الرسالة التاسعة، لست شاعرا جديرا بالقراءة أو أن أُعَدّ في الشعراء
أيتها المرأة التي لا أدري ما أسميها، لعل أوقاتك سعيدة، أما بعد:
منذ ما يزيد عن سنتين أو أكثر، لم أعش هذه الحالة التي أعيش فيها الآن، كيف أصف ما أنا فيه، أشعر بعدم رغبة في التحدث مع أي أحد، لم أكتب شيئا مهما منذ أسبوع أو أكثر، النوم متقطع، والرغبات الأخرى في انعدام تام. حتى لقد انقطعت شهيتي عن التدخين، كل شيء في تراجع، والخمول يعبئ الفراغ.
حاولت أن أكسر هذا الضباب الكثيف، توجهت مطلع هذا الأسبوع إلى مقر دار الفاروق في نابلس، لمناقشة ديوان "وأنت وحدك أغنية"، شرّق القوم وغرّبوا، وخضّوا القربة، ولكن المردود كان متواضعا جدا، لم ينظروا إليّ إلا أنني شاعر أحاول الكتابة، وليس كشاعر ذي مخزون ثقافي ولغة خاصة وصورة مختلفة. نصحوني بنصائح كثيرة، كأنني طالب في الثانوية العامة، يتلقى نصائح أساتذته. أنكروا عليّ أن أكون شاعرا مختلفا، بل لم يرونني كذلك.
هنا أريد أن أحدثك بقصة طريفة حدثت مع أحد زملائنا في قسم اللغة العربية أيام الجامعة، كان يكتب شعرا، وشعره جيد، ولكنه طالب، بمعنى أنه شاعر ما زال يحبو. كان يدرك كيف يفكر الطلبة غير المثقفين، فما كان منه إلا أن كتب نصا ونشره في مجلة النادي الحائطية، ووقّع تحت النص "محمود درويش". انهال القرّاء على النص بالمديح التام، وهم يدركون أنه لمحمود درويش، وليس لزميلهم، إنها مشكلة مركبة، تعاملُنا مع النصوص بأسماء كتّابها، وليس لأن النصوص جيدة. هذا ما حدث معي مثلا في مناقشات دار الفاروق في المرّتين اللتين تم فيهما مناقشة ديوانين لي. لقد شنّعوا عليّ كثيرا في مناقشة ديوان "مزاج غزة العاصف"، إلى درجة أن يقوم أحد أعضاء لجنة المناقشة باقتراح تعديل لنص من النصوص. إنّ كل تلك المواقف تذكّر بمواقفك مما أكتب، فكثيرا ما كنت تتهمينني بالسطو على قصائد أصدقائك الشعراء وأسرق منهم لغاتهم وألفاظهم، فأنا في نهاية المطاف لست شاعرا جديرا بالقراءة أو بأن أعدّ في الشعراء. هنا أتذكّر أيضا كيف نظر شاعر كبير لبعض نصوصك واعتبرها متواضعة، حتى إذا كتب فيها أحد النقاد، محللا ومبرزا جمالياتها، عاد وغيّر رأيه، بل سعى وراء الناقد ليكتب في نصوصه الباهتة، ولعله لم يكتب.
على كل حال كنت شخصا هادئا تماما، وشكرتهم جدا، لتفضلهم عليّ بقراءة هذا السيل من الهراء، ربما فعلا لا أحسن الكتابة ولا أستطيعها، وأنني ما زلت محتاجا للتدريب والتعليم. وأنا بالمناسبة لست أحبذ كثيرا من يمدحني ويقول لي: (رائع وممتاز وأبدعت). كلها كلمات استهلاكية. لقد أعجبتني قراءة الحبيب بلحاج سالم الأخيرة لنص سردي حواري قصير أناقش فيه "المسافة الآمنة"، كان مذهلا حقا في تناوله للنص وتفكيكه، لم يمدح ولم يقدح، ولكنه كشف عما في النص من أبعاد فكرية وفلسفية وثقافة نسقيّة. إن هذا النص نفسه لم يعجب كتّابا آخرين وقرّاء كثيرين. ليس مهما، وربما أنا لم يعجبني كذلك، لكن لهذه القراءة سحرها التي جعلتني أقرأ النص كثيرا.
اسمحي لي أن أعود قليلا إلى مناقشة الديوان، لقد أعجبتني ملاحظتان، واحدة آتية من قارئة للديوان التفتت فيها إلى استخدامي للفظ "الأرجوان"، وكيف أنه يستخدم لعلاج سم الأفاعي، وقد ذكرت في النص لفظ "الأفعوان"، أما الملاحظة الثانية فمن قارئ آخر لاحظ غياب المكان تماما في كل قصائد الديوان، إن ملاحظته كانت عبقرية جدا، كوني كاتبا إلكترونيا وعاشقا افتراضيا، فمن الطبيعي أن يغيب المكان، ولعلك تدركين الآن دقة الملاحظة، فما كُتبت القصائد إلا في ظل انعدام المكان الحقيقي، خلا المكان الافتراضي في عالم التكنولوجيا والإقامة الجبرية فيه. هنا أدركت كم كنت صادقا مع نفسي ومع الشعر الذي يعبر عن التجربة تلقائيا دون أن يكون ذلك حاضرا في الوعي.
لقد اكتشفت بعد هذا الكم الهائل من القصائد كم كنت تافهاً عندما أحببت، وفاشلاً عندما كتبت، وغبياً عندما صدقت أنني يمكن أن أكون شيئا، فلا شيء يستدعي أن أظل أدور كثور على بيدر لا قمح فيه! يا للتداعي في الأفكار، لقد كانت أمي كثيرا ما تقول إنني (ثور مْطُوحِنْ)، لا أفهم ما يجري من حولي.
أعرف أنك لن تكتبي لي، فهذه الأمنية لم تعد حديث نفس، فقد تنازلت عنها إلى غير رجعة.
وأخيرا، هل لاحظت كم أن تاريخ هذا اليوم مميز، ثلاث مرات كتبت الرقم (8)، أرأيت كم أنا سطحي جدا، لألاحظ تاريخا عاديا، لم يمكث سوى أربع وعشرين ساعة ويمضي.
ربما نلتقي في قابل الأيام، أما أين ومتى لست أدري، ولعله من الأفضل ألا نلتقي أبدا.
وسوم: العدد 784