والتشديد!
* عن محمد بن حميد قال: حدثنا جرير قال: جئنا الأعمش يوماً فوجدناه قاعداً في ناحية فجلسنا في ناحية أخرى، وفي الموضع خليج من ماء المطر، فجاء رجل عليه سواد، فلما بصر بالأعمش عليه فروة متواضعة ظنه من الحمالين، فقال:
قم عبِّرني هذا الخليج، وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال : ﴿سُبْحَانَ الذِي سَخرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنا لَه مُقْرِنِينَ﴾!
فمضى به الأعمش حتى توسط به الخليج، ثم رمى به، وقال: ﴿وَقُل ربِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مبَارَكاً، وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ ثم خرج، وترك الرجل يتخبط في الماء.
* ونشزت على الأعمش امرأتُه، وكان يأتيه رجل يقال له: أبو البلاد، مكفوف، فصيح، يتكلم بالعراب، يتطلب الحديث منه، فقال له :
يا أبا البلاد: إن امرأتي قد نشزت علي، وضيَّعت بيتي، وغمَّتني، فأنا أحب أن تدخل عليها، فتخبرها بمكاني من الناس وموضعي عندهم، فدخل عليها فقال:
يا هنياه، إن الله قد أحسن قسمك.. هذا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا وحلالنا وحرامنا.. لا يغرنك عموشة عينيه، ولا حموشة ساقيه!
فغضب الأعمش، وقال: يا أعمى.. يا خبيث.. أعمى الله قلبك! قد أخبرتها بعيوبي كلها.. اخرج من بيتي.
قلت: كم من ساع للإصلاح، يأتي بعكس ما ابتغي منه..
ويتواصل إن شاء الله تعالى حديثنا عن المشايخ الظرفاء.
وسوم: العدد 693