القاضي إياس.. الفطن الظريف
اسم تاريخي من جيل التابعين، روى عنه الإمام البخاري – رحمهما الله – وقال عنه الجاحظ: إياس من مفاخر مضر، ومن مقدمى القضاة.. كان صادق الحدس، نقاباً، عجيب الفراسة، ملهماً، وجيهاً عند الخلفاء.
وضرب به المثل، حتى جعله أبو تمام المثل المطلق في الذكاء، وذلك في قوله المعروف:
إقدامُ عمروٍ في سماحة حاتمٍ في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ
وذكاؤه وفطنته دفعا الخلفاء إلى اصطفائه، والضغط عليه لتولي القضاء، لما رأوا من رجاحة عقله، وتحيله وصولا لحق..
وفي ذكائه ولفتاته ظرف ذكي، أو ذكاء ظريف، يستملحه أصحاب العقول، ويطربون له؛ فهو يستعمل عقله في تحليل القضية؛ على طريقة رجال البوليس الذين يستفيدون من القرائن وردود الأفعال وقراءة الحال، حتى يحلوا القضية بذكاء وتلطف.
يقول عنه البشيهي في المستطرف: كان من أكابر العقلاء، وكان عقله يهديه إلى سلوك طرق لا يكاد يسلكها من لم يهتد إليها..
وقد ظهرت عليه علائم فطنته صغيراً، في مقتبل أيامه؛ فقد ذكر صاحب "وفيات الأعيان" أنه لاحظ - وهو طفل – أن أباه يؤثر أخاه عليه، فأراد أن يسرق الأضواء بطريقته الخاصة، من خلال كلام حكيم ذكي، وماكر في الوقت نفسه، أطاح به أخاه عن عرش التدليل، وذلك حين قال:
يا أبت تعلم ما مثلي ومثل أخي معك إلا كفرخ الحمام، أقبح ما يكون أصغر ما يكون، فكلما كبر ازداد ملاحةً وحسناً، فتبنى له العلالي، وتتخذ له المربعات، ويستحسنه الملوك، ومثل أخي مثل الجحش الصغير، فأملح ما يكون أصغر ما يكون، وكلما كبر صار القهقرى، إنما يصلح لحمل الزبل والتراب.
وفي سن الرابعة عشرة اختصم إلى قاضي دمشق مع شيخ كبير. ولما كان يلقي حجته قال له القاضي: اسكت فإنه أكبر منك..
فأجاب إياس: الحق أكبر مني ومنه أيها القاضي، وواصل دفاعه! فأسكته القاضي مرة أخرى، فقال له: إذا سكتّ فمن يتكلم بحجتي؟
فقال القاضي المتعجل: تكلم فما أراك تنطق إلا بالباطل.. فقال إياس عندئذ:
لا إله الا الله محمد رسول الله.. أهذا باطل يا شيخ؟
فقال القاضي: تكلم..
فانظر إلى ثبات قلبه، وجرأته وسرعة بديهته مع قوة حجته!
وفي زيارة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان البصرة - قبل أنْ يَليَ الخلافة - رأى إياساً؛ وكان يومئذٍ فتىً يافعاً، لم ينبت شاربُه بعد، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر، وهو يتق دمهم، فقال عبد الملك:
أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى؛ أمَا فيهم شيخٌ يتقدمهم، فقدَّموا هذا الغلام؟
ثم التفت إلى إياس بشيء من الازدراء وقال: يا غلام كم سنك؟
فقال: سني أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر، فقال له عبد الملك: تقدَّم يا فتى تقدم؛ أي:
أنت لذلك أهل؛ فقد قدَّمك علمُك!
وكان يعلم أنه مميز بفطنته وأسلوبه، قال ذات يوم:
ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد. وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني ملك فلان، وذكر حدوده وصفته.
فقلت له: كم عدد شجره؟ فسكت ثم قال:
منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ قلت: من كذا.
قال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت له:
الحق معك، وأجزت شهادته.
ولما أراد الخليفة عُمَر بْن عَبْد العزيز أن يستقضيه وجه رجلاً إِلَى البصرة، فأمره بالمسألة عَن إياس بْن معاوية، والقاسم بْن ربيعة الجوشني، ويفتشهما عَن أنفسهما؛ ليولي أَوْلاهما بذلك؛ فجمع بينهما؛ فَحقَالَ : إياسٌ للرجل: سَلْ عني وعنه فقيهي المصر، الْحَسَن، وابن سيرين، فمن أشارا عليك بتوليته وليته، وكان القاسم يجالسهما، وكان إياس لا يفعل، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فَقَالَ للرجل:
أيها الرجل ليس بك حاجة إلى أن تسأل عني وعنه، اسمع ما أقول لك، وحلف عليه: والله الذي لا إله إلا هو، ما أنا بصاحبِ ما تريدني عليه، ولإياسٌ أعلم به وأقوى عليه؛ فإن كنتُ عندك صادقاً فما ينبغي أن تتركه وتوليني، وإن كنت عندك كاذباً فما ينبغي أن تولي كذاباً!
فوقف الرجل ودخله شك، وهم بتولية إياس؛ فقال: إنك وقفته بين الجنة والنار، فخاف على نفسه ففداها بيمين حانثة، يتوب منها ويستغفر ربه، وينجو بها من هَوْل ما أردْتَه عليه. فَقَالَ الرجل: أَمَا إِذْ فَطِنَتْ لهذَا فأنت أَفْهَمُ منه. وعزم على توليته!
وجاءه قصاب (جزار)، شاكياً سرقة بعض النقود، وقد استطاع بنفسه معرفة السارق، الذي استغنى فجأة، وصار ذا مال كثير، ينفق منه بسرف، فاستغل إياس ذكاءه بشكل جميل، إذ استدعى الرجل والمال الذي عنده، وطلب القاضي إحضار ماء ساخن فوضع به المال (والنقود آنذاك دراهم ودنانير، أو ذهب وفضة)، وبعد قليل لاحظ الجميع ظهور طبقة دهنية على سطح المال الذي أتى به اللص، فقال:
المال للقصاب، وسجن اللص، وعندما سئل عن سر اتخاذ هذا القرار، قال:
القصاب يمسك الدهون بيديه، ويمسك المال، ولا بد من تبقي بعض الدهون على القطع النقدية!
وأتي له برجلين قد اتهما بالسرقة، لمعرفة البريء منهما، فطلب إبريق ماء فخارياً، وتشاغل بها، وبغيره وهو يحدث الناس، ثم أسقط الناء، ليتناثر قطعاً على الأرض، فجفل أحدهما، وثبت الآخر، فقال للذي خاف: اذهب في حال سبيلك، وقال للآخر: أنت أخذت المال، فاعترف.
ولما سئل عن ذلك قال: إن اللص قوي القلب، والبريء يجزع خِلقة، فلو تحرك عصفور لفزع منه.
وتحاكم إليه اثنان فقال أحدهما: إني نزلت إلى النهر لأستحم، ولي قطيفة خضراء جديدة، وضعتها على جانب النهر، وجاء هذا وعليه قطيفة حمراء عتيقة، فوضعها ونزل الماء، ولما طلعنا سبقني، وأخذ القطيفة الخضراء. فقال: ألكما بينة؟ فقالا: لا.
ففكر وتأمل، ثم أمر بمشط فحضر فمشطهما به، فلما فعل خرج الصوف الأخضر من رأس صاحب القطيفة الخضراء، فأمر له بها!
ونظر يوماً إلى رجل فقال: هذا غريب، من مدينة واسط، وهو فقيه كتاب، هرب منه عبد! قراءة متكاملة حدد بها الرجل!
فقيل له في ذلك فقال: أما إنه من أهل واسط فإن في ثيابه أثر تراب واسط، وأما إنه غريب فإنه يمشي ويسأل، وأما إنه فقيه كتاب فإنه لا يميل إلا إلى الصغار، ولا يأنس إلا بهم، ولا يسأل إلا منهم، وأما إنه هرب منه عبد فإنه إذا رأى أسود تلمّحه، ونظر إليه طويلاً!
وهذه فراسة عالية، وحسن قراءة للقرائن، لا يقدر عليها إلا طبيب شرعي، ومخبر مدرب!
وتنازع إليه رجلان؛ ادعى أحدهما أنه أودع صاحبه مالاً، وجده الآخر؛ فقال إياس: أين أودعتَه هذا المال؟ قال: في موضع كذا وكذا.
قال: وما كان في ذلك الموضع؟ قال: شجرة. قال: فانطلِقْ فالتمس مالك عند الشجرة، فلعلك إذا أتيتَها تَذْكُر أين وضعتَ مالَك!
فانطلق الرجل، وقال إياس للمطلوب، وهو يضمر في نفسه أمراً: اجلس إلى أن يجيء صاحبُك. فجلس، فلبث إياس مليّاً يحكم بين الناس، وتشاغل عن الرجل، ثم سأله فجأة:
أترى صاحبَك بلغ الموضع الذي أودعك فيه المال؟ قال: لا.
قال: يا عدو الله إنك لخائن! فأقر عنده، فحبسه، حتى جاء صاحبُه، ثم أمره بدفع الوديعة!
ويشبه هذا ما ورد من أن رجلاً أودع رجلاً كيساً فيه دنانير (ذهبية)، فغاب خمس عشرة سنة، ثم رجع وقد فتق المودَع الكيسَ من أسفله، فأخذ ما فيه وجعل مكانه دراهم (فضية)، والخاتم على حاله، فنازعه، فقال إياس: منذ كم أودعته؟ قال:
من خمس عشرة سنة. فقال المودَع: صدق.
فأخرج (إياسٌ) الدراهم، فوجد فيها ما ضرب منذ عشر سنين، ومن خمس سنين، فقال للمودَع: أقررت أنه أودعك منذ خمس عشرة سنة، وهذا ضَرْبٌ أحدثُ مما ذكرت! فأقر له بوديعته، ودفعها إليه!
ويحكى من فطنته أنه كان في موضع فحدث فيه ما أوجب الخوف، وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، قرأ ردود أفعالهن لما خفن، فقال: هذه ينبغي أن تكون حاملاً ، وهذه مرضع، وهذه عذراء، فكشف عن ذلك، فكان كما تفرس! فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال:
عند الخوف لا يضع النسان يده إلا على أعز ما له، ويخاف عليه، فرأيت الحامل وقد وضعت يدها على بطنها، فاستدللت بذلك على حملها، ورأيت المرضع قد وضعت يدها على ثديها، فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها على فرجها، فعلمت أنها بكر. وهذا ما يسمى في عصرنا بلغة الجسد أو الـــــ Body Language كما يقول المتأنتكون!
وسمع يهودياً يصف المسلمين بالحمق لقولهم: إن أهل الجنة يأكلون ولا يُحدثون، (لا يحتاجون لمرحاض) فقال له إياس:
أفكل ما تأكله تُحدثه؟ قال: لا، لأن الله تعالى يجعله غذاء؟
قال: فلم تنكر أن الله تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء؟
ونظر يوماً إلى آجرة بالرحبة وهو بمدينة واسط، فقال: تحت هذه الآجرة دابة (حشرة أو ثعبان أو نحو ذلك)، فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية، فسألوه عن ذلك فقال:
إني ما بين الآجرتين ندياً من بين جميع تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس.
ومر يوماً بمكان فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك؟
قال: بخضوع صوته، وشدة نباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك؛ فإذا كلب غريب مربوط، والكلاب تنبحه.
وجادله رجل في حرمة النبيذ، فقال: أخبرني عن الماء؟ فقال إياس: حلال..
قال: فالمكسور؟ قال: حلال، قال: فالتمر؟ قال: حلال، قال: فما باله إذا اجتمع يحرم؟!
وهو ترتيب يبدو منطقياً، لكنه خادع، فرد عليه إياس بالمنطق ذاته، فقال:
أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب، أتوجعك؟، قال: لا، قال: فهذه الحفنة من التبن؟ قال: لا توجعني. قال: فهذه الغرفة من الماء؟ قال :لا توجعني شيئاً!
قال: أفرأيت إن خلطت هذا بهذا، وهذا بهذا؛ حتى صار طيناً، ثم تركته حتى استحجر، ثم رميتك به، أيوجعك؟
قال: إي والله وتقتلني! قال: فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت!
وكان في زمانه رجل مشهور بين الناس بالأمانة، فاتفق أن رجلاً أراد أن يحج، فأودع عند ذلك الرجل الأمين كيساً فيه جملة من الذهب، ثم حج فلما عاد من حجه جاء إلى ذلك الرجل وطلب كيسه منه فأنكره وجحده، فجاء إلى القاضي إياس وقص عليه القصة، فقال القاضي: هل أخبرت بذلك أحداً غيري؟ قال: لا .
قال: فهل علم الرجل أنك أتيت إلي؟ قال: لا، قال: فانصرف، واكتم أمرك، ثم عد إلي بعد غد، فانصرف.
ثم إن القاضي دعا ذلك الرجل المستودع، فقال: قد حصل عندي أموال كثيرة ورأيت أن أودعها عندك، فاذهب وهيئ لها موضعاً حصيناً، فمضى ذلك الرجل، وحضر صاحب الوديعة بعد ذهاب الرجل، فقال له القاضي إياس:
امض إلى خصمك واطلب منه وديعتك؛ فإن جحدك فقل له: امض معي إلى القاضي إياس، أتحاكم أنا وأنت عنده. فلما جاء إليه دفع إليه وديعته، فجاء إلى القاضي وأعلمه بذلك. ثم إن ذلك الرجل المستودع جاء إلى القاضي طامعاً في تسليم المال، فسبه القاضي وطرده!
استمر رحمه في حياته وقضائه حتى بلغ السادسة والسبعين من عمره، ثم رأى يوماً من الأيام نفسه وأباه في المنام، يركبان فرسين، ويتسابقان، فلم يسبق أحدهما الآخر. وكان أبوه قد مات وعمره ست وسبعون سنة، ففهّمها الله إياساً، إذ إنه عندما أوى إلى فراشه قال لأهله: أتدرون أية ليلة هذه؟
قالوا: لا، قال: في مثل هذه الليلة استكمل أبي عمره، ولما أصبح وجدوه ميتاً، ليعرفوا تأويل رؤياه – كما عبرها هو - أنه سيموت بمثل عمر والده..
فحتى بعد وفاته ظهرت فطنته.
رحم الله التابعي القاضي الفقيه الموفق، أستاذ لغة الجسد، والفراسة، وعلم القرائن.
وسوم: العدد 694