موقف محمد إقبال من القاديانية
حين أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مصدرا مهما للكثيرين في المعرفة عمت الفوضى وصار كل شيء ساذجا وسطحيا، وأصبحت أمهات القضايا تناقش في صفحات يديرها مراهقون فكريا ، و تنقلها قنوات إعلامية دون احترافية ولا ضوابط مهنية ، فتفسد من حيث تريد الإصلاح، وتروج لكل ناعق حتى صارت تقوم بوظائف عكسية بتقديم خدمات مجانية لدعوات الفكر الهدام الذي يهدف لزعزعة هوية ووحدة الأمة الإسلامية ، كالتنصير و التشيع وآخر شيء يصدع رؤوسنا هذه الأيام نحلة القاديانية ...وبحكم تخصصي سأتكلم في هذه المقالة عن دور رجل من رجالات الإسلام المعاصرين هو المفكر الكبير وشاعر الإسلام محمد إقبال(1837/1938م) -رحمه الله- الذي شهد ولادة هذه النحلة و يعرف عنها أكثر من غيره بحكم ثقافته الهندية فقد ولد وعاش في شبه القارة الهندية قبل الانقسام (حيث كانت تضم كل من بنغلاديش والهند الحالية وباكستان) ..وأجاد اللغة الأوردية والفارسية وأيضا ثقافته الإسلامية المتشبعة من تراث التصوف السني الغالب على تلك المنطقة ..كما يعد إقبال من أشهر دارسي الفكر الغربي وممن تعمق فيه ونقده وعاش في عواصم أوربا مدة زمنية معتبرة ..فكان لهذا التنوع الأثر الكبير في البنية الفكرية لإقبال فهو مفكر مسلم خارج السياق العربي و أعطى إضافة هامة للفكر الإسلامي المعاصر لا تخفى على ذي لب.
تنسب الأحمدية أو القاديانية إلى شخص اسمه –الميرزا غلام أحمد- المولود سنة 1840م،من عائلة معروفة –كما يذكر هو نفسه مفتخرا- بالولاء للإنجليز والتفاني في خدمتهم ، أعلن عن نبوته سنة 1902م ، في رسالة وجهها إلى أعضاء ندوة العلماء آنذاك أسماها "تحفة الندوة" مما جاء فيها :"..وأنا نبي من أنبياء الله ، وتجب على كل مسلم طاعتي...".وأهم ما دعا إليه هو إسقاط فرضية الجهاد بقوله:" وألغي الجهاد في عصر المسيح الموعود إلغاء باتا"..كما جعل قرية "قاديان" مزارا لأتباعه بدل مكة المكرمة، بعد ظهور هذه النحلة ووضوح توجهها و عملاتها للاستعمار الإنجليزي وقف محمد إقبال ضدها بقوة ، وأخرجها من دائرة الإسلام وأعلن ذلك صراحة في عديد المقالات التي كتبها، وعن هذا يقول "مسعود عالم ندوي" :"ولصاحبنا –إقبال- مأثرة جليلة أخرى في باب الدعوة الدينية والدفاع عن حرمة الدين المبين ، لا تنسى أبد الدهر ، ولو لم يكن من أعماله الجليلة الخالدة إلا هذه المأثرة العظيمة لكفته فخرا ، ألا وهو موقفه الجليل المشهود بإزاء النحلة القاديانية الضالة المضلة ...إن الزعيم "جواهر لال نهرو" كتب مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الدينية حركتهما ضد القاديانية ويؤيد جانب القاديانية ، وفي مثل هذه الأحوال انبرى المسلم المؤمن محمد إقبال للدفاع عن حظيرة الإسلام ..فنشر تصريحات عديدة في الصحف بين فيها موقف الإسلام إزاء هذه النحلة ، وأماط اللثام عن خدماتهم للاستعمار البريطاني وتمسكهم بأذياله"،بالطيع لم يعجب دعاة القومية هذا الموقف لإقبال لذلك سأله "نهرو"عن سبب فصل هذه النحلة عن جماعة الإسلام ووضح إقبال السبب بمنطق المفكر الكبير ، وأجاب ببساطة أن عقيدة "ختم النبوة" خط فاصل بين المسلم وغيره ،وبين السبب الرئيس في ذلك بقوله:"أن كل مجتمع ينفصل عن الإسلام ويرغب في أن يكون له طابع ديني يقوم على أساس نبوة جديدة يعلن بكفره جميع المسلمين، ويجب أن ينظر المسلمون إلى هذه العقائد كخط جدي على سلامة الأمة الإسلامية لأن نهوض العالم الإسلامي لا يقوم إلا على عقيدة ختم النبوة"...وخيَر إقبال هذه النحلة بين أن يعتبروا أنفسهم أمة واحدة كما فعل البهائيون في إيران ، أو أن يتركوا القول بنبوة القادياني حيث يقول :" أهل الإسلام جماعة دينية حتما لها حدود ثابتة ،أي الإيمان بالتوحيد والإيمان بالأنبياء والإيمان بختم رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم)،الحق أن هذا الإيمان الأخير هو الذي يتميز به المسلم عن غير المسلم ، والأمر الفصل في أن فردا أو جماعة يعتبرون داخلين في الملة الإسلامية أو خارجين عنها ..." يذهب إقبال إلى تشخيص هذه الظاهرة ليعود محملا جزء كبيرا من المسؤولية للمسلمين ودورهم في الحفاظ على كيانهم والجزء الآخر حمله للحكومة الهندية وفي هذا كتب يقول :"إن المسلمين لم يفكروا قط في مسألة ختم النبوة من ناحية مدنية، والثقافة الغربية قد أنستهم شعورهم بحفظ أنفسهم أيضا ...لكن السؤال هو: ما طريق الدفاع؟ الطريق الوحيد هو أن تقوم الجماعة الأساسية بتكذيب دعاوى كل من تجده يتلاعب بالدين بالقلم واللسان، ثم هل من المعقول أن تلقى الجماعة الأساسية بالمداراة ووحدتها في خطر؟ وأن تصرح للفئة الباغية بالحرية الكاملة وإن كانت دعوتها مليئة بالكذب والشتم، وإن كانت هذه الفئة التي تراها الجماعة الأساسية باغية مفيدة للحكومة ، فللحكومة حق في أن تكافئها وليس للجماعات الأخرى الاعتراض على هذا الحق،ولكن ليس للحكومة أن تنتظر من الجماعة الأساسية أن تغفل عن القوى التي تهدد وحدتها ...ولتقدر عقلية العالم الإسلامي في الأمر الذي يهم وحدة الأمة لأنها قد تضطر إلى القيام بردة فعل للدفاع عن نفسها " وقد تحمل هذه الردود طابعا عنيفا لذلك أعطى إقبال رأيا واقعيا حصيفا بعيدا عن أي احتمالات فيضيف:" أحسن طريق للحكومة –في رأيي- أن تعتبر القاديانيين فرقة واحدة وهذا ما تقتضيه سياسة القاديانيين ، ويكون تعامل المسلمين معهم كمعاملتهم مع بقية أهل المذاهب غير المسلمة "، للإشارة يعتبر إقبال أو من نادى بإقامة دولة تفصل المسلمين عن غيرهم ، فكانت دولة باكستان لكنه لم يشهد ميلادها رحمه الله .. وبما أن إقبال فيلسوف أيضا فقد ناقش عقيدة ختم النبوة نقاشا فلسفيا وأعطاها بعدا غير البعد التقليدي السائد ،ففكرة ختم النبوة عنده تقوم على أنه لم يعد هناك فرصة لشخص ما أن يخدع الناس بأنه نبي جديد ، ولا أن يؤول الختام بأنه الخاتم أو الزينة ليفسح لنفسه مكانا مزيفا بين الأنبياء والمرسلين، ولا أن يمنح لنفسه سلطة فوق سلطة البشر فكل هذا فات أوانه في تاريخ البشر ، ويعدد إقبال مزايا هذه الفكرة –ختم النبوة- فهي تبطل الكهنوت في الإسلام والسلطات الوراثية الطاغية ، وتدعو دعوة صريحة لإعمال العقل والتجربة ، وتؤكد على النظر في الكون والتاريخ كمصدرين جديدين للمعرفة الإنسانية ، دون أن يعني هذا سلطة العقل المطلقة على الوجدان والعاطفة ..وهو ما يوجه الإنسان إلى الإبداع والبحث والاعتماد على نفسه بالرجوع إلى مصدري القرآن والسنة الصحيحة .
لا شك أن القاديانية قد أرست قواعد بمساعدة الاستعمار الانجليزي ، ولا عجب ..ولا شك أن إقبال والندوي والمودودي بينوا وقاموا بأدوارهم على أتم ما ينبغي في حماية ثغور الإسلام ..ولا عجب أيضا ...السؤال لماذا تلقى هذه الدعوات مساحات للانتشار في جسد الإسلام في هذا الوقت بالذات ؟ الأجوبة كثيرة قد نتطرق إليها في كتابات أخرى بحول الله.
نسيم بن علي باحث في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان
وسوم: العدد 714