رواية "هذا الرجل لا أعرفه"وما يدور في المجتمعات العربية
رواية (هذا الرجل لا أعرفه) للأديبة المقدسية ديمة جمعة السمان، صدرت مؤخرا عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وهي الجزء الثاني من رواية (غفرانك قلبي) للكاتبة، والتي صدرت عام 2015، وأحداث هذه الرواية هي امتداد لأحداث الرواية السابقة، وهي امتداد لملحمة سياسيّة اجتماعيّة، استطاعت فيها الكاتبة أن تبني حيّزا مكانيّا مميّزا تماما كما بنت شخصيّات واقعيّة تتحرّك في هذا الحيّز الافتراضي.
لكنّ القارئ الذي لم يطّلع على رواية (غفرانك قلبي) قد لا يستطيع تفسير بعض الأحداث في هذه الرواية أو تبرير تصرفات الشّخصيات الرئيسيّة فيها؛ حيث لم تشر الكاتبة إلى روايتها السابقة في هذا الكتاب، والذي قد يؤدي لحدوث لبس عند بعض القرّاء؛ إذ قد لا يفهم القارئ المستجد طبيعة المكان الذي تدور فيه أحداث الرّواية، أو طبيعة العلاقة بين وحيد ومنى، ورمزية المزرعة وشجرة الجمّيز فيها.
ولا بدّ من فهم طبيعة المكان ورمزيّته من أجل فهم أفضل لأحداث الرّواية. فالمكان هو مكان خياليّ خلقته الكاتبة في رواية (غفرانك قلبي) وواكبت تطوّره من صحراء قاحلة إلى مدينة كبيرة ودولة وطنيّة، وهو ينطبق على أي مكان في العالم العربيّ. وثقافة ساكنيه تتفق مع الثقافة المشتركة للعرب أينما حلّوا، لذلك فإن فهم طبيعة هذا المكان، يساعد في فهم الرمزيّة الكبيرة في الرواية، والنقد العميق لما يدور في المجتمعات العربيّة، من خلال أحداث عاديّة، لكنّها تحمل أبعادا اجتماعيّة وسياسيّة. وللرواية جانبان: جانب اجتماعيّ، وجانب سياسيّ، بالإضافة إلى الأحداث الرومانسيّة فيها والتي تخدم هذين الجانبين.
"البيت مملكة يا ولدي ... والمرأة في داخله ملكة." (ص 73) قالت فاطمة أم وحيد سالم لولدها متحدثة عن ضرورة ترك ناهد لكرسي الوزارة والتفرّغ لبيتها. هذه العبارة توضّح إحدى الجدليات التي تطرحها الكاتبة وتريد إثارة النقاش حولها من خلال كتابها، مسألة ما زالت تثير كثيرا من الجدل في المجتمعات العربيّة: هل أولوية المرأة هو العمل خارج البيت، أم عليها أن تخنق طموحها لتبني بيتا تسوده الألفة والطمأنينة؟ لن ينتهي الجدل حول هذا الموضوع، لكن الكاتبة طرحت عددا من النماذج للنساء في روايتها، أولها فاطمة نفسها والتي عملت بجدّ داخل مزرعة العائلة وفرّغت كل وقتها لها، ووسّعتها وضمّت إليها الأراضي، لكنّ بيتها دائما كان في مركز هذه المزرعة وأنشأت أبناءها على حبّ السيطرة والتّوسع، فكان فارس الضابط الكبير، وكريم التاجر الناجح، ووحيد رجل الاقتصاد، وعبير المحاميّة والزوجة. والنموذج الثاني هو ناهد التي كان لديها طموح كبير، وسعت للارتقاء في مناصب الدولة، جاعلة الاهتمام ببيتها وزوجها أمرا ثانويّا، فحقّقت النّجاح الكبير، لكنّ نهايتها كانت سريعة بجرعات من السّمّ وضعها فارس في قهوتها وهي في قمّة مجدها كوزيرة للخارجيّة. والنموذج الثالث هو منى، التي تخلّت عن حبّ وحيد في المرّة الأولى والثانية، ومالت إلى الاستقرار في بيت الزّوجيّة، لكنّ ذلك لم يمنعها أن تكون ناجحة في عملها، فقد أبدعت حينما عملت في وزارة الزّراعة، ثمّ عندما بنت مزرعة نموذجيّة أصبحت الأكبر في البلاد. والنموذج الأخير هي حنان والتي كانت ربّة بيت، وكانت المحور الذي ترتكز عليه العائلة في حلّ جميع مشاكلها، ويلتجئ الجميع إليها وقت الشّدة.
(هل أنا ضعيف؟ كيف؟ وأساطين الاقتصاد ورجالات الحكم ترهب هيبتي؟ هل أنا قويّ؟ كيف؟ وسيّدة تتحكّم بحريّتي وتبيع فيّ وتشتري؟) ص 179 هذه العبارة التي قالها وحيد سالم وهو في أوج حيرته وتردّده بين علاقته بزوجته ناهد وعلاقته بحبيبة صباه منى، تشير إلى جدليّة العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي، والتي تريد الكاتبة أن تشير إليها من خلال أحداث هذه الرّواية. فهل المرأة ندّ للرجل؟ وهل يرضى الرّجل أن يقترن بمن تفوقه ذكاء أو تنافسه في نجاحه؟ أم يريد للمرأة أن تكون جارية تحت سطوته؟ نلاحظ أن وحيد كنموذج للرجل العربيّ، لا يروق له تقدّم ناهد في المناصب ومنافستها له في مكانته في الدولة، ويتناسى أنّ علاقته معها بدأت عندما اغتصبها وهو في أوج قوّته، وأجبرها على ترك خطيبها، ولم يشعر بوخزة ضمير. أما عندما بدأت تتفوّق عليه، بدأ يشعر بمدى تقصيرها تجاه بيتها، وعزا الخلاف بينهما إلى هذا التقصير وتناسى أنانيّته بالتعامل معها. أمّا منى، فقد رفض الزّواج منها لسنين طويلة رغم الحبّ الجارف بينهما، والعلاقات الأسريّة المميّزة، والرّخاء المادي، معتذرا أن الزواج سيكون حائلا بينه وبين تحقيق أحلامه، ولم ينظر لها مرّة كرافد قد يكون له عونا في تحقيق أحلامه في إعادة السلطة والغلبة لآل سالم. ولم يرق له أنّها تزوّجت من غيره وبدأت تبنى حياتها بعيدا عن قيوده، فهل علاقة الرجل والمرأة تسودها أنانيّة الرجال ونرجسيّتهم؟
لكن هل نجحت الكاتبة في تقمّص شخصيّة الرجل، عندما جعلت الرّاوي هو وحيد سالم؟ أعتقد أنّ الجواب نعم، مع أنّ القارئ قد يلمح أحيانا شخصيّة أنثى داخل هذا الرجل! وإلا لماذا يعتبر الزّواج عائقا لتحقيق أحلامه، والنجاح في عمله؟ ربما كان هذا صائبا بالنسبة للمرأة، لكن الرجل قد يعزف عن الزواج لضيق ذات اليدّ، أو انسياقا وراء نزواته. هروب وحيد بعد طلاقه لناهد، وسفره إلى عواصم العالم لابتياع الهدايا لمنى دون أن يخبرها، مضحيا بمصالحه التي ترك منى أساسا من أجلها، لا يتوافق مع شخصيّة رجل أعمال ناجح، وإنما قد يكون أقرب إلى رومانسيّة أنثى. ونلحظ أيضا أنّ الشخصيّات الأنثويّة في الرواية هي الطاغية رغم أن الرواي رجل.
أما الجانب السّياسي في الرواية، فهو يعكس الواقع السّياسي في الدول العربيّة أجمع، حيث التسلّط هو سيّد الموقف: ففارس الضابط الكبير هو من يدير الأمور ويتحكّم في رقاب العباد، وعندما ينجح شخص مدنيّ في الصعود إلى مراكز الدولة - ممثلا بناهد في الرواية - يكون ذلك تحت جناحه، ولا يسمح له أن يصل فعلا إلى صنع القرار، وينهي حياته بدم بارد.
وتظهر عقلية القبيلة، التي لم تفارق آل سالم من يوم أن تركوا الواحة وأصبحوا جزءا من المدينة والدولة. وكذلك الأمة العربية التي ما زالت تعيش في عقلية القبيلة، حتّى عندما تشظّت إلى دويلات أو إلى أحزاب سياسيّة، أصبح انتماؤها إلى هذه الشظايا تماما كانتمائها إلى القبيلة، رغم أن الانتماء القبلي لم يخبُ أبدا. نرى كيف يسعى آل سالم من خلال سيطرتهم على التجارة والزراعة والاقتصاد والهيمنة على الجيش إلى تطويع الدولة لتكون تحت وصايتهم، وحتّى عندما تُقام انتخابات، فهي من أجل إيصال وحيد سالم إلى سدّة الحكم.
وهل يمكن تداول السلطة في الدولة العربيّة؟ تبدو الكاتبة غير متفائلة، وتعتقد أن الحكام سيصلون إلى السلطة بالقوّة، وتقول على لسان وحيد سالم: (ملعونة مراكز الحكم التي نصل إليها على جثث الآخرين.) صفحة 202 . وإذا عدنا إلى رواية (غفرانك قلبي) نلحظ أن الكاتبة بدأت ببناء دولة جديدة، ثمّ بثورة على الحاكم المتسلّط، فكانت تبثّ الأمل بالتغيير، لكنّ هذا التغيير أتى فقط بحاكم متسلّط آخر، ثمّ أعاد الحكم إلى القبيلة!
روايتا (غفرانك قلبي) و (هذا الرجل لا أعرفه) ملحمة أدبيّة تشرّح المجتمع العربيّ، وتثير العديد من التساؤلات عن طبيعة هذه المجتمع وإمكانيّة التغيير فيه، وهي تفعل ذلك من خلال أحداث دراميّة واقعيّة، وعلاقات اجتماعيّة متشابكة، ورومانسيّة عالية، وغوص في أعماق النّفس البشريّة. عمل رائع يستحق القراءة والدراسة العميقة.
وسوم: العدد 782