الأصول الجمالية للأدب الإسلامي، الجمال والجمال الأدبي، بين الاحتفاء والإسقاط

1. عتبة الجمال مدخل عام :

الجمال صبغة الله في خلقه وهو الجميل المتعال , الذي جلت حكمته وعمت رحمته , فجعل الجمال المظهر المسيطر على الحياة والمخلوقات , ومن علامات رحمته أن جعل الجمال يسري ويتغلغل في حياة المخلوقات , حتى تعيش حياة الأنس  والطمأنينة بهذا الجمال الذي يمتد في نسيج الوجود ,كما يمتد الماء الذي يسري في خلايا الغصن الأخضر فيعطيه الخضرة والينع والثمر .

هذا الجمال الذي يعمر أرجاء الكون , في الأرض والسماء في الحيوان والنبات , والطيور والنجوم , والكواكب والجبال والبيئة  والهواء والماء , وهو جمال عامل فاعل لا ينفك عن الوظيفة التي برأه الله من أجلها , فهو جمال مؤنس للمخلوقات مؤنس للبشر , ويشير إلى خالقه ومبدعه وهو كذلك نعمة ممنوحة لهذا الإنسان الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (1)) جمال في شكله وقوامه المعتدل وبتفاصيل أخرى كثيرة  منها قولة تعالى : (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين (2)) , نعم خلقه في هيئة متكاملة في جمالها , وزرع الجمال في طبعه وفطرته , وجعله محبا للجمال باحثا عنه صانعا له , متذوقا له , متعلما منه .

وعندما  رأى هذا الإنسان الجمال في طبعه , ويحيط به من كل جانب , وأن فطرته تلح عليه بتتبع هذا الجمال وملاحقته والانجذاب له , اصطنع لنفسه الجمال في حياته فيما صنعه لنفسه وأبدعه في الفن والأدب والبيوت والحدائق والشوارع والمدن ، والفراش والملابس والسجاد والصناعة ، والبناء والتجارة والزخارف والدعاية والإعلام والإعلان والعلوم والثقافة والتعليم ,حتى أدخل ذوقه الجمالي في صناعة طعامه , فالمثل يقول :( العين هي التي تأكل ) لأن التذاذ العين بمنظر الطعام وطريقة عرضه الجميلة في الإناء , هي التي تحرك شهوة النفس للإقبال عليه , وانظر إلى قوله تعالى : ( فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين (3)) , وتصديق ذلك , أن أي نوع من الطعام عندما يعرض بشكله الطبيعي ، وإخراجه المحبب تقبل النفس عليه برغبة وشدة , ولكننا لو وضعنا هذا الطعام في الخلاط وقام بخفقه وقدمناه للاّكل , فإن النفس تعافه وتنفر منه ولا تقبل عليه , لأنها تراه بعد خفقه أشبه بكومة من العجين , فما الذي حدث أو تغير ؟ مع أن القيمة الغذائية  لهذا الطعام المخفوق لم تتغير .

الذي حدث هو أن الخلاط حطم العنصر الجمالي لعرض هذا الطعام فحصل النفور , ولم تعد كومة الطعام المطحونة تلذ للأعين ولا تشتهيه الأنفس .

أما في الأدب الذي يعبر عن موقف الإنسان من جدوى الحياة وقيمته في النفس , فالجمال يشكل العمود الفقري للأدب والفن, بل وبه يتميز الأدب عن أنشطة العقل الإنساني الأخرى كالعلم والفكر, لأن الأدب يقوم على البناء الفني والبلاغي والنوعي الذي يتميز به النوع الأدبي .

2. لا جمال بدون وظيفة:

الجمال سلاح خطير ،  يمكن أن يوظف في خدمة الخير , ويمكن أن يوظف في خدمة الشر ، حين يزينه في قلوب الناس , وقد استعمل الشيطان هذا السلاح في إغواء اّدم عليه السلام وزوجه وإخراجهما من الجنة , وذلك حين  زين لهما الأكل من الشجرة الممنوعه.

الحق جميل بذاته , والجمال ظله الذي لا ينبت عنه ولا يفارقه , بالجمال يزداد الحق وضوحا وتألقا , بل إن الحق هو الذي يمنح الجمال قيمته ، ويجعل له مقاما, وذلك حين يضعه في وظيفته الشرعية التي أرادها الله له , لينفي عنه الخبث والعبث , ويحميه من الاستغلال أو التوظيف في خدمة الشر وتزيين قيمه الفاسدة , فيظهر الباطل وينكشف قبحه , وبذلك يحمي الناس من الوقوع في حبائله .

الجمال في الحق طبع وأصل، وخلق لا يفارقه ولا ينفصل ولا ينغسل ، والجمال في الباطل صبغة خارجية قابلة للذوبان , وهي أشبه بطبقة الزينة أو بطبقة المكياج الذي يخبئ الوجه القبيح الزائف .

وإذا أردنا أن نتقن أمر الله في الأدب فعلينا أن نجوده ونحسنه ونعطيه حقه من الإتقان الجمالي ،  لقوله صلى الله عليه وسلم :(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه(4)) وفي الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم :( إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة هو صلاته(5))  لماذا؟ لأنها عمود الدين , وكذلك الأدب يمكن أن نقيسه على هذا الحديث , فكما أن الصلاة عمود الدين , فكذلك الجمال عمود الأدب , فإذا صلح العمل الأدبي جماليا وفنيا وحقق المستوى المطلوب الذي يثبت أدبية الأدب , ينظر فيما تبقى من العمل الأدبي (النص) من المضامين والموقف والصدق الفني والشعوري وغيره , وإذا هزل الجانب الجمالي الفني أهمل , لم يكترث له , لأن الإتقان للعمل الأدبي مطلب شرعي وأدبي ونقدي لا تهاون فيه .

ومن دواعي هذا الأمر أن الأدب لا يمكن أن يحقق القدرة العالية على التأثير ،  والفائده التي تصنع وظيفة للأدب إلا بهذا الإتقان , وذلك بسبب الترابط الشديد بين طبيعة الأدب ووظيفته و حيث يتناسب تأثيره تناسباً طرديا مع حركته قوة أو ضعفا , لأن الناس لا يتفاعلون مع الأدب الضعيف , ولكن الذي يشدهم هو جمال الأدب القوي الجاذب , وهو الذي يؤثر في أذواقهم ومزاجهم وسلوكهم وتوجيه اختيارهم .

والأدب سلاح جمالي يسوق المواقف والأفكار ويزينها من خلال فنونه المختلفة , وذلك حين تصنع هذه الفنون تنمية للمشاعر والمواقف في اتجاهات معينة , تحرض السلوك وتنشط الهمم من خلال التقنيات الفنية المتعددة  مستفيدا من أساليب البلاغة في التحبيب والتزيين والتكريه والتنفير الذي يجر النفس للتاثر نحو الأهداف .

وأكبر دليل على ما نقول ما فعلته التيارات اليسارية  والقومية والليبرالية في الستينات من القرن الماضي في منتجها الأدبي , حيث نشرت أفكارها  عن طريق (الرواية والمسرحية والشعر والمقالة والخطبة وغيرها) وقد سربت أفكارها عن طريق هذه الفنون , وحيث قام الناس بامتصاص هذه الأفكار عن طريق المتعة الأدبية الجاذبة وسحر البيان , وهذا هو خطر (المنطق الأدبي) الذي يختلف عن المنطق (الفلسفي أو العلمي ) لأنه يوصل أفكاره بطريقة غير مباشرة تقوم على الجمال الأخاذ وسحر البيان , ذلك الجمال الذي يأخذ بالقلوب دون البحث عن القناعة أو البرهان أو الحوار بل بالخضوع لتأثير الإيحاء الفني الذي يشعه النوع الأدبي.

3. الجمال وما أدراك ما الجمال ؟

أ. التقارب والتداخل بين الأدب والفنون في الجانب الجمالي وأدواته , غير أن الجمال في الأدب يعتمد على اللغة وتوظيفها في بناء الشكل الجمالي البلاغي الموحي ، الذي يحرك في النفس حالة التفاعل التي يصنعها الأدب محدثا حالة من السرور والاستمتاع , يخرج مكنونات النفس ومواقفها حين تكتشف ذاتها , أو ما يوافق هواها وطبعها وألفتها , أو ما يخالف  هواها وطبعها أو يؤلمها .

ونقصد بالشكل الأدبي الموحي , أنه مصطلح ووعاء جامع حامل وحافظ وناقل ، يحتوي المضمون الذي يحمله ويوصله إلى الاّخرين.

لا يوجد شكل بدون مضمون أو معنى  ، ولا مضمون بدون شكل يحمله ويحفظه ويحميه من الضياع .

والمضمون أو المحتوى الذي تصنعه الأبنية الفنية البلاغية وما يشعه إيحاء هذه الأبنية, يختفي وراء الشكل ، أما الغلاف  الذي ينقله ويحفظه ويخلده في الزمان والمكان ، فهو الشكل الفني الذي أشرنا إليه .

وهذا الشكل الفني المصمم بخطاب وطرائق وأبعاد وتقنيات فنية معينة , تصنع التأثيرات الموحية للنص من خلال أحد الأنواع الأدبية , يتلاحم فيه الشكل والمضمون ولا ينفصل أحدهما عن الاّخر , وهذه صفة الأدب الجميل حيث يتماسك شكله ومضمونه , لأن المضمون هو إشعاع الشكل سواء كان أدبيا لغويا , أو فنيا يعتمد على الريشة أو اللون أو الصوت والتنوع أو الحركات كما في الفنون الأخرى .

ب. تعريف الجمال : (هل هو من الأمور الممكنة ؟ )

يمكننا أن نتحدث عن مواضيع جميله معينة ومحددة , وهو أمر ممكن بحكم التحديد الذي يساعد على حصر الكلام في الجمال , من خلال عنوان محدد يحمينا من الوقوع في التشتت الذي تصنعه العموميات .

وبالطبع لا يمكن تعريف الجمال بعمومه لتغلغله وانتشاره في نسيج الوجود والحياة والمخلوقات , مما يجعله موضوعا صعبا على التناول , لأنه يصعب حصره والإلمام به أو تعريفه .

فالجمال كشعاع الشمس والضوء والنور تشعر به ولا تكاد تمسكه , لأنه يجلل وجه الكون , ويدخل في كيان المخلوقات والأشياء ونظامها , هذا الجمال الذي لا تتفق فيه أذواقنا , بسبب اختلاف قدراتنا في استقباله واستيعابه , لأنه يقوم على المقاربة من خلال الزاوية التي نطل بها على الحياة.

ونحن نرغب في حصر كلامنا عن الجمال في موضوع محدد , هو الجمال الأدبي (علوم البلاغة والفنيات) لأننا بذلك  نحمي أنفسنا من الوقوع لجج وبحار الجمال الذي يغمر وجه الحياة , ويأخذ كل مخلوق منه بنصيب , حتى نتمكن من الكلام في جمال الأدب .

والجمال الذي هو العمود الفقري للأدب , هو من صميم الدعوة النبوية الشريفة إلى إتقان العمل بأفضل صورة ضمن مواصفات أي فن او أي مهنة من المهن إلى حد الاحتراف , كما أن التنازل عن مواصفات الإتقان لأي فن أو مهنة تخدم الأمة , هو نوع من التدليس والغش لها وعدم النصح .

وقد ورد الموضوع الجمالي في القران الكريم مذكرا به من خلال اّيات كثيرة , بمسميات كثيرة , ومن هذه المسميات التي تدل على الجمال  مفردات مثل ( الجمال , الزينة , تلذ , حبب , أحسن تقويم ) وكلها تشير إلى عظمة الخالق وإبداعه الذي جعله في خلقه , وكله جمال مرتبط بالوظيفة ، وليس جمالا عابثا منفصلا عنها , فوجود الكواكب والنجوم في السماء مثلا يعطيها وظيفة الروعة والجمال , وهي أيضاً رجوم للشياطين حين يسترقون السمع للملأ الأعلى, وبها يهتدي الناس في سفرهم لأنهم يجعلون منها علامات لتحديد الجهات الأربع, ومن هذه الآيات الكريمة التي تتكلم عن الجمال , نختار بعضها على سبيل المثال ، ومنها قول الله تعالى في الآيات التالية :

        ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) )

        ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح (7))

        ( يا بني أدم خذوا زينتكم عند كل مسجد(8) )

        ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم (9))

        (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ,وحفظا من كل شيطان مارد(10))

        (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (11))

        (وعلامات وبالنجم هم يهتدون (12))

        ( ولقد خلقنا الإنسان  في احسن تقويم (13))

        (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين(14) )

ونلاحظ أن هذه الاّيات الكريمة ، تذكرنا بالجمال الذي يغطي وجه الكون والمخلوقات , جمال الهيئة , وجمال القوام وجمال الوجه وجمال اللغة والخطاب , وجمال السموات والأرض والمخلوقات والنبات والجماد , وكل ذلك مع كمال الوظيفة التي تنفي العبث وتشير إلى عظمة خالقها العظيم المتعال .

 ج.الأدب والمعادلة الجمالية المركبة :

هذه المعادلة التي تتكون من  :

*( حقائق الواقع  + القيمة الشعورية + الموقف الشعوري + جدوى الحياة = الصياغة الجمالية)

وهي معادلة تشير إلى بعض التيارات النقدية التي تعتبر الشكل الفني هو الأدب وهو المضمار الذي يتبارى فيه الأدباء على السبق في الإبداع وعلى التنافس والتنوع , وقد نسي هؤلاء النقاد أن الأصل في جرثومة هذا الأدب هو ( الموقف الشعوري القلبي ) الذي يحتوي في ثناياه (الرؤية الفكرية وقيمة حقائق هذه الرؤية وجدوى الحياة ) وأن الشكل ما هو إلا حامل لهذا المضمون الذي نسميه (الموقف الشعوري), إنه صراع بين من يمجد الشكل ومن يمجد المضمون , ونسي هؤلاء أن الأولى أن يستوعبوا أن لا شكل بدون مضمون ولا مضمون بدون شكل وان النص هو عبارة عن قطعة ذهبية لها وجهان هما :

   الوجه الأول :

(الشكل الجمالي الذي يحتوي الأبنية البلاغية والفنية والنوعية التي تتمايز بها الأنواع الأدبية المختلفة عن بعضها ) وهو الحامل للوجه الثاني (المضمون )

   الوجه الثاني :

المضمون (القيمة والموقف وجدوى الحياة وفائدتها )

والخلاصة من هذا : أن الأدب الجميل هو ما توازن فيه الشكل الجمالي ليحمل المضمون الشعوري بوضوح واتزان من خلال البنيان الفني اللغوي المتماسك .

4. متى نحتفي بالجمال؟ ومتى نسقطه؟

أ. موقف الشعراء من قضية الإحتفاء والإسقاط :                    

نحتفي بالجمال لأنه من فطرتنا ونسقطه إذا استغله أهل الباطل ونشروا فيه سمومهم ، وليس غريبا أن يشير كثير من الشعراء إلى الاحتفاء بالجمال الأدبي أو إسقاط الجمال الأدبي في أبيات أو مقطوعات متناثرة من الشعر هنا وهناك , ومن ملح الشعراء في هذا الباب قول أحدهم :

    الشعراء    فاعلمن    أربعة          فشاعر يجري ولا يجرى معه

        وشاعر يعيش وسط المعمعة         وشاعر لا تشتهي أن تسمعه(38)

حيث احتفى بشاعرين (شاعر يجري ولا يجرى معه ) و(شاعر يعيش وسط المعمعة ) وأسقط اثنين من الشعراء ( شاعر لا تشتهي أن تسمعه ) و(وشاعر لا تستحي أن تصفعه ).

وشاعر اّخر يقول :

الشعر صعب وطويل سلمه     إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه    يكاد أن يعربه فيعجمه(39)

وفي ذلك إشارة إلى أن المستوى الإبداعي هو المطلوب من الشاعر أن يحققه حتى يحفظ مقامه في ثقافة الأمة .

أما الشاعر الثالث فإنه يقسم الشعراء إلى ثلاثة أقسام معتمدا على مقياس الصدق (الشعوري والفني والواقعي ) فيقول :

وسوق عكاظ فيها الشاعر الصعلوك

وفيها الشاعر المملوك

وفيها الشاعر الشاعر(40)

شاعر انتهازي ,وشاعر تاجر, وشاعر شاعر, ونختمها بشاعر اّخر  يؤكد على احترام الشعر والشاعر لنفسه وإن لم يحصل ذلك فلا احترام له , فيقول :

الشعر ليس حمامات نطيرها        نحو السماء ولا نايا وريح صبا

        الشعر غضب طالت أظافره        ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا(41)

ب. موقف المجتمع من قضية الإسقاط والإحتفاء : 

الذي يحكم على الأدب بالإقبال عليه أو الإسقاط له هو المجتمع وذلك بعد وصول النص إليه , وبعد أن يخرج من ملكية المنتج إلى ملكية المجتمع (المتلقي).

وهنا نريد أن نرصد حالة استقبال هذا النص والإقبال عليه والاهتمام به , أو بتوظيفه في حياة المجتمع أو إسقاط هذا الأدب وإهماله , لنكتشف أن الذي يصنع للأدب وظيفة هو المجتمع , من خلال القراءات المتعددة والتفاعل معها والتأثر بهذه النصوص الصادرة عن المبدعين , من قبل مؤسسات المجتمع وأفراده , والدارس لردود الفعل على هذه القراءات المختلفة في التعامل مع النصوص المختلفة , ويمكن تقسيم الأدب إلى ثلاثة أنواع عريضة بخطوطها  التي تفرزها المحاكمات الاجتماعية القائمة على مقاييس ثقافة الأمة ونظرتها للحياة المرتبطة بثوابتها في: (العقيدة واللغة والتاريخ والأدب والجغرافيا والقيم الحضارية) وهي:

النوع الأول  ( الأدب الراقي ) :

هو الأدب الذي يعترف بالأمة وتعترف به وتحترمه وتتفاعل معه، فتتأثر به وتوظفه في أقوالها ومأثوراتها وحياتها وثقافتها وتسمح له أن يشارك في صياغة ذوقها , هو الأدب الذي يفرض نفسه على المتلقي برقيه وارتفاع قامته الإبداعية , واحترام قيم الأمة التي ينتمي إليها , أدب يجذبنا إليه ونقبل عليه لأنه يعبر عن ذاتنا وإنسانيتنا وموقفنا , وقد حقق ذلك من خلال رقيه الجمالي والفني ومضامينه التي تمثل روحنا وثقافتنا وحضارتنا ومصالحنا , بلغة موصلة مشتركة بيننا وبين المبدع , وفي الأغلب يكون هذا الأدب جامعا للمشترك القومي بين أبناء الأمة الواحدة أو المشترك مع الحياة الإنسانية للجنس الاّدمي , حيث نجح الأديب في صناعة التواصل مع أبناء مجتمعه وأمته او إنسانيته من خلال نصوصه التي خاطبهم بها، وكان حريصا على تطوير أدواته الفنية ليرتقي بأدبه، ولم يصطنع التطور ليخرب ثقافة الأمة , ولم يسمح للباطل أن يتسلل ليخترق نصوصه .

النوع الثاني  ( الأدب الملوث ) : 

ويندرج تحت هذا الأدب أنواع كثيرة من نصوص أصحاب الأهواء الذين أرادوا أن يغطوا الأهواء بالرمزية المغرقة في الغموض تحت مسمى التطوير والتحديث , ولكن رائحة نصوصهم النتنة تطفو على السطح , فتنكشف نواياهم وتظهر في لحن القول , يقولون بألسنتهم ما تغلي به قلوبهم من الكره وما تخفي صدورهم من الحقد والتلوث هو أعظم , وهو في الغالب من الأدب الذي فقد التواصل والانتماء مع القيم المشتركة مع الأمة أو القومية أو الإنسانية , ويمكن حصر بعض خطوطه العريضة في الأنواع الاّتية:

1.أدب خلط جماله بالغموض والتعقيد الملتوي وليس الفني ,وحصر نفسه عن الجمهور بالتطور الزائف , الذي يعبر عن ذوقه الشخصي تحت مسمى حرية الأديب في التعبير , وحرم نصه من الوضوح وسهولة الخطاب , الذي جعله يقع في الحذلقة والإغراق في الزينة والرمزية فأدى إلى نفور الجمهور وإسقاطه لنصوصه المشبوهة الباردة التي لا روح فيها , وقد صنعها صاحبها لتخريب أدب الأمة وغلفها بالغموض والرمزية , حتى لا ينكشف فينفض عنه الناس , كما حصل من تيار قصيدة النثر المرتبط بثقافة العولمة و الحرب الباردة .

2. أدب يفضح نفسه بعنصريته وحقده على الأمة :

ومثاله الأدب الشعوبي الذي يحقد على العرب, ويحاول أن يشوههم , وهذا الأمر مستمر في أطروحات الشعوبية القديمة والحديثة التي تحارب العرب والإسلام بالقوميات المنقرضة التي تعتمد على حفريات الاّثار القديمة : كالفرعونية والفنيقية والسريانية والأشورية , وبالتشيع والتصوف البوذي المنحرف ومحاولات الإحياء الجديدة على يد الطائفية المعاصرة , ودعوات الصوفية المنحرفة إلى إهمال الدنيا ليس بهدف الزهد بل لتدمير حياة المسلمين وتعطيل حضارتهم وتعكير صفوها بنظريات صناعة الفوضى الثقافية في حياتهم حيث عقائد تأليه الأئمة وتناسخ الأرواح وتحليل المحرمات وتعطيل التكاليف وصناعة الكرامات الخرافية للكذابين , الذين يفضلون أنفسهم على الأنبياء، أنظر إلى هذا الصوفي إلي يدعو لتعطيل الحياة وتعطيل الأخذ بالأسباب ويكذب على الله , فيقول :

جرى قلم القضاء بما يكون            فسيان التحرك والسكون

جنون منك أن تسعى لرزق           ويرزق في غشاوته الجنين

لهذا اعتبر أدونيس (الصوفية أعمق ثورة روحية في تاريخ الإسلام ) لأنها تشفي غليل حقده على عقيدة التوحيد فالصوفية تصنع الفوضى الخلاقة التي تؤمن بخلط الأديان في سلة واحدة لا فرق بينهما , من خلال(عقيدة وحدة الأديان، ووحدة الوجود) , وقد سلك أدونيس مسارا يخدم  أعداء الأمة في تخريب فكرها وتدمير حياتها , وجمع هذا الحداثي بين ( نصرة الطائفية والصهيونية والصوفية) في رموزه الفنية ودواوينه الشعرية.

النوع الثالث : (الأدب الضعيف) : 

وهو أدب خداج ضعيف في شكله ومضمونه , وهذا الأدب يحمل علامة سقوطه في ذاته , فهو كأوراق الخريف الصفراء تسقط بذاتها وليست بحاجه إلى الإسقاط , لأنه لا يملك الجمال الذي يحقق طبيعة الأدب القادر على جذب القارىء والتأثير فيه .

فالإسلام لا يتبنى هذا النوع من الأدب ولا يكترث له , لأنه يخالف أمر الله سبحانه وتعالى وهو الإتقان ,وهو يكشف عن ضعف الموهبة التي أنتجته , فالاعتراف به فيه مخالفه شرعية لقاعدة طلب الإتقان , كما أن الاعتراف به هو خيانة للإبداع الذي يوقع المسلمين بالذوق الضعيف ,ويصنع لديهم حالة القبول بالضعف في حياتهم .

ونقصد بالإتقان هنا، الوصول بالأدب إلى مستوى الاحتراف والمهنية والتأثير وتحقيق شروط أدبية الأدب .

كما أن حالة الضعف والاعتراف بالرداءة هو إدخال للضعف في حياة المسلمين حتى لو حمل المضمون الإسلامي المقدس, فلا فرق بين إسلامي يريد أن يدخل عالم الأدب بدون مقومات فنية , وبين علماني يريد أن يدخل عالم الأدب بمقومات عاليه , يسوّق الخرافة وينشر فساده , الأول يستغل الإسلام لأنه انتهازي والثاني يستغل الجمال الأدبي لإنشاء الضرر , وهما في حالهما , صاحب إسلام يتهرب من الواجب الجمالي الذي أمر الله بإتقانه والثاني باطل يتلبس بالجمال , الأول إسلامي يستسيغ الغش والرداءة للأمة والثاني علماني يسوق الباطل ويخدع الناس لأنه يختبئ وراء الجمال ,الذي هو رداء الخير والحق , فهو كالشيطان الذي يخبىء قبحه بقناع جميل .

و ليعلم الجميع أن قداسة القيم الإسلامية لا تسمح للانتهازيين بالتسلق على ظهر الإسلام , فالإسلام لا يجامل المسلم لمجرد إسلامه ,على حساب ما يطلبه الله سبحانه وتعالى من الإبداع والإتقان والمنافسة مع أبناء الجنس البشري حتى يشارك في بناء الحضارة بجهده , ولا يقبل الضعف منه ولا يرضاه له , لأن المسلم ليس متسولا في سلوكه الحضاري،وإنما يصعد طريق المجد والإنجاز بالجهد و الجدارة و الإتقان .

 

 ج. الموقف الشرعي :

    إن نعمة الله التي منّ بها علينا في قوله (علمه البيان)توجب شكر النعمة وتوظيفها فيما يرضي الله وينفع الإنسان، وما دام أن  الشعراء قد فتحوا لنا هذا الباب في الحكم على الجمال الأدبي , وكل أمة ولها ثقافتها الجمالية , التي تمثل ذوقها الجمالي , الذي يتأثر بقيمها وعقيدتها وتفسيرها للحياة والجمال , فالجميل في الإسلام ما جمله الله في شرعه وأمره , والله جميل يحب الجمال , والإسلام يربي المسلم على حب الجمال الصافي الذي يخدم الحق حين يعكس جمال الحياة والمخلوقات والنجوم والكواكب ويشير إلى عظمة الخالق الذي أنعم بهذا الجمال وأفاض به على الوجود , جمال لا يخالط إثما ولا يدعو إلى معصية , ويدعونا إلى التسبيح الذي يقر بالتوحيد ،حيث نلمس النظام والتناسق الذي ينفي  العبث ويدرك الحكمة منه .

    لقد كان أوائل هذه الأمة يعقدون للجمال جلسات وكان أجدادنا الصحابة يتسامرون  في لياليهم بجمال الأدب شعره ونثره , ويربون فلذات أكبادهم على حبه , لما له من أثر في صقل نفوسهم وأذواقهم , فهذا عمر رضي الله عنه يجعل من ملذات الحياة ( الجلوس إلى أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الثمر(42) ) وهذه أم المؤمنين عائشة رضي عنها تقول : ( رووا أبنائكم , الشعر تعذب ألسنتهم(43) )

    من هذا ندرك أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين يقدرون الأدب الجميل ويجلونه ويدركون وظيفته العظيمة في حياة الأمة , ومنهم نتعلم الاحتفاء بالجمال  الأدبي الذي يجمع بين قوة الجمال وقوة المضمون , دون مباشرة تضعفه ولا غموض يخنق إيحاءه ودلالته , ونتعلم من كلام  عمر رضي الله عنه : كيف نختار نصاً يحقق طبيعة الأدب في أعلى درجاتها كما ننتقي أطايب الثمر .

    والاختيار بهذا المفهوم انتقاء نقدي فيه اختيار لنصوص واهتمام بها واحتفاء بها , وفيه إهمال لنصوص وإسقاط لها من الحسبان , إنه اختيار يحتاج إلى ذوق رفيع ومقاييس دقيقة تميز بين الغث والسمين ؛ لأننا نوظف هذا الأدب في حياتنا ومسامراتنا ومناهجنا وإعلامنا وأذواقنا وأناشيدنا ونستشهد به في مواقفنا على اختلاف أنواعها ,هذا ما يفعله المجتمع في الأدب .

وهنا ندرك كيف يصنع الأدب القوي التأثير  الجاذب والضعيف لا يصنع إلا الضعف . نريد نصا يحقق طبيعة الأدب في أعلى درجاتها ومستويات سحرها لأنه يشد المجتمع إلى التأثر به ,أنظر إلى هذا النص الذي يحبب الأمة في نهضتها في قول الشاعر :

    لا    يصنع    الأبطال                 إلا في مساجدنا الفساح

شعب     بدون    عقيدة                ورق  تذريه الرياح

      من خان "حي على الصلاة "          يخون "حي على الكفاح"   (44)

ونريد نصاً ناقدا لعيوب الأمة , حتى تستيقظ على أحوالها وتضع يدها على الجرح وتكتشف أسباب الهزائم تماما كما في النص التالي :

لماذا إذا هدأت نجمة الحرب         تعطى الجوائز للهاربين(45)

وقول الشاعر الاّخر الذي يحث الأمة على النهوض من حفر التخلف :

ومن لا يحب صعود الجبال      يعش  أبد الدهر بين الحفر(46)

نتعلم ذلك من القراّن الكريم أن الجمال في الأدب يجب أن لا ينفك عن الوظيفة ، وهي خدمة الحق وتجليات الجمال الذي يستقيم مع الفطرة ويشير إلى عظمة خالقه :

                            وفي كل شيء له آية      تدل على أنه واحدُ(47)

وما دام الجمال يقوم بوظيفته الحقيقية في الأدب ويصنع الإيحاءات الجميلة في أنواع الأدب وفنونه مما يساعد على القيام بوظيفته ورسالته , فنحن نحترم الصياغة الأدبية الجمالية للنص في أي لغة أو أي أدب ما دام أن هذا الأدب يتناول القضايا الإنسانية المشتركة ،  بغض النظر عن عقيدة صاحبه لأنه أدب إنساني يتناول الهموم المشتركة للجنس البشري من خلال الفنون الأدبية , أما ما يقع في باب خصائص الأمم , فكل أمة ولها خصائصها التي نتعامل معها ، من خلال حالة التعارف والتاّلف والاحتكاك الحضاري الذي يخضع لحالات التأثر والتأثير الذي يصنع الاختيار أو الصراع أو الانبهار أو القسر والإجبار.

     وبذلك نصل إلى التحذير من الأدب الذي يفضح نفسه بالانحراف والمرض والخروج على قيم الأمة , وخيانتها والوقوف في صف الأعداء ، وعند ذلك يكون من حقها أن تسقطه وتهمل نصوصه التي يخالف بها ثقافة الأمة وعقيدتها أو يستهتر بشريعتها , لأن المجتمع هو الذي يصنع للأدب وظيفة , وتحديدا عندما يقوم القارىء بتذوق النص فيرى فيه مراّة نفسه , وخاصة إذا وجد في هذا الأدب ما يبل ظمأه للجمال الأدبي استثمره في حياته , فالقارئ لفظ عام يندرج تحته (الناقد والمستمتع والطالب والعالم والباحث والأب والأم والمنشد والمغني والملحن والممثل والمفكر والسياسي والصحفي ........) ومن الطبيعي أن القارىء لا يحترم من لا يحترم الأمة , بل ويحتقر الأديب الذي يهجو قيم الأمة أو يسخر منها , لأنه يشعر أن هذا السلوك يمسه شخصيا ؛ فهو أحد أفرادها , ويصله نصيب من هذه السخرية و الإهانة  لثقافته وعقيدته ، ولهذا نسقط أدبه من حساباتنا لأسباب منها :

1- أنه أراد أن يعجن باطله وفسقه وخيانته لله ورسوله ولأمته بجمال الأدب , ليسوقه أمام الناس ويدلس عليهم ويخفي خبثه , ويدس لهم السم في الدسم ؛ حتى ننخدع فنقع في شراك أدبه كالجائع المفجوع في وحل هذا الجمال المغشوش , نقول له : لقد  نور الله بصائرنا بالإسلام , ولن نسمح للخب أن يخدعنا (لست بالخب ولا الخب يخدعني ) وسوف نتعامل مع نصوصه بمقياس جمالي واضح وهو ( أن نسكب وعاء الزيت مع الفأر ) ونرمي بنصوصه في مواقع القمامة ومعنى هذا المقياس (أن نضحي بالجمال والأدب الذي خالط الباطل ونرمي به خارج ثقافة الأمة و اهتماماتها ).

أما ترى أن الأشياء اللذيذة والممتعة والجميلة إذا خالطت القاذورات عافتها النفس , وضحت بعناصر اللذة والمتعة والجمال فيها ؛لأجل ما خالطها من التلوث والقرف , وهذا إذا وقع للنفس في المتع الحسية كالطعام والشراب , فإذا كان هذا الأمر في (الأدب والفن) كان الأمر أشد لأنها تصبح ممجوجة إذا خالطها السوء وانحدار القيم وانحراف العقيدة , لأن الخطاب الأدبي من أخطر أنواع الخطاب وأكثرها قدرة على التأثير في النفس من خلال البناء الجمالي سلبا وإيجابا .

2- ثم بعد ذلك , أنه لا يوجد لدينا من الوقت ما نضيعه في البحث عن متعة أدبية زائفة يتمدد الباطل في ثناياها , وخلاصة القول في ذلك أن نسقط الأدب الجميل , الذي يرفع راية الباطل وأهله فلا  يغرينا عنصر الجمال ؛ لأنه كخضراء الدمن , أو هو كالزروع اليانعة التي سقيت وتربت وترعرعت على المياه العادمة , فأنّى للنفس أن تقبل عليها . قال الشاعر :

جمال الوجه مع قبح النفوس                 كقنديل على قبر المجوسي

3- ونحن في هذا لا نستند إلى مشاعرنا , ولكننا نستند إلى نصوص فنية سبق أن أشرنا إليها من الشعراء سابقا في أصل هذا الفن ومن أهل الفن أنفسهم , ثم إلى نصوص شرعية واضحة الدلالة توضح الموقف وتنيره في الفهم كقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة(48)) وهذا الحديث يتكلم عن طبيعة الأدب ,ويكشف خطر سلاحه الجمالي المؤثر في النفوس ,وقديما قالت العرب (كلم اللسان أنكى من كلم السنان(49) ) إشارة إلى تأثير البيان والأدب في النفوس وهذا ما يعلمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :(من تعلم صرف الكلام ليسبي قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً(50) ) وهذا الأمر يدل على المسؤولية العظيمة التى تقع على عاتق الأديب إذا لم يتق الله ويقول القول السديد ,ويؤكد حديث آخر نفس المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم (إن أخوف ما أخافه على أُمتي كل منافق عليم اللسان(51) ).

4- وقد بدأنا ندرك معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ,بشكل أكبر وأعمق في هذا العصر الذي تقدمت فيه البشرية وتعرفت على أهمية الخطاب البياني وتعمقت في تحليل أنواعه وتأثيره على النفوس ,وذلك من خلال تأثيره على أذواق الناس وتوجهاتهم ,مما يدعونا إلى الحذر من وقوع في تحليل الجمال الذي يصنعه الشعراء ,دون وعي لما يقال ,حتى لا تكون من الغاوين الذين يتبعون الشعراء في غوايتهم قال تعالى :( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فليس كل ما يلمع ذهباً ولاكل البيان سحراً ولا كل الشعر حكمة , ونقصد بالغواية هنا الإستجابة للجمال على غير بصيرة , حتى لا نقع في دسم الجمال الفاسد , وهذا ما يدعونا إلى إسقاط الجمال الأدبي إذا غلب الباطل على نصوصه ,وأصبح خطراً على وعي الأمة وثقافتها وبناء أجيالها، لأننا نحاسب الأديب على قيمة موضوعة، ثم نحكم على طريقة عرضه الفني لهذا الموضوع، فمن انحط موضوعه رمينا بجمال عرضه وفنه في وجهه.

5- قد تتسامح الأمة مع الأديب الذي غلب على أدبه الحرص على مصلحة الأمة وأمضى حياته في الانتماء لها ,والتزم بهموم الأمة ولم يضر بمصالحها , إذا وقع في بعض الهنات ,التي لم يقصدها ,وإنما كانت من سوء تقدير لبعض القضايا ,ولكنها لا تتسامح مع من أمضى حياته وختمها وهو يسن قلمه ليحارب ثقافة الأمة وعقيدتها وقيمها , ويغرد في سرب الأعداء ويتآمر عليها ويختم حياته بسوء الختام ,لم يغير ولم يبدل ولم يفكر بالتوبة أو العودة إلى صفوف الأمة ,لأنه ألف الإنحراف الخيانة وحياة التلوث .

 6. وفي نهاية هذا الموضوع نصل إلى الخلاصات الآتية:

1- إن الجمال في عمومه له قوة وسلطان وتأثير عظيم في النفوس، ومنه الجمال الأدبي الذي يعتمد على ( المنطق البياني) وهذا هو سر التأثير الساحر للأدب ( إن من البيان لسحرا)، مما يدفع الناس إلى حالة من التفاعل القوي مع نعمة الله في قوله: (علمه البيان) نسميها (وظيفة الأدب)، حيث يلجأ الناس إلى: (القصة والمثل والخطبة، وبيت الشعر، والفنون الأدبية المختلفة)، فيوظفونها في التعبير عن حاجاتهم وأحوالهم، يستشهدون بها في حياتهم اليومية، يدخلونها في مناهجهم التربوية، ويطعمون بها خطبهم، ويجملون بها كلامهم وتأليفهم ومقالاتهم، ويتسامرون بها في مجالسهم، وينشدون قصائد شعر طربا وتأثرا بما فيها من جمال البيان والمعنى والموسيقى، يرددونها في حب الأوطان، والشوق إلى الأحباب، ويظهرون بها رغائبهم، وغير ذلك من الوظائف التي يصطنعها المجتمع للأدب في حالة التلقي، وحين تخرج النصوص من قبضة المبدع إلى المتلقي.

2- لا يوجد جمال بدون وظيفة وتأثير وتفاعل، فالجمال الأدبي يصطنع الاستجابة والتأثير، ويدفع بالمتذوق إلى التوظيف التلقائي المباشر، تحت ضغط سلطان الجمال وسحر البلاغة والبيان، وملائمة النصوص للحال، والحاجة التعبيرية لمتطلبات الإنسان والتي تلح عليه بالإشباع التعبيري، وهذه هي طبيعة (المنطق البياني) الممتع، وهو حال مخالف (للمنطق الفلسفي) الذي يمتاز بالجفاف والتجريد والخضوع للمقاييس الذهنية الجامدة، فالجمال في المفاهيم الفلسفية لا وظيفة له، لأنه جمال بارد ميت لا تتواجد فيه حيوية المكابدة والمعايشة النفسية لعلاقة الإنسان بالحياة من حوله، وهذه الحيوية لا يستطيع أن يصنعها إلا الأديب وذلك من خلال (المنطق البياني) الذي يتناسب مع حياة الإنسان ويستطيع أن يصنع من الكلمات أوعية تتسع لمشاعر القلوب وتقلباتها المختلفة في مواقفها وأحوالها.

3- حين يتلبس الباطل وأهل الأهواء الهائمة بجمال النص، ويستغلونه لإخفاء قيمهم الفاسدة وإيصالها إلى المجتمع، باستثمار (المنطق البياني) في خدمة أهدافهم، نقوم بإسقاط القناع الجمالي الذي اختبأ الباطل من خلفه، لنكشف قبحه واستغلاله للجمال في تسويق ذاته حتى نحمي المجتمع من الوقوع في حبائله.

4- الجمال الضعيف الذي يلتصق على جسد النص وسطحه كشعار فج، ويحاول أن يخالط المعاني الشريفة والمقدسة لدى الأمة، لا يثير فينا عاطفة الاعتراف به أو الشفقة عليه، بل نسقطه حتى لا ننحدر بذوق الأمة ونجعل من الضعف أحد مكوناتها.

5- الجمال الحقيقي للأدب هو الذي يتوازن فيه الشكل والمضمون في البناء والتأثير وينتفي منه العبث.

6- نقاء الخيال الأدبي وتطابقه مع العقيدة الإسلامية وامتدادها في تفسير الحياة في الدنيا والآخرة، دليل عافيه وصفاء ونقاء ووفاء لقيم الأمة واحترامها عند المبدعين. 

7- المحاكمة الفنية للنصوص تبدأ بعد التحقق من الأمور السابقة ويكون ذلك من خلال منافسة النص للنصوص المشابهة له في الجوانب الفنية والعلمية واللغوية وبمنهجية المقارنة والمفاضلة.

8- جميع الآداب العالمية تفترق في الخيال وامتداده ومصادره، والثقافة وأصولها وخطوطها، وكلها مبينة على الجمال البياني والفني والجمال النوعي الذي يتميز به النوع الأدبي على غيره من الفنون الأدبية الأخرى.

9- مشروع الأدب الإسلامي ما جاء لإلغاء الأدب القومي، بل جاء ليحمي الآداب القومية للشعوب الإسلامية من التلوث الخيالي الذي تداعت به الأمم على خيالنا الإسلامي التوحيدي والمحافظة على النقاء والصفاء في خيالنا الفني من عبث الثقافات الوثنية الغازية والتي هبت كريح السموم على خيال الأديب المسلم في العصر العباسي، وكادت أن تلوثه وتشوهه بالمدخلات الغريبة على عقل المسلم كالمدخلات من ( الصوفية والبوذية والهندوسية) والتشيع الفارسي المجوسي والأساطير (اليونانية والرومانية) والأساطير (الإسرائيلية) التي حاولت أن تشوه علوم تفسير القرآن الكريم، والأساطير الشرقية والغربية و(وثنيات الأمم المندثرة) التي كشفها علم الآثار الحديثة وحاول الاستعمار أن يستثمرها في تمزيق الأمة (كالفرعونية والأشورية والفينيقية وغيرها) ولذلك جاء مشروع الأدب الإسلامي ليحافظ على النقاء الفني الخاضع لعقيدة التوحيد وحماية الآداب الإسلامية القومية كالأدب العربي والأدب التركي والأدب الكردي والأدب الأوردي وغيرها من الآداب الإسلامية وتأصيل وأسلمة هذه الآداب وبعث روحها الإسلامية من جديد، حتى تغسل هذه الآداب من أدران التلوث، الذي طغى عليها في فترات الضعف والانحطاط، الذي أصاب الأمة في فترات الصراع الحضاري، وتغول أهل الباطل وسعيهم لابتلاعها.

يقول الله سبحانه وتعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ولهذا جاء مشروع الأدب الإسلامي ليؤكد على احترام خصائص الشعوب وتوجيهها إلى طاعة الله وحماية الآداب الإسلامية من مؤثرات مراحل الصراع والاستعمار وإحياء نهضة الأمة من جديد.

الهوامش

1- سورة التين 4 2- سورة البلد 8 ،9 3- الزخرف 7 4- رياض الصالحين 5- رياض الصالحين 6- سورة النحل 6 ،8 7- الملك 5 8- الأعراف 31 9 سورة الحجرات 7 10- الصافات 11- الحجر16 12- النحل 16 13- التين4 14- البلد 8 ، 9 15- إبن الرومي في الهجاء 16- إبن الرومي في الهجاء 17- الدكتور محي الدين أبوهلاله 18- أبوسلمى (عبدالكريم الكرمي) 19- عبدالرحيم محمود قصيدة الشهيد 20- سيد قطب قصيدة الشهيد 21- كتاب عمر بن الخطاب الصلابي ص 21 22- دوقلة المنجبي 23- من شواهد البلاغة 24- أبوفراس الحمداني 25- عزالدين المناصرة- الأعمال الكاملة 26- رياض الصالحين 27- رياض الصالحين 28- من شواهد النحو في العصر الجاهلي 29- أبوسلمى (عبدالكريم الكرمي) 30- يزيد بن معاوية ؟ 31- خالد عبدالقادر السعيد / كيف السبيل؟ 32- عزالدين المناصرة / الخروج من البحر الميت 33- عنترة 34- المتنبي / مدح ابن عمار 35- عزالدين المناصرة/ بالأخضر كفناه 36- خالد عبدالقادر / كيف السبيل؟ 37- مسرحية مجنون ليلى / شوقي 38- الحطيئة ؟ 39- حسان ؟ 40- عزالدين المناصرة / أضاعوني 41- نزار قباني / اعتذار إلى دمشق 42- عمر بن الخطاب رضي الله عنه

43- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما /

من كتاب الأدب الإسلامي /عدنان النحوي

44- الشيخ يوسف القرضاوي 45- عزالدين المناصرة / قصيدة حصار قرطاج 46- أبوالقاسم الشابي / إرادة الحياة 47- أبوالعتاهية 48- رياض الصالحين 49- مجمع الأمثال / الميداني 50- رياض الصالحين 51- رياض الصالحين

52- تم إلقاء هذا الموضوع في رابطة الأدب الإسلامي العالمية في يوم السبت الموافق 23/4/2016 وأثار نقاشا واسعا من قبل الجمهور.

وسوم: العدد 768