البياض عند محمد علوش وإياد شماسنة
نحن في المنطقة العربية أصبحت حاجتنا ملحة للهدوء والسكينة ، فكثرة المآسي التي نشاهدها ونسمعها ونقرأها جعلتنا متوترين باستمرار ، من هنا تكمن حاجتنا لهدوء ، للراحة ، السكينة ـ رغم استمرار البؤس والقسوة ـ ما يلفت الانتباه أن كلا الشاعرين يستخدم " صبغة المذكر لتقديم صورة بيضاء ، وليس صيغة المؤنث التي اعتدناها ، ومع هذا التجاوز نكاد لا نجد أية لفظ " أسود / قاس / مؤلم " من هنا يأتي اهمية هاتين القصيدتين.
يفتتح " محمد علوش " قصيدته :
" يناديني النيلُ .. أناديه
يناديني النيلُ منتشياً بهديل يناديني "
ثلاثة نداءات تشير إلى تأثر الشاعر الايجابي بالنيل ، من هنا استخدم " منتشيا بهديل " ونجده يستخدم فعل المضارع ليعبر من خلاله إلى استمرار النشوة والفرح ، والشاعر لم يقتصر استخدامه للفعل المضارع على الفاتحة ، بل نجد في بقية القصيدة التي جاءت بمجملها تستخدم صيغة المضارع :
" يصدحُ الغناء في قلبي يأخذني بعيداً في مراكب الفرح أشرب نبيذه المعتق لترتوي سفني وأرى الوجوه مزينة بالدهشة "
الشاعر يفصل لنا حالة النشوة التي يمر بها من خلال : " يصدح ، الغناء ، قلبي ، يأخذني ، الفرح ، أشرب ، نبيذ ، المعتق ، لترتوي ، وأرى ، مزينة " لغة مطلقة البياض ، وتؤكد حالة البياض التي جاءت في الفاتحة القصيدة.
الباعث لهذه النشوة هو " النيل " لهذا بين الفينة والأخرى يستمد الشاعر طاقته من " النيل " ليواصل نشوته :
" والنيل يصعد فينا نجمة تحومُ وسماء تتجلى "
يتحول الشاعر من الحديث عن حالة الفرح والنشوة إلى الطبيعة ، فهو يراها بهية : " نجمة ، تحوم / سماء ، تتجلى " أفق الرؤية عند الشاعر انتقل من الأرض إلى السماء ، لكن هذا الانتقال من كان ليكون دون " النيل " والأثر الذي يحدثه في الشاعر.
يستمر استمداد الفرح من " النيل " :
" فيا ضفاف النيل مرحى
تحرسُ زرقتك القلوب وتحميك منا طيور القاهر .
يناديني النيل أناديه والذكرياتُ مواسمٌ وحجيجٌ سنينُ قمحٍ ونخيل "
ربط النيل بالقاهرة وبالخير المادي والجمالي معا " القمح والنخيل " فحالة البياض التي يُوجدها /يخلقها " النيل " تستمر حتى خاتمة القصيدة.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.
أما الشاعر " إياد شماسنة " فيتحدث عن شخص (ابن) يثيره جماليا وعاطفيا، يقدم هذا الأثر من خلال حروف القصيدة ، من خلال حرف الألف والياء اللذان يشيرا إلى حالة الاستمرار والاندماج في الحالة الفرح:
" تشبه القمح
لكنك انك أحلى
والسماوات ثم انك أعلى"
القمح رمز للخصب وللجمال معا ، ومع هذا يعطي الشاعر صفة إضافية أحلى وأعلى ، وهو يتحول / ينتقل من الجمال الأرضي إلى الجمال السماوي ، فعطا الأرضي أحلى والسماوي أعلى ، وهذا التناسق في الألفاظ يشير إلى تماهي الشاعر مع القصيدة ، فالعقل الباطن هو الذي يتحكم في ألفاظ القصيدة وليس الوعي.
" ثم أن النسيم يحكي
كثيرا عن سجاياك
دون أن تتجلى
فإذا ما رأيت وجهك
غنيت غناء المقيم
في الأرض حفلا "
ينقلنا الشاعر إلى حالة أخرى ، حالة بين السماء والأرض ، فيجعل الحبيب يؤثر في النسيم ، وهنا ينتعش الشاعر عندما يرى وجه الحبيب ، فالأثر الذي يتركه الحبيب ليس نفسي فحسب ، بل له انعكاسات وأثر في سلوك الشاعر ، لهذا نجده يغني فرحا ، وألفاظ "يحكي ، تتجلى ، حفلا " كلها تنتهي بالألف أو بالياء ، وهي يشير إلى أن الشاعر يريد استمرار وديمومة حضور الحبيب ، وإذا ما توقفنا عند كل الألفاظ السابقة نجدها مطلقة البياض ، بحيث ينسجم المعنى الأبيض مع المضمون.
" وكأني دعوت فيك الأماني
فأتت كلها تسابق عجلي
تترامى على أرضك كثيرا
كالعصافير
حين تقصد حقلا "
الشاعر يحدثنا عن حالة بين الأرض والسماء ، وكأن الأرض لم تعد تتسع لفرحه ، لهذا هو يتحدث عن النسيم والعصافير ، لكنه سرعان ما يعود إلى الواقع " حقلا " فما هو السر وراء هذا التنقل ؟ ، اعتقد أن حالة الفرح في العقل الباطن عند الشاعر ، هي من يتحكم في مسار القصيدة ، لهذا كلما نظر إلى الحبيب يحلق في السماء ، لكن بعد أن يذهب إلى السماء يتذكر أنه أمام كائن أرضي / إنساني ، من هنا تأتي حالة الانتقال من الأرض إلى السماء ، ومن السماء إلى الأرض.
" وكأني ارتب القلب حتى
يصبح القلب في حضورك سهلا
كان يرتاح في جهالته
حتى تراءيت فستفاق وأملى "
المشهد أرضي بالمطلق ، لكنه جميل "سهل " وهذا الجمال الأرضي يجب الاستمتاع به ، وكل من يتجاهل / يترك هذا الجمال يكون جاهل ، اعتقد أن لفظ "جهالته" هو اللفظ الوحيد الذي يخرج عن مسار القصيدة، وهو ناتج عن الحديث الأرضي " السهل " ، بحيث تراجع لفاظ "جهالته" عندما استخدم في حالة (أرضية) ، بينما في الحالة السابقة كان الحديث يتراوح بين السماوي والأرضي ، فنعكس ذلك على الألفاظ التي جاءت والفكرة ناصعة.
" قال في مطلع القصيدة
شيئا عن لياليك ثم حسن قولا
كل بيت بألف بيت وأني
أجعل الألف أصلا وفصلا "
عناصر الفرح هي المرأة / الرجل ، الطبيعة ، الكتابة / القراءة ، وعناصر التفريغ تكمن في التمرد / الثورة ، الشاعر يشبه الحبيب بالطبيعة ، وها هو يقدم أهم شيء عنده ، القصيدة ، وهنا تكتمل عناصر الفرح عند الشاعر "الحبيب ، الطبيعة ، الكتابة ، فهو يصل إلى الذروة ، بحيث لم يعد ما يقدم للحبيب ، لهذا ختم القصيدة بهذا الشكل ، فلم يعد ما يقدم أو يقال لهذا الحبيب ، فانتهت بعد أن استكملت عناصر الجمال.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.
وسوم: العدد 813