الأطياف الأربعة.. وترنيمة حب
د.زينب العسال- مصر
الأطياف الأربعة، مجموعة قصصية كتبها أربعة إخوة هم - حسب ترتيب القصص - حميدة قطب، وأمينة قطب، ومحمد قطب، وسيد قطب.
أعتقد أن هذه المجموعة هي الأولى من نوعها في مسيرة السرد العربي، فقد ألفها أربعة إخوة يكتبون لأول مرة، صحيح أن أحدهم نال شهرة واسعة لم ينلها غيره من الإخوة، وهو سيد قطب سواء كونه ناقداً أدبياً، أو مفكراً دينياً له مواقفه وآراؤه التي كان لها كبير الأثر في نشر هذا الفكر.
أما عن الناشر فهو لجنة النشر للجامعيين، هذا المشروع الثقافي الطليعي الذي قدم أصواتاً أدبية، حفرت أسماءها في ذاكرة الثقافة المصرية والعربية، وعلى غير العادة نجد قائمة المطبوعات للمشروع تتصدر المجموعة، يليها - تحت الطبع - رواية "مرايا الناس" للأديبة وداد السكاكيني، ورواية "إبراهيم الكاتب" للمازني, ثم أمين يوسف غراب وكتابه المرتقب" هتاف الجماهير"، وثمة ترجمة لمسرحية "الأب" لسترندبرج ترجمها وديع فلسطين، كما نعرف أن عادل كامل سينشر رواية "ملك من شعاع"، وأن صلاح ذهني سيصدر "الكأس السابعة".. وقريباً تصدر الرواية الأولى "خان الخليلي" لنجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحار يصدر كتاب سعد بن أبي وقاص، ومن ضمن المطبوعات المرتقبة مسرحية "الحاكم بأمر الله" لعلي أحمد باكثير.
هكذا نجد أن اللجنة كانت مؤسسة كبيرة، تنشر للمشاهير من الأدباء، إلى جانب الاهتمام بنشر إنتاج الشباب، وتقديم ألوان الإبداع كافة.
نجد بعد ذلك تعريفاً لعبارة "الأطياف الأربعة" بقلم سيد قطب- على سبيل التقديم للمجموعة - يقول فيه: "صبية وفتاة، وفتى وشاب, أولئك هم الأطياف الأربعة، إذ استمدت المجموعة عنوانها من مؤلفيها، وليس من إحدى قصصها، فهو عنوان مستقل اختاره المؤلفون.
ويثور السؤال: لماذا هم أطياف؟
هذا ما ستعلن عنه قصص المجموعة، فكل واحد من الإخوة كان يعبر عن مشاعره وأحاسيسه، فهم إخوة في الدم، وإخوة في الشعور, فالعلاقة الجسدية بين الأربعة والعلاقة الروحية التي سوف يستشعرها المتلقي, وما ينتج عنه من وحدة في الآراء والأفكار والرؤى، لكن علينا أن ننتبه إلى أن وحدة الدم أو الشعور لا تكفي لصنع هذا العمل، فهناك علاقة أخرى هي علاقة الصداقة الوطيدة التي تجمع بين الإخوة الأربعة.. من أين جاءت هذه الصداقة؟
لقد جاءت عبر طريق طويل ساروا فيه. هم أطياف - حسب رؤية كبيرهم سيد قطب - في هذا الكون العريض.
خلال أربعة مقاطع قصيرة، وكأننا أمام قصيدة تصف هؤلاء الأدباء، أو بمعنى أصح الأقلام الشابة.
أولئك هم الأطياف الأربعة.
وهذه خطراتهم في كتاب.
إنها عصارة من نفوسهم، وظلال من حياتهم.
إنها أطياف الأطياف.
هكذا يؤكد سيد قطب - بحسه النقدي الباكر- أن هذه المجموعة هي نتاج عصارة نفوس هؤلاء الأطياف، فنحن أمام رهافة الرهافة، إذ كيف يقبض على الأطياف، فما بالك أن يتاح لهذه الأطياف أن تنتج أطيافها وذوبان نفسها، وكأننا أمام رأي نقدي ينبه المتلقي أنه سيجد المتشابه، وهو أمام خطرات أملتها النفس المرهفة، وأحاسيس قد تبعد عن غلظة الواقع بقوامه السميك، لكنها - بكل تأكيد - تعبر عن أصحابها، وعن قلقهم وتأملاتهم في هذا الكون الرحب، قد يستوقفهم حالهم، لكن هذا لا يمنعهم أبداً من السباحة في فضاء الكون الواسع، حيث قبسات من النور تضيء الطريق وتهدي النفس الحائرة.
الطيف الأول:
كتبت حميدة قطب ثلاث عشرة قصة، أطول القصص جميعاً هي قصة "غربة" التى تأتي في هيئة رسالة، وهي تقنية استخدمها كتاب هذا الجيل كثيراً، حيث تتيح الرسالة الفضفضة والتعبير الحر عما يمور في نفس الشخصية.
قصة "غربة" هي - في الحقيقة - قصة الأطياف الأربعة، قصة الأسرة والحياة ومعاناة الأسرة بعد فقد الأم، التي كانت السند الوحيد لهم في الحياة بعد وفاة الأب وهم صغار، هي تنقل مشاعر الفقد والفراغ النفسي الذي عانوه، والذي سيحفر أخاديد عميقة. نحن أمام الموت وجهاً لوجه، هذه الصورة القصصية سنجدها في أغلب قصص المجموعة، فهي الحافز على كتابة هذه القصص التي تقترب بشدة - إن لم تتطابق - مع الخواطر، ولا يحرمها هذا من أن تحمل رؤى إنسانية.
الموت يمثل الظلمة لدى الكاتبة " لقد رحل الأب, وخيم على البيت الصمت الرهيب، صمت مظلم، كأنه سارب من أعماق القبور، وانطوي كل منا على نفسه، وجلس في حجرة بعيدة عن الآخرين".
ثلاثة أبناء صغار سيعانون - كل بدرجة مختلفة - من فقد الأب، وسيكتشفون أن القدر يخبئ لهم مفاجأة أخرى أكثر إيلاماً، وهي غياب الأم عن حياتهم، وهنا يتملكهم إحساس بالغربة يتحول - مع مرور الزمن - إلى إحساس بالخجل والارتباك "فإنني لازلت خجلة منزوية إلى حد كبير"، لكن هذا السلوك لم يجعل الشخصية منبوذة من الجميع، فقد تدخل عامل آخر خفف من هذا الانزواء، وهو التفوق الدراسي الذي جعلها مدللة من قبل الجميع "رأيت جميع أساتذتي يستثنونني من العقاب مهما كان خفيفاً، بينما زميلاتي يعاقبن".
عندما تنضج الشخصية تشعر أن لزاماً عليها أن تخرج من عزلتها، وتختلط بالناس، لقد واجهت الشخصية المجتمع ممثلاً في الزميلات وصديقات شقيقتها. وقتها "بدأ الجرح الدامي العميق يلتئم ويستوي سطحه رويداً رويداً، كما يلتئم كل جرح في هذا الكون الكبير". حاولت الفتاة العودة إلى ذكريات الطفولة بالعودة إلى القرية حيث بيت العائلة، لكن وجدت الفتاة نفسها تمتلئ بالحنين الجارف إلى القاهرة، وددت أن أعود إليها في أول قطار".
أجمل ما في هذه القصة أن النهاية جاءت مفتوحة على لسان الكاتبة، حينما تلقي تساؤلها علي مسامع صديقتها: "إنني يا صديقتي نبتة حائرة في هذا الوجود، فهل ترى هذه النبتة التي نقلت من تربتها، واجتثت جذورها، تستطيع أن تثبت مرة أخرى؟
تأخذ القصص الأخرى لحميدة قطب منحى مناجاة النفس، وثمة حديث ضمني عن الغربة، وعن الحياة ، ففي قصة "عبادة الحياة" تتصاعد نغمة الأمل والتمسك بأهداب الحياة.
"أيها القلب النائم.. اصح، فإن الأمل يدعو، وحينما ترف إلي الزهرة المقفلة في رفق ساحر فتتفتح وتزهر، وقد أغمضها الشتاء الطويل.
يعقب هذه القصة قصة بعنوان "أيها القبر"، يليها قصة "غرور". المنطق يرى أن فكرة الغرور تتناسب مع التمتع بالحياة، وقد يصاب المرء بالغرور حينما تقبل عليه الحياة وهو غر لا يدرك مغزى الحياة، فقلة الخبرة تصيب المرء بالغرور.
أما قصة " القبر" فتعني أن على الإنسان أن يعي أن الدنيا ذاهبة إلى فناء، وأن الفناء يتنافى مع الغرور، وكيف تتشبع نفس فتاة مقبلة على الحياة بمثل هذا اليأس، لكن النزعة التشاؤمية هي إحدى سمات هذه المجموعة.
الطيف الثاني:
تبتعد التأملات الفلسفية والغنائيات والحديث الطويل مع النفس ليحل مكانه القصة الدرامية، الوصف القصصي والحنين للمكان، واكتشاف ما يفعله الزمن في البشر.
إن الاحتفاء بالماضي، والعودة لسنوات الطفولة والصبا، والغوص في الذكريات، لا يمنع من تسرب الحاضر والربيع بكل عنفوانه ممثلاً في حركة الفتاتين وهما يعزفان على البيانو.
تقدم أمينة قطب صورة مقربة لحياة الأسرة في البيت الكبير، وانتقال الأسرة للمدينة، ومأساة الأبناء، ولوعة فراق الأم، لم يعد الزمن هو الزمن، لقد رنا على المكان وحشة بعدما رحل كل من كان فيه "كان منظر القرية قابضاً، والظلام يمشي إلى طرقاتها الضيقة حثيثاً.. ووقفنا أمام الربع المتهدم صامتين بضع لحظات".
عكس قصص الطيف الأول تعلن قصص أمينة أن العودة للماضي هي العودة للفناء، وتنتصر الكاتبة للحياة والبقاء، وترى في الواقع أنه الحياة "عندما بعدت عن البيت نظرت وراءها في اطمئنان المنتصر بعد معركة طويلة، وقد خيل إليها أنها قد نجت، وأفلتت من شبح الفناء".
من أهم قصص المجموعة قصة "ثياب العيد"، حيث نجد ثنائية الغنى والفقر، فأهل القرية يعانون الفقر رغم عملهم المتواصل، وهذه الأسرة التي تنتظر العيد بينما يعجز عائلها توفير ملابس جديدة لصغاره، ويتزامن - مع هذا - ما أعلن عن زيارة زوجة صاحب العزبة للقصر، وينتظر الجميع نفحة من هذه السيدة الكريمة التي تتحدث نساء القرية عن جمالها وملابسها الفاخرة، أرادت الفتاة التقرب منها أكثر من الآخرين، فمدت يدها مسلمة وهي تبتسم في حياء بريء، لكن الهانم نظرت إليها في شيء من الاستغراب والسخرية، ثم تركتها وغابت في حديقة الدار الجميلة". السيدة لا تلقي بالا لهؤلاء المساكين، بل تعلن تذمرها من قذارتهم وبؤسهم، وتتجه لزوجها قائلة: "ألم أقل لك أن نذهب إلى مكان آخر لنقضي به العيد، بعيداً عن هذه الحشرات القذرة، التي تنغص علينا الحياة هنا وتفقدنا بهجة العيد!؟".
أعتبر هذه القصة استمراراً لقصص يحيى حقي في "دماء وطين"، وقصص محمود البدوي عن عمال الترحيلة في قرى الصعيد، ونبتة لرواية يوسف إدريس "الحرام"، حيث أن الفقر هو بطل القصة، وهو السمة الغالبة علي أبناء الريف "انكفأ في الأرض من جديد، وراح يعمل، بينما كل ذرة في جسمه الواهي تتوق إلى الراحة والنوم".. " لقد أضناهم التعب ولم تعد أجسامهم تحتمل شيئاً غير ما تحملت حتى الآن".
تذكرني القصة أيضاً بقصة "أرخص ليالي"، عندما يلقي الرجل نظرة حائرة على أطفاله في أسمالهم وقد افترشوا قطعاً من الخيش على سطح الفرن وتغطوا بمثلها وراحوا يغطون في نوم عميق".
تدور الأحداث في قصة "أُختان" في مكان يقع على أطراف الصحراء في بيئة بدوية، فالناس تستخدم الجمال في التنقل، والقبور تقع في الصحراء، وهي عبارة عن رمال وحجارة، والمرأة تخضع لقانون البداوة الذي يحرم على الفتاة الخروج أو الظهور في العلن بعد بلوغها سن الرابعة عشرة استعداداً للزواج.
تروي القصة العلاقة بين أختين قريبتين في العمر يعملان معا، ويمرحان معاً، ويحلمان بقضاء أيام العيد مع الصديقات، ولبس ملابس العيد المزركشة. تحرص الكاتبة على إشاعة جو من الغموض والفزع والتشاؤم، برغم روح المرح التي تعم القصة، وبخاصة عند الحديث عن عمل الفتاتين في المنزل!
تتسارع الأحداث، وفجأة نجد الفتاة الصغرى تموت بلدغة من عقرب، وتترك أختها، وجميع أفراد الأسرة يعانون لوعة الفراق، وتجد الكاتبة الفرصة سانحة للتبئير على مشاعر الأخت الكبرى، واستعادة حوارات دارت بينهما حول الوحشة وظلام القبر!.
الموت والقبر هما المعادل الموضوعي لحرمان الفتاتين من الخروج من البيت، صارت حياتهما جحيماً حينما حرما الحرية، إذن ما الفرق بين الموت والحياة؟
البقاء في البيت هو الموت بعينه، أليس الموت هو حرمان من الحياة، ومن التحرك بين الأحياء، والتمتع بمباهج الحياة؟
عندما يأتي أول أيام العيد ترتحل الأسرة إلى قبر الطفلة، ويكون صوت البكاء هو الغالب، فالمرأة تبكي نفسها وحظها، وما وقع عليها من ظلم وحيف. لقد سيطرت فكرة موت الأب والأم على نتاج الطيف الثاني، بل ستظل هذه النغمة تتردد في نتاج الأطياف الأربعة.
فماذا عن قصص محمد قطب "الطيف الثالث"!؟
الطيف الثالث:
قسم محمد قطب قصصه على صور نفسية يندرج تحتها من ذكريات الطفولة: بين الأرض والسماء، والزمن، وأخيراً قصة الامتحان.
اعتمد محمد قطب على اقتطاع مشاهد وخبرات من الطفولة، وهو في تناوله لهذه المقاطع لديه قدرة هائلة على التحليل والتفسير، فضلاً عن الوصف الدرامي، يتتبع ذلك قدرة على الغوص في النفس، مستخرجاً كل ما تبقى من أثر لهذه الذكريات. فالقص هنا لا يعني أبداً الحديث عن حكايات عالقة بالذاكرة لمجرد أنها عالقة، لكن أهمية هذه الحكايات تكمن في كونها تشكل مسيرة حياة وسلوكا اختطه الكاتب، وأراد أن يجذّره، وأن يتتبع تطوره عن طريق الغوص، والتنقيب في ذكريات الطفولة التي يصفها بأنها "أعذب أيام الحياة جميعاً".
المكان له عبق، وهو محفز مهم لاستحضار هذه الذكريات، فثمة حديث عن البيت القديم والسطح و البئر والنخلتين والحجرات، وفي أرجاء هذه الأماكن تنطلق ضحكات الطفولة والمغامرة والشغف بالتجربة والاكتشاف، ولكن عندما يخرج إلى الشارع أو الجبل أو الحقل يكون الحديث مرتبطاً بالنفس، وما تنطوى عليه، أو ما ينعكس عليها في روحه، وكانت سر انطوائه، وإحساسه الدائم بالخوف والرهبة، وهو مسلك عانت منه شخصية الكاتب بعد ذلك.
من ذكريات الطفولة مع المكان، يأتي الحديث عن الأشياء، الحديث عن الآلات وحبه لها عبر حبه لـ(وابور) المياه" .. ماذا، (وابور)!؟ ما أجمل وقع هذه في نفسه!.. هذه الآلة التي تدور بسرعة كأنها السحر يخطف الأبصار.. هذه آلة عجيبة حقاً، يود لو يدرك كنهها، ويود لو تفك أمامه قطعة قطعة".
هذا الانبهار بهذه الآلة كانت وراء زياراته المتكررة لها، وأنعشت في نفسه القدرة على الاكتشاف والاختراع. وكان هذا سبباً من أسباب الشغف العنيف بالآلات وعالمها الملموس، وزرعت في نفسه أمنية حياته أن يصبح مهندساً كهربائياً، حتى يغرق في هذه الآلات، ويطفئ شوقه الذي لا يرتوي".
لقد تحولت هذه الطاقة المدخرة في عقل الكاتب إلى طاقة وقدرة على التحليل النفسي الذي بدا كأنها "كامنة في دمائه".
تنتهي القصة بملخص، فثمة تياران قويان يتنازعان في نفس كاتب القصة، يفترقان تارة، ويلتقيان تارة، لكنهما يعبران عن وجودهما في كل الأحوال، الأول هو الإيمان بالواقع المحسوس، والآخر هو الإيمان بما وراء الطبيعة، وأثرهما العظيم في نفسه" وهي إن كانت فيه عقلية عالم دقيق البحث يؤمن بالمنطق، ويحكمه في كثير من أفكاره، وكانت فيه نفس شاعر، وروح متدين، وانطلاق روحاني لا يؤمن بالحدود والقيود".
في قصة "بين الأرض والسماء" يتجه الكاتب إلى مناقشة قضية أخرى عبر ثنائية أشار إليها عنوان القصة. فالقصة تتناول لحظة من حياة شاب وقع - في طفولته - في حب فتاة أصغر منه، لكن هذا الحب الطفولي لا يصمد أمام فورة الجسد في مرحلة المراهقة، فيتعرف على امرأة أكبر منه في السن والخبرة، لكنها لا تقبل حبه، وتعتبر أن الأمر صبياني، إنها تريد من يشاركها بيت الزوجية، ولا تريد شاباً يهيم بها حبا، ويكتب فيها أشعاراً، فيعود الفتى إلى فتاته الأولى بعد سنوات من الابتعاد، فإذ هي امرأة ناضجة لا تقنع بحبه الصوفي الصافي الخالص من شوائب فورة الجنس ورغباته، لقد رسم في مخيلته صورة مثالية للحبيبة، وكأنها ملاك لا ينبغى للمحب أن يلمسها، لقد نضجت الفتاة وصارت تتوق لحب واقعي، وليس حباً خيالياً متعالياً عن مطالب الواقع، وهذا ما أوقع صاحبنا في عذابات.. "لقد أحبها هذه السنين الطوال، ولم يكن يعرف حقيقة مشاعرها نحوه.. وإنما كان كالعابد المتصوف.
هذه قضية كانت تؤرق جيل الشباب في تلك الأوقات، إنها تأثيرات الحركة الرومانسية، وقد تناولتها أقلام كثيرة، نحن أمام كتابة تضع ملامح نفسية دقيقة لكل من الرجل والمرأة. يقول الراوي: "إنه يعرف طبيعة المرأة، إنها تستطيع أن تكبت الجنس مدة من الزمان، ولكنها عائدة إليه بعد حين في صورة من الصور".
أما هو، فمنذ نشأ وفي نفسه عقدة تستقذر الجنس ولا تعده كريماً. نحن أمام أزمة نفسية عالجتها أعمال إبداعية كثيرة، نتذكر كمال عبد الجواد وحبه لعايدة شداد في رواية نجيب محفوظ "قصر الشوق"، ورواية "الشاطئ الآخر" لمحمد جبريل، عندما يحب حاتم رضوان فتاته ياسمين حباً صوفياً.
يختلف أسلوب محمد قطب في كتابته لقصة " بين الأرض والسماء"، حيث يغلب الطابع الإنشائي البلاغي مثل " رؤية الفتاة للحب، ورؤية الرجل للحب "الحب الأفلاطوني المقدس والحب الواقعي، هذا الحب الهادئ، الخيال عالم واسع جميل، فماذا تفهم من لواعج الحب، ومن ضرام اللهفة، ومن حرق الحنين؟ هي البلسم الذي يشفي ما في قلبه من جراح "راحة الأرواح في النعيم، وبدأ القلق يتسرب إلى ضميره" .
تلجأ قصة "الزمن" إلى إيثار التحليل النفسي الذى غلب على قصصه، فقصة الزمن لا حكاية لها ولا حبكة ولا شخصيات أو مواقف أو أحداث، بل نحن أمام تحليل نفسي عن أثر الزمن على الفن والفنانين، فكرة الزمن من الأفكار الفلسفية، فالفنانون قوم يصارعون الزمن، لأن فيهم هذا الشعور الأصيل في الحياة, هذا هو المنطلق، قصة الزمن هي تكملة لما بدأه الكاتب في قصصه السابقة: علاقة الطفل بالزمن, وعلاقة الشاب بالزمن، ليتحدد المفهوم ويتبلور إلى علاقة شخصية الكاتب الناضجة والزمن، ورؤيته، فيصور معاناته جراء مرور الزمن، وتسرب سنوات العمر، فهكذا يفسد طعم الحياة، ولا يهنأ فيها شيء.. تصير مرة مرة، ولو ملأتها حلاوة الأكوان".
الطيف الرابع:
قصص الطيف الرابع لدينا فيها عدة ملاحظات، لعل أهمها أن نتاجه القصصي أقل من إخوته، حيث يمثل 34 صفحة، جاءت عناوين قصصه كالتالي: نفثات، هتافات، سبحات، صلوات، خطرات. الملمح الصوفي يغلب على عناوين القصص، ثمة ملاحظة ثالثة، فقد قسم سيد قطب إحدى قصصه إلى لحظات قصصية جاءت على شكل أرقام 1, 2, 3، أو تحت عناوين فرعية.
تعيدنا قصة سيد قطب "أماه" لما كتبته حميدة قطب في قصصها التي ترثي موت أبيها وأمها، وإن اتخذت القصة منحى النجوى والحديث النفسي: "اليوم فقط مات أبي، واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً، نحن اليوم غرباء يا أماه.. لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة.. أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها".
يتنبأ الكاتب بأنه سيصير شاعراً له مكانة مرموقة، لكن من يفرح له، ويفرح به وهو يصعد الدرج.
حرص الكاتب على غير عادة الأطياف الثلاثة على إثبات تاريخ كتابة القصة 21/10/1940 ، كما سبق القول، فالقصة تحمل أربع لحظات، الأولى والثانية لا اختلاف بينهما، إلا أننا نلمح إشارة إلى الواقع والأحداث الخارجية "حين دوى النذير بالغارة توجهت قلوبنا، أنا وابنتاك، إلى ابنك الغائب عنا". إن المكان يثبت مشاعر الحزن وألم الفراق وهو أمر محبب للنفس البشرية، واجترار الحزن وتثبيت لحظة الفقد وفاء للأم الراحلة، حثيثاً نجد أن الحال تبدلت وهاهو الكاتب /الابن يرصد ألواناً وأوقاتاً من الحديث ماتت وانطوت، ولن تعود ثانية، في نفس كل واحد من الأبناء ركن مظلمن وأن أشد ألوان الاغتراب النفسي في حالة الفقد أشد ألوان الاغتراب.
تأتي اللحظة الرابعة لتشكل خطوة فارقة، فقد توقف خط سريان الحزن في نفوس الأبناء، وهاهو طيف الأم الذي كان يملأ حياتهم "ينطوي قليلاً قليلاً عن واقع خطواتنا". وهذه طبيعة الأمور، فقد كتب هذا الجزء في 12/11/1941، أي بعد عام وشهرين تقريباً من كتابة الجزء الأول من القصة.
ثمة أنسنة للزمن في أكثر من موضع "ربما خيل لبعض السذج أن يرقبوك في عملك الدائب، فإذا أنت تبدو لهم ساكنا صامتاً كلما أمعنوا في الوعي والرقابة، بينما أنت تعمل عملك، تنسل وتنسج في كل شيء".
وإذا كان محمد قطب يرى أن يد الزمن ترصد دائما كل ما هو موجود لتحيله إلى النهاية والفناء، فإن سيد قطب- الطيف الرابع - يتجه ببصره وبصيرته إلى كون الزمن سيد هذا الوجود! إنه حافظ سر اللحظة الحاضرة، فلا يدع عيناً ترقبها "يدك التي تنسل الخيط القديم هي التي تنسج الخيط الجديد. الزمن هو الكامن وراء البرعم، والبذرة الساكنة، تدفعه يد الزمن في رفق وهدوء حتى تصير نبتة، فدوحة باسقة، ذات أوراق وأزهار وأثمار".
وتختلف نظرة الأخوين، نظرة المتشائم، ونظرة الذي يجد في الزمن عامل بناء وانطلاق في حركة الكون، لهذا جاء عنوان القصة "الزمن الساحر" أو ما أطلق عليه "الساحر القادر"، أو يناديه بالرحيم القاسي "إنك لتمنحنا الجديد، وتهبنا الطريف، ولكنك تسلبنا القديم".
لكن نظرة الطيف الثالث محمد قطب تظل أقرب للتحليل الفلسفي في تعمقه في تحليل المعطيات والتوصل للنتائج، بينما حرص سيد قطب على العبارات الإنشائية من قبيل "أيتها الشموس الغاربة"، "وراء الآباد"، "أين الليالي الساربة في مجاهل الأبد؟".. "أين النجوم متجمدة في السديم؟".
يستمر سيد قطب في الحديث عن المجردات كما هو الحال في قصة "التيه" شيطان الحقيقة، ما الحقيقة؟، مفهومها وكنهها، وأثرها في حياة الإنسان؟ إننا أمام خطرات كما أطلق عليها، تبتعد عن فن القص كما هو معروف بأبعاده الفنية، فالحديث عن الخيال والمعرفة وجنايتها على مشاعر الإنسان، وكيف أن الإنسان الأول في فطرته نعم بالتمتع بالبهجة والسرور لمشاهدته مطلع الشمس وشروقها أول مرة، وهو يتدرج في تناول المسائل للوصول إلى علاقة الفنان بالحقيقة، فهم وحدهم الذين يتمتعون بالإحساس بالدهشة واستمرار الإحساس الأول لظهور الأشياء في حياتهم، هذه هو الفن وروحه التي يتمتع بها الفنان وحده دون باقي البشر.. "هم أبناء الحياة، الناجون من لعنة التجربة، لعنة الفناء".
لقد تحولت القصة إلى أفكار مجردة لم يكسها لحم الحياة، فظلت كاشفة عن فحواها، ولم يسع الكاتب لربط هذه الأفكار بالواقع، أو بالعالم القصصي كما صنعت أمينة قطب.
كان لا بد لهذا المفكر أن يتحدث عن الإله، وعن قدرته وعظمته، فهو "النور ، أأنت طليق؟ أأنت تفيض حيثما تشاء؟ وتنطلق كيفما تريد؟ إن الإله الطليق قطعة نثرية من رحلة بحث النبي إبراهيم عن الإيمان "فلما أفل قال لا أحب الآفلين".
تنتهي القطعة النثرية بهذه العبارة " أيهذا الإله العظيم، إنني أحبك، أحبك لأنك غير محدد، الوحيد، الوحيد في هذا الوجود، أحبك لأنك الأمل الإنساني الوحيد حين يضيق بالحدود"، هذا اليقين الديني الذي يبعث على الطمأنينة النفسية.
لقد صدق سيد قطب مع نفسه حينما أطلق على قصصه تلك العبارات الدالة على التفكير في الكون، وفيما حوله من أشياء، وتثري هذه الحياة أو تشقيها، تلبي نداء الروح أو الجسد، وتبعث النشوة في القلب.
مثلت كتابة سيد قطب محاورات مع النفس إضافات - كما قال في "مع نفسي" - إلى رصيده المتواضع من السعادة العميقة في هذه الحياة.
يمكننا أن نطمئن للقول بأن ما كتبه كل من حميدة وأمينة ومحمد وسيد قطب، محاولات في كتابة القصة أصابت في بعضها، وأخفق في بعضها الآخر، لكنها وشت بأن لدينا كاتباً، هو سيد قطب، أقرب إلى المفكر من القاص، والمحلل والناقد من المبدع، لكن ما كتبته "الأطياف الأربعة" عبر بصدق عن مشاعر الأبناء تجاه الأم.
المجموعة تعد - بحق - ترنيمة حب وشوق لأم أحبت أبناءها، فكانت عوناً لهم في حياتها، وملهمةً لهم بعد موتها.