المسيح في القرآن الكريم
للمسيح عليه السلام في القرآن الكريم مكانة خاصة تكاد تكون فريدة لا تساويها صورة أحد من البشر، وقد قدم القرآن الكريم هذه الصورة في آيات بينات قاطعة الدلالة، نعرضها فيما يأتي :
أولاً : الولادة العجيبة :
فالمعتاد في عالم البشر أن يولد الإنسان من أب وأم، أما المسيح عليه السلام فقد ولد من أم عذراء هي السيدة "مريم" عليها السلام، فقد نفخ الله فيها من روحه فحملت به " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" سورة التحريم 12.
ثانياً : ألقاب التقديس للمسيح : وقد خلع القرآن الكريم على المسيح ألقاباً عظيمة، منها :
أنه كلمة الله وروح منه : يقول تعالى : " إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" سورة النساء 170 .
• وأنه وجيه في الدنيا والآخرة : يقول تعالى : " إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" سورة آل عمران 45. والوجاهة في الدنيا هي النبوة، وفي الآخرة هي الشفاعة " تفسير البيضاوي صفحة 99.
ثالثاً : معجزات المسيح :
• الخلق : أشار إليه قوله تعالى : "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك... إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني" سورة المائدة 110
• إحياء الموتي وإبراء المرضى : وقد ورد في القرآن على لسان المسيح قوله : "وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتي بإذن الله " سورة آل عمران 49 ، والأكمه هو من ولد أعمى، والبرص هو المرض الخطير الذي يشفى عادة .
• العلم بالغيب : جاء في القرآن الكريم على لسان المسيح نفسه : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " سورة آل عمران 49
رابعاً : صفات المسيح وعصمته عن الخطايا :
من أوصاف المسيح التي وردت في القرآن الكريم أنه "غلام زكي" كما جاء على لسان جبريل عليه السلام مع مريم عليها السلام : "إنما أنا رسول ربكِ لأهبَ لك غلاماً زكياً " سورة مريم 19 ، وقد أجمع المفسرون (الطبري والرازي والزمخشري) أن " زكياً " تعني صافياً نقياً بلا خطية.
ويضيف القرآن الكريم من صفات المسيح أنه كان مباركاً حيثما كان؛ كما جاء على لسانه عليه السلام : " وجعلني مباركاً أينما كنتُ " سورة مريم 31 .
خامساً : قيامة المسيح بعد الموت : جاء في الكتاب المقدس : حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ : «يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال" (إنجيل متى 12: 38-40) ومن المتفق عليه بين المسيحيين – مع بعض الاستثناءات القليلة – أن المسيح صُلب يوم الجمعة، وقام من الأموات يوم الأحد التالي له مباشرة، أما - نحن المسلمين - فلا نعتقد بصلبه ولا بموته بل رفعه الله إليه، كما ثبت في القرآن الكريم (سورة النساء 157و 158).
رد شبهة ألوهية عيسى عليه السلام :
يستند النصارى على الصفات التي وردت في القرآن الكريم وما يقاربها في الإنجيل؛ فيبنون على هذه الصفات اعتقادهم أن المسيح "إله" أو هو "الله" أو "ابن الله" ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . ونفصل فيما يأتي الردود على هذا الاعتقاد الفاسد :
أولاً : إن وصف المسيح بأنه ( روح من الله ) لم يختص بها المسيح وحده، فقد خلق الله عز وجل "آدم" عليه السلام بنفخة من روحه سبحانه : "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" سورة الحجر28 و 29 ، ومع هذا لم يقل أحد من المسلمين ولا النصارى ولا اليهود إن آدم ابن لله ولا أنه إله !! ومن ثم فإن تأليه المسيح بحجة أنه خلق بنفخة من روح الله هي حجة مردودة جملة وتفصيلاً، وتأكيداً لهذه الحقيقة يعود القرآن الكريم في موضع آخر فيثبت الشبه بين آدم والمسيح وأنهما خلقا من تراب كما خلق بقية البشر، فقال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) سورة آل عمران 59 .
ثانياً : تأليه عيسى بحجة أنه يحيي الموتى ويشفي المرضى : وهي كذلك حجة مردودة على لسان عيسى نفسه فهو يرجع هذه المعجزات إلى الله عز وجل، ولا يدعيها لنفسه؛ فيقول : "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" سورة آل عمران 49 . فالمسيح كما نرى في هذه الآية الكريمة يرجع كل هذه الأفعال إلى الله تعالى فيكرر بعد كل عمل قائلاً أنه فعله ( بإذن الله ) علماً بأن إحياء الموتى لم يختص به عيسى وحده، بل جرى على أيدي أنبياء آخرين، ولم يرفعهم أقوامهم إلى مصاف الإلوهية كما فعل النصارى، من ذلك مثلاً إحياء الطير على يدي إبراهيم عليه السلام (سورة البقرة 260) وإحياء الفتى القتيل من بني إسرائيل على يدي موسى عليه السلام ( سورة البقرة 73) فهذا الإحياء إنما هو معجزات حصلت على أيدي هؤلاء الأنبياء بإذن الله تعالى، لا بقدرة خاصة في أحد منهم عليهم السلام، بما فيهم المسيح نفسه؛ ومن ثم فلا دليل على ألوهيته المدعاة استناداً إلى إحياء الموتى على يديه !!
ومثله إبراء المرضى على يدي المسيح؛ فكل هذا حصل بأمر الله عز وجل على سبيل المعجزة، فلا دليل فيه على ألوهيته !! علماً بأنه وردت آثار عديدة في سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تضمنت إبراء أمراض مستعصية على يديه صلى الله عليه وسلم؛ ولم يدع أحد من المسلمين ألوهية النبي بهذه الحجة .
والخلاصة : أن القرآن الكريم أنصف المسيح عليه السلام فخلع عليه كل صفات الكمال والقداسة باعتباره من أولي العزم من الرسل ( نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى ، محمد ) عليهم السلام جميعاً .
أما نفي القرآن الكريم صفة الألوهية التي يدعيها النصارى للمسيح عليه السلام فهذا النفي من القرآن الكريم لا يقلل من مكانة المسيح عندنا نحن المسلمين؛ بدليل أن هذا النفي يأتي في الوقت الذي يضع فيه القرآن المسيح في المكانة اللائقة بين الأنبياء الكبار "أولي العزم"
ومن الثابت عندنا - نحن المسلمين – أننا لا نفرق بين أحد من الرسل والأنبياء ، فجميعهم عندنا سواء ، وهم جميعاً عندنا صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير والرشاد، ونحن نقر بأن كل ما جاؤوا به إنما جاؤوا به من عند الله ، وأنهم جميعاً دَعَوْاْ إلى طاعته عز وجل . ولم يدع أحد منهم الألوهية ولا البنوة لله عز وجل .
وسوم: العدد 746