المثالية المزيفة
لابنتي الغالية
في الآونةِ الأخيرة وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تكتسح النصيب الأكبر من المتابعة، وتأخذ الحيز الأعظم من الأوقات، بات البعض يوثق دقائق التفاصيل التي يعيشها من لحظاتٍ جميلة، والبعض يدوّن الخواطر وينشر التجارب اليومية دون تصنعٍ أو تزييف.
والبعض الآخر أساؤوا استخدام هذه الوسائل بتعدّدها،فلم نعد نرى بريق العفوية والحياة الطبيعية من خلال هذه الشرفة الصغيرة التي فُتحت لنا، بل أصبحت تُصور لنا الحياة على أنها مخمليةٌ نرجسية مثالية،لايعيش فيها إلا الُمنزهون عن الأخطاء والعيوب ، كأنهم من مصافِ الملائكة الذين لايُسمح لهم بالخوض في تفاصيل الحياة البشرية البسيطة الواقعية والذين لاتتشابه حياتهم بسكان العالم الأرضيّ أصلاً.
عالمٌ واسعٌ غريب ، حيث القصص الناجحة، والتجارب الخيالية التي لاتشوبها شائبة..
عالمٌ يتعالم الجميع فيه،وكلٌّ يتعالى بحجة أنه ممسكٌ بمقاليد جميع العلوم ،الكل مثقف والجميع يفتي!
(عالمٌ يتميز بقلة القرّاء وكثرةِ النقّاد)، فهناك ناقد فكري وأدبي واجتماعي وهناك من يفتي في الدين و يصفُ أدويةً وعقاقيرَ في الطبّ!
حتى أنني في إحدى المرات قرأت لناقدٍ جهولٍ تعليقاً له على مقطعٍ لطفلٍ لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات يقرأ آياتٍ يحفظها من القرآن (حفظاً متقناً)، فيكتب معلقاً: بأنه لم يطبق أحكام التجويد بشكل جيد، ومخارج الحروف غير واضحة، واللوم كلُّ اللوم على أبويه اللذين نشرا هذا المقطع!!
نعم اعتدنا على أن نثرثر دون تحديد هدفٍ أو غاية .. نِصف الكأس الممتليء لم يلفت انتباهه ، نظر إلى نصف الكأس الفارغ وأشغل باله .
كلنا نبحث عن عيوب الآخرين بدل أن نتفحص عيوبنا ، هذا الطفل ذو الثلاث سنوات يحفظ ماعجز الكثيرون عن حفظه ، ولعل المقطع مانُشر إلا تشجيعاً للكبار قبل الصغار وليس تفاخراً !
ثم إنك أيها المُتعالم المتفلسف (المثقف) ذو الأخلاق الملائكية لازلت تبالغ في تزكية نفسك بدل أن تترك للناس حق إبداء الرإي فيكَ وفي آرائك ..
ولعل محور حديث هذا الصنف من الناس (والذي غالباً مايعتبر نفسه بأنه هو مركز هذا الكون) يبتديء بـ (أنا) وينتهي عند (أنا) وعناوين السطور كلها مسلطٌ عليها مرضُ الأنا ، لاعلم إلا وأتقنه ولا فن إلا وأبدع فيه، والنقصُ في نظره يعمُ جميع الناس من رؤوسهم وحتى أخمصِ أقدامهم مالم يستحضروا شخصيته المرموقة وكأنها جاءت من كوكبٍ يقطنه الملائكة أمثاله ، طعامه ليس كالطعام، شرابه كوثري ،جماله يوسُفي، شِعره من المعلقات في القرن الحادي والعشرين ثم هو قبل ذلك كله بليغُ عصره وفريدُ دهره!!
ولعل هذه الفئة تستعظم نفسها وهي تنظر لمن حولها بعين الاستصغار وتنتقد كل شيء لايَطْوّفُ بمركزيتها،ويتسللون بمحاولاتٍ ملتويةٍ من أجل تجسيد أنفسهم بالصورة المثالية المفرطة رغم أنها قد تكون مليئة بالغش والكذب على أنفسهم وعلى من حولهم ، عدا عن ألوان التناقض الذي يزيفون به أنفسهم ، فالفرق شاسعٌ بين الصرح الوهمي الذي بنوه وبين واقع الحياة وسننها التي تترامى بين جنبيها أفراحٌ وأتراح ، كمالٌ ونقص ، طولٌ وقصر ، جمالٌ وقبح وكل مافي جوانب الحياة من اتفاقٍ وتضاد.
وأنه من الحكمة أن يتخذ كلٌّ منا لنفسه مذهب (الاعتدال) في كل شؤون الحياة ، (فالتوازن) مطلوبٌ في العالم الواقعي والافتراضي ، ولكلٍّ منهما موازناته ، وفي شؤون الحياة هنالك المناسب والأنسب ، وكل إنسانٍ قيّم على نفسه مسؤولٌ عنها..
فلعله من الخير أن لانجعل أنفسنا أوصياء على أحد ، وأن نحاسب (أنفسنا) ونراقبها وننقدها، بل نقبل النصح لها مع سعينا الدائم لتهذيب صدورنا وطوايا نفوسنا ..
ونحاول أن نمحض أنفسنا الصدق في الأحوال كلها وأن لانترك العوالم الوهميةَ المملة تعشش في خواصِّ حياتنا ولنكن كما نحن ولنعبر عن أنفسنا باطمئنانِ الواثق دون أن نلتفت لغير السماء، بل نحاول الإنتفاع من هواةِ الإنتقاد والتنظير وهم يظنون أنفسهم الكُمّل ، فالنقص كلُّ النقصِ في الذين يعتقدون أن لانقص فيهم..
وإن من سنن الحياة الدنيا : أن لا كمال فيها ، وأن البشر على هذه البسيطة يعتريهم النقص والتقصير، وتطرأ عليهم الغفلةُ وتغلبُ عليهم البساطةُ والعفويةُ وهذا كله قد يكون أساساً للسعادة على هذا الكوكب ، حتى وإن كثرت الأقنعة والمساحيق، وبات الظاهر للناس يشغل البال أكثر من الباطن الذي سوف نقابل به ربّ الناس ..
وسوم: العدد 723