وثيقة المدينة: أول دستور للمواطنة في الإسلام

د. سعد الدين العثماني

مقتطفات من كتاب “الدين و السياسة تمييز لا فصل” للدكتور سعد الدين العثماني

الحلقة الثالثة

 وهي وثيقة تنظم العلاقات داخل المدينة بين المسلمين، وبينهم وبين المجموعات البشرية الأخرى وخصوصاً اليهود.

 وتعرف هذه الوثيقة تاريخياً باسم الصحيفة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة.

 وقد جاء في هذه الوثيقة:(( بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من محمد النبي الأمي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة من دون الناس ).

 إلى أن قال: ( وإن من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم ). ثم يقول:(وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أثم ).

 ثم ذكرت الوثيقة تسع قبائل يهودية واحدة تلو الأخرى، تنصُّ في كل مرة على أن لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيفُ إلى ذلك إلى أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم. وتقرّر الوثيقة بعد ذلك على أن ( على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم ).

 إلى أن تقول:( وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى نصر يصالحونه ، ويلبسونه فإنهم يصالحونه، ويلبسونه ).

 فهذه الوثيقة يمكن أن تكون الأولى من نوعها في التاريخ تضع أسساً متقدمة للاجتماع السياسي على أساس التعددية وحرية العقيدة والعبارة. وتجعل المقيمين في دولة المدينة المنورة جميعاً، مهما اختلف دينهم مواطنين فيها، (أمة ) بتعبير الصحيفة، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين .

 وهذه الوثيقة في تفاصيلها الكثيرة تصرف نبوي بوصفه رئيساً للدولة، لكنها في توجيهاتها العامة تعكس المبادئ الإسلامية العليا التي يجب أن يتخذها المسلمون نبراسهم في واقعهم السياسي وفي دأبهم لتطويره .

خلاصات في قضايا الإصلاح السياسي :

 رأينا كيف أن أي تجربة سياسية في التاريخ الإسلامي ليست نموذجاً شرعياً يقاس عليه، وليست مقارباته، ولا حتى مصطلحاته جزءاً من الشرع أو الدين.

 وعلى هذا الأساس المنهج الواضح يمكننا بسهولة تناول الخطوط العامة لرؤيتنا لبعض القضايا المرتبطة بالإصلاح السياسي .

1-               إذا كانت الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بطريقة مباشرة وغير مباشرة، فإنه من الخطأ البين تصوير أي تعارض بينها وبين الإسلام .

-والسبب الأول لذلك هو أن الإسلام لم يضع شكلاً محدداً للحكم ولا لمشاركة المواطنين فيه، بل ترك ذلك للإبداع البشري وتطويره بحسب ما تمليه مسيرة الإنسان الحضارية .

 وأي شكل جديد يقرب من النموذج المأمول فهو ليس فقط مرحباً به ، بل من الواجب ديناً ودنيا الاستفادة منه إلى أقصى درجة ممكنة .

ومن الخطأ أيضاً وضع مقابلة أو تناقض بين الشورى والديمقراطية؛ لأن الشورى مبدأ وليست طريقة للحكم . ونماذج تطبيقها في الواقع الإسلامي هو صيغ تاريخية اجتهد المسلمون في وضعها ، ولا يمكن إلزام من بعدهم بالجمود عليها . وهكذا فإن أموراً مثل : أهل الحل والعقد وطريقة اختيار الحاكم ، ومدة ولايته، ووضعية مواطني الدولة فيها ، وغيرها إنما عالجها المسلمون على حسب ما تسمح به ظروفهم الحضارية ومستوى تطور البشرية وليس بالشكل الذي تمليه المقاصد العامة للإسلام .

 وهكذا فإن كون الدولة في الإسلام دولة مدنية، تستمد مشروعيتها من مواطنيها، يجعل المسلمين منفتحين باستمرار لتطوير نموذج الحكم على حسب ما تبدعه البشرية من آليات ونظم، قادرين على تمثل النموذج الديمقراطي في أعلى صوره، بل وإغنائه بمبادئ وقيم تعطيه العمق الاجتماعي والبعد الإنساني الواسع .

لكن الديمقراطية لا يتم تنزيلها في جميع المجتمعات بنفس الطريقة .

 فإضافة إلى الفروق المعروفة بين الديمقراطية الغربية نفسها، فإن من المشروع أن تقوم مجتمعات العالم الثالث ، وفي مقدمتها مجتمعات العالم الإسلامي بملاءمة الديمقراطية مع مبادئها الدينية وأنماطها الحضارية .

 وينبني على هذا الأمر على أساس أن بناء الديمقراطية عملية متواصلة تتكيف مع زمانها ومكانها ، وليست وصفة جاهزة يتم استيرادها . لكن أياً كان الأمر فإن إرادة الشعب هي الحكم في كل ذلك .

 ولا يجوز أن يحكم الناس إلا بما يرتضونه وبالطريقة التي يوافقون عليها وهذا هو جوهر الديمقراطية .

 ومن الأمور التي تطرح عادة عند الحديث عن الحركات الإسلامية هو موقفها من تطبيق الشريعة ، وقد شوه لفظ الشريعة لدى كثيرين حتى أضحى بعبعاً مخيفاً فقد وقع بالأساس اختزال اللفظ، الذي يعني في الأصل مجموع الدين، إلى بعض العقوبات الجنائية . لذلك لا بد من وضوح تام في التعامل مع موضوع القوانين والتشريعات .

 من جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع وإذا كان الإسلام يقرر أن لا إكراه في الدين .والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي أحد عليه ، فمن باب أولى أن يطبق الأمر على ما دون الإيمان من شعائر الدين وشرائعه .

 ومن جهة أخرى فإن إيمان المرء بأمر لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين بل عليه إقناعهم به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية فلا يمكن أن يعطى الحاكم حق فرض القوانين على الناس .

 ويمكن أن يتساءل البعض ما هي الضمانة حتى لا يخرج الناس في تشريعهم عن محاكمات الدين ؟

 والجواب الضمانة هي الأمة التي قررت النصوص الحديثية أنها لا تجتمع على ضلالة . فهي لا تتبنى بشكل عام أمراً يناقض الشريعة ..والحزب الجمهوري في أمريكا عندما يحرم الإجهاض فإن يفعل ذلك بوازع ديني ولكن يحاول أن يقنع المجتمع ويجعله قانوناً .

 والخلاصة لا يجوز لدولة التدخل في شؤون اعتقاد الناس وفرض تصورات دينية عليهم بل مهمتها تدبير الشأن العام في إطار القيم العامة للمجتمع ، وما يقتضيه ذلك من احترام عقيدة الأمة وعدم الاستخفاف بها.

 وواجب الأحزاب الإسلامية محاولة الإصلاح بشكل ناجح، كما فعل يوسف الصديق -عليه السلام- بمصر عندما تولى خزائن الأرض في مجتمع كافر، فوضع الخطط لإنقاذ المجتمع من المجاعة .

 أما الدعوة والتربية ومعالجة الظواهر الاجتماعية فهي أساساً مهمة العلماء والهيئات الدعوية في المجتمع.

وسوم: العدد 752