الجاه الذي يقتنى بالمال أوهن من بيت العنكبوت
لفظة جاه تدل على القدر والمنزلة ، ويقال فلان عريض الجاه إذا كان ذا شرف ومكانة بين الناس . ويقول اللغويون أن الجاه مقلوب عن الوجه . ومعلوم أن الوجه هو ما يقبل من كل شيء ، ويطلق أيضا على الشرف والسيادة ، فيقال الوجه لسيد القوم وشريفهم . والفعل منه وجه ـ بفتح الواو وضم الجيم ـ والمصدر منه الوجاهة وهي المكانة والقدر والشرف والسيادة والمنزلة .
ومعلوم أن الجاه أو الوجاهة بغية كل إنسان في هذه الحياة يطلبها ويلتمسها بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق الذات وإشباع رغبة متأصلة في طبع الإنسان . والوجاهة نعمة من الله عز وجل ينعم بها على من يشاء من عباده ،وقد خص بها أصفياءه من الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، فقال في حق المسيح عيسى بن مريم عليه السلام : (( يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين )) كما قال في حق موسى عليه السلام : (( وكان عند الله وجيها )) . وجعل سبحانه لأوليائه نصيبا من الوجاهة وإن كانت لا يرقى إلى درجة وجاهة الرسل والأنبياء، كما جعل للعلماء ولعباده المؤمنين نصيبا منها . وعلى قدر استقامة الإنسان على الشكل الذي يرضي الله عز وجل يكون نصيبه من الوجاهة ، وهي وجاهة في العاجل والآجل كما ورد ذكرها في مواطن كثيرة من كتاب الله عز وجل ، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يلتبس على بعض الناس أمر الوجاهة بأمر الثروة والمال ، فيعتقدون أن كل ذي مال وثروة يكون بالضرورة وجيها وكأن الوجاهة مما يقتنى بالمال ككل المقتنيات . صحيح أن المال والثروة قد يكونان وسيلة لبلوغ مرتبة الوجاهة إذا كان صاحبهما يوظفهما في الإحسان وفعل الخير، فيكون وجيها عند الناس بإحسانه وكرمه لا بحيازته المال والثروة ، وفي هذه الحال يكون الكرم هو من يبلغ بصاحبه مرتبة الوجاهة وليس مجرد امتلاك المال، ذلك أن صاحب المال البخيل لا حظ له في الوجاهة بل بالعكس يجلب له بخله المذمة والمعرة ، ولا يجديه ماله نفعا .
وقد يعوّل بعض المغمورين أو الوضعاء ومنحطي القدر بين الناس على الثروة للحصول على الجاه أو الوجاهة ، فيكون شأنهم كشأن العنكبوت حين تتخذ أوهن البيوت كما جاء في الذكر الحكيم . ومعلوم أن العناكب تتخذ بيوتا من لعابها الذي يصير نسيجا ، و يكون عبارة عن خيوط مشدودة إلى بعضها ، وتشد في آخرها بين طرفين من شجر أو جدران أو غير ذلك، وقد سميت بيوتا لشبهها بالخيام المنسوجة والمشدودة بالحبال . وتضرب مثلا لقلة جدوى الشيء . والوجاهة إذا طلبت بالمال والثروة تكون كبيت العنكبوت . ولقد ضرب الله عز وجل أمثلة في القرآن الكريم للوجاهة التي كانت تطلب بالمال والثروة ، فتزول بزوالهما . ومن تلك الأمثلة صاحب الجنة الذي دخل جنته وهو ظالم لنفسه يتوهم حصوله على الجاه والوجاهة بها ،فأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، فزالت وجهاته المتوهمة بخراب جنته .
وما أكثر الأمثلة عن الذين طلبوا الوجاهة بالثروة والمال ،فلم يدركوا منها شيئا ، وتبخرت وجاهتهم المتوهمة وظلوا حيث كانوا ضعة وتفاهة وغمرة لا يبارحونها.
ويعرّض طلاب الوجاهة الزائفة بالثروة والمال أنفسهم لسخرية الساخرين ، ويتألمون لذلك شديد الألم خصوصا حين يتظاهر لهم الطامعون في أموالهم وثرواتهم بأنهم يعتقدون بوجاهتهم ،وهم في الحقيقة إنما يخادعونهم ويسخرون منهم باعتقاد مكذوب لا يخفى عليهم كذبه لأنهم في قرارة أنفسهم مستيقنون أنه لا جاه ولا وجاهة حقيقيين لهم ، وأن ثرواتهم وأموالهم لم تحقق لهم حلم امتلاكهما ، وأن شهرتهم بين الناس سرعان ما تتبخر .
ومعلوم أن أصحاب الجاه والوجاهة الحقيقيين لا يضيرهما زوال ثروة أو مال لأنهم اكتسبوا الجاه والوجاهة من طرق غير طرق المال والثروة .
وأشد الناس بلادة من لا يتنبه إلى أنه ليس بذي جاه ووجاهة بسبب ماله وثروته . وقد يوصل المال والثروة إلى أعلى المناصب التي لا تكسب أصحابها جاها أو وجاهة لأنها هي الأخرى أدركت بالثروة والمال ، ولما كان هذان لا يعطيان جاها ووجاهة ،فإن شأن ما أدرك بهما كشأنهما وفق قاعدة ما بني على باطل فهو باطل .
وكم من زعيم في هذا العالم أوصله ماله وثروته إلى مراكز صنع القرار، فأدرك ما يدرك بالمال ،ولكنه أعجز ما يكون عن إدراك ما لا يدرك بالمال من جاه ووجاهة. ومشكل أمثال هؤلاء أنهم يحصّلون ثرواتهم وأموالهم بطرق غير مشروعة ، ويعتقدون أن أمر الجاه والوجاهة كأمر تلك الثروات والأموال يمكن الحصول عليهما بطرق غير مشروعة أيضا ،وما ذلك بكائن أبدا . وقد يسطو البعض من هؤلاء على ثروات وأموال الشعوب، وهم بذلك مجرد لصوص فيحاولون كسب الجاه والوجاهة بتلك الثروات والأموال المسروقة المنهوبة . ويتجلى لهثهم في طلبهما من خلال منجزات مثيرة للسخرية كتشييد الأبراج العالية والقصور الفاخرة، واقتناء المقتنيات النادرة ، ويكون كل ذلك سعيا لاهثا وراء الشهرة عسى أن يدركوا مرتبة الجاه والوجاهة ،وما هم بمدركين ذلك أبدا شأنهم كشأن باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه أو كشأن القابض على الماء .
ونختم بالقول من لم يجعل الله عز وجل له جاها ووجاهة فما له من جاه أوجاهة .
وسوم: العدد 753