عَفْوِيَّةٌ اسْتِسْهَالِيَّةٌ
من آثار ظاهرة النص القصيرِ العَفْويّةُ الاستِسهاليّةُ، أي أن يجدَه متلقّوه كأنه تَغَفَّلَ صاحبَه أو تَغافَلَ له صاحبُه؛ فخرج عنه بزفيره وكأن لم يفكر فيه، أو لم يشأ أن يفكر فيه- حتى إنهم ربما تَحرَّجوا من أن يقولوا مثله، ولكنهم لا يلبثون أن يتعلقوا به ويرددوه ترديد الأناشيد!
هذا نص قصير يعبر عن رحابة الإقبال على الحياة، بخمس عشرة كلمة، في ست جمل، على ثلاثة أبيات:
تَنَادَيْنَا دَنَانِيرُ وَدَانَتْنَا دَنَانِيرُ
هَلُمِّي فَعَلَى الْهِمَّةِ نُورٌ وَتَبَاشِيرُ
تَبَاشِيرٌ تَبَاشِيرُ دَنَا نُورٌ دَنَا نُورُ
أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فهَزجيّة الأوزان المجزوءة الصحيحة الأعاريض والأضرب، رائيّة القوافي المضمومة المردفة بياء المد أو واوه الموصولة بالواو.
تتحرك هذه الأبيات القصار مثلما يتمايل المنشد في حلقة الذكر غائبا في نفسه عن نفسه حاضرا عن نفسه في نفسه، تساعدها خفة وزن الهزج وتقطيع الكلمات على التفعيلات وتكرار الأصوات. وبين حركتَيْ أولها وآخرها المتطابقتين تشذُّ حركة الثالث مسرعةً بكَفِّ تفعيلاته (مزاحفتها بحذف نون مفاعيلن)، إلى تَخييل معنى الاستعجال المراد بالبيت، واتهام ما اتهمْنا به صاحبَها من الغفلة!
وأما جمل هذا النص القصير الست -ومتوسط كلمات الواحدة منها "2.5"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:
6 دَنَا نُورُ ماض ونكرة.
لقد طبعت النصَّ غلبةُ نمط "ماض ونكرة" –وساعدها التكرار الظاهر- بطابع "الذَّهاب في الذاهبين"، الذي حدثنا عنه القشيري في قوله: "حُكِيَ أَنَّ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ بَعَثَ إِنْسَانًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَبِي يَزِيدَ -أي البسطامي- لِيَنْقُلَ إِلَيْهِ صِفَةَ أَبِي يَزِيدَ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى بِسْطَامَ سَأَلَ عَنْ دَارِ أَبِي يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَه أَبُو يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَبَا يَزِيدَ. فَقَالَ: مَنْ أَبُو يَزِيدَ؟ وَأَيْنَ أَبُو يَزِيدَ؟ أَنَا فِي طَلَبِ أَبِي يَزِيدَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ، وَقَالَ: هَذَا مَجْنُونٌ. وَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ذِي النُّونِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا شَهِدَهُ؛ فَبَكَى ذُو النُّونِ، وَقَالَ: أَخِي أَبُو يَزِيدَ ذَهَبَ فِي الذَّاهِبِينَ إِلَى اللهِ"؛ إذ كلُّ فعل ٍوكلُّ فاعلٍ شيءٌ مِن أشياءَ تَتوالدُ لتَتفاقدَ، وتَتفاقدُ لتَتوالدَ!
وسوم: العدد 870