الجماليات الفنية في عبقريات العقاد

الجماليات الفنية في عبقريات العقاد

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

ولد عباس العقاد في مدينة أسوان بجنوب مصر في 28 / 6 / 1989م، وترك ثروة فكرية ضخمة تتمثل في أكثر من مائة كتاب وآلاف من البحوثن والمقالات في شتى المعارف من أدب، وتاريخ، ونقد وإلهيات، وتراجم ذاتية وغيرية، وكذلك عدد من الدواوين الشعرية، وانتقل إلى العالم الآخر في عام 13 / 3 / 1964م، وبذلك يكون قد مضى على وفاته أربعون عامًا.

كان العقاد ذا عقلية موسوعية متعددة المعارف منهومة بالقراءة، وربما كان  هو آخر الموسوعيين في الساحة العربية، أو المصرية على الأقل، وكأنما أراد بهذه الموسوعية ـ كما يقول أستاذنا الدكتور شوقي ضيف ـ أن يستدرك ما فاته من إتمام تعليمه، وإحراز درجة جامعية، فإذا هو يحطم في قوة قيود المعرفة يلتهم كل ما تصل بها في الشعر، والفن، والدين والفلسفة، بجميع مذاهبها، والتاريخ، والسير والعلوم التجريبية، والطبيعية، والإنسانية، متمثلاً في كل أولئك زادًا وافرًا جعله في طليعة المتخصصين في سائر صنوف المعرفة" مع العقاد 55 ـ 56.

***

ولا شك أن كتب التراجم الإسلامية ـ وخصوصًا العبقريات ـ هي أشهر ما خطه قلمه، كعبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقريات الإمام علي. وعثمان ذو النورين، والصديقة بنت الصديق، ومعاوية في الميزان، وأبو الشهداء الحسين بن علي، داعي السماء بلال بن رباح، وعبقرية خالد.

وللعقاد في هذه التراجم منهج متفرد، يخالف ـ إلى أبعد حد ـ المنهج السمردي التقليدي، الذي يعتمد على جمع الأخبار، ورصد الواقع، والتزام الخط التاريخي من البداية إلى النهاية.

كما أن العقاد يجند ـ في براعة ـ علوم العصر، ومعارفه المختلفة لخدمة منهجه، وتفوق في استخدام القواعد الاجتماعية والنفسية والقانونية، والمعارف العسكرية، والأدلة العقلية والمنطقية في عرض مختلف القضايا، والرجوانب، وربط الأسباب بالمسببات، واستخلاص الأحكام، والخلوص إلى النتائج الحاسمة التي تعينه على تشخيص الصورة.

***

والمعروف أن أسلوب العقاد ـ بصفة عامة ـ يتسم غالبًا بالتشبع، والتركيز الشديد الذي يحتاج إلى وقفات طويلة، وكد ذهني غير قليل.

ولكن الطابع الغالب على أسلوب العقاد في التراجم، والعبقريات الإسلامية، وخصوصًا "عبقرية محمد" و "أبو الشهداء الحسين بن علي" هو الطابع الأدبي الوجداني بما فيه من خيال رائع، وتصوير آسر، وتعبير متدفق.

بل لا أغلو إذا ذهبت إلى أن بعض هذه الصفحات أبرع خيالاً، وأجمل تصويرًا، وأصدق عاطفة، وتعبيرًا من كثير من قصائد العقاد.

وفي السطور الآتية نقدم قطوفًا من هذا الإبداع الآسر، لنرى ما يتمتع به حكمنا السابق من مصداقية:

1 ـ فمما كتبه العقاد في "عبقرية محمد" في مقام حديثه عن "يوم "غار ثور" ـ وهو الغار الذي اختبأ فيه رسول الله، وأبو بكر الصديق، وهما في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة: ".. ستسطع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يومئ إلى بقعة من الأرض هي غار الهجرة، أو يومئ إلى يوم لمحمدج هو أجمل أيام محمد؛ لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته، ورجاء سريرته.

لقد كان علي فتى يستقبل الدنيا، وكان أبو بكر كهلاً يدبر عنها، يوم أعانا محمدًا في يوم "ثور" ولكنهما كانا معًا على أبواب غد واحد، ورجاء واحد، يستوي فيه الفتى، والكهل، والشيخ الدالف إلى قبره؛ لأنه رجاء الإيمان لا رجاء العيان".

***

2 ـ وفي "عبقرية عمر" كتب العقاد "... وأسلم الجاهلي الشريف كما ينبغي أن يسلم، وكما كان يقينًا سيسلم في مناسبة من المناسبات.. فإذا العالم الإنساني قد تفتحت فيه صفحة جديدة.. صفحة يقرأ فيها القارئ قبل كل شيء، ماذا يصنع الإسلام في النفوس، ويعلم منها قبل كل علم أن هذا الدين كان قدرة بانية منشئة من لدن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود، كان قدرة تلابس الضيعف فيقوى، وتلابس القوي فتنمي قوته، وتجري في وجهته، وكأن يدا خالقه حاذقة تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه، فإذا هي صرح له أساس وأركان، وفيه مأوى للضمائر، والأذهان.

جاهلي كسبه الإسلام فكسبه العالم الإنساني كله إلى آخر الزمان، ونفس ضائعة ردت إلى صاحبها، فعرف بها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته، وأممًا لا تحصى، وصنع بها الإسلام أعظم، وأفخم ما تصنعه قدرة بناء وإنشاء، نظرت الأمم فرأت كيف تعلو النفس الإنسانية حتى يحار فيها الإنسان، وهو ريشة في مهب النوازع والأشجان.

3 ـ وتتوهج عاطفة العقاد، ويبلغ قمة التأثير، وهو يصف المشهد الدامي الحزين.. مشهد استشهاد الحسين بن علي، وآل بيته كأنه شاعر أسطوري عاش اليوم المنكوب بنفسه، وعينيه ومشاعره، فدمى مع الجرحى، وتمزق أشلاء مع الشهداء، واستبد به الظمأ مع العطاشى، والضحايا. العقاد يقدم هذا الفصل الدرامي بأسلوب شاعري آسر، وربما كانت صفحات هذا المشهد أروع الصفحات التي كتبها في حياته: وجدانًا وتصويرًا، وتعبيرًا.

ولولا أن ما كتبه العقاد في يو كربلاء واقع تاريخي معروف مشهور لاعتقد القارئ أنه أمام مشهد مخترع يحكمه المنطق الروائي، ومقتضيات الفن.

لنترك الحسين في هذا اليوم، ولننظر تصوير العقاد لشخصية من "الشخصيات الثانوية" التي قلما يلتفت إليها المؤرخون على هذا المسرح المتدفق بالدم. يقول العقاد: "وبقيت ذروة من الحمية يرتفع إليها مرتفع، وبقيت هذه من الخسمة ينحدر إليها منحدرون كثيرون، فلم يكن في معسكر الحسين كله ـ بعد الهزيمة ـ إلا رمق واحد من الحياة باق في رجل طعين مثخن بالجراح تركوه، ولم يجهزوا عليه لظنهم أنه قد مات. هذا الرجل الكريم هو سعيد بن أبي مطاع، أصدق الأنصار، وأنبل الأبطال.

وأبى الله لهذا الرفق الضعيف أن يفارق الدنيا بغير مكرمة يتم بها مكرمات يومه، وتشتمل عليها النفوس الكثيرات، فإذا هي حسبها من شرف، ومجد وثناء ...".

ولا يذكر أحد "عبقريات العقاد" إلا واستدعى في خارطه "حيوات" الدكتور محمد حسين هيكل: حياة محمد ـ وحياة أبي بكر ـ والفاروق عمر ـ وعثمان بن عفان ـ وقد توفي قبل أن يكتب فصله الخامس (وهو الأخير) فكتبه الدكتور جمال الدين سرور، وتلتقي عبقريات العقاد، و "حيوات" هيكل في وجوه الشبه الآتية:

1 ـ تعقب المستشرقين، والتصدي للشبهات اليت أثاروها ضد الدين الإسلامي، وعظماء الإسلام.

2 ـ غربلة الروايات والأخبار، وتحقيقها وتمحيصها، وتنقية صحاحها مما علق بها، وتطفل عليها.

3 ـ الإفادة على نطاق واسع من الثقافة الموسوعية، وعلوم العصر من فلسفة، ومنطق، وقانون واجتماع، وعلم نفسه، ولكن يبقى بين الرجلين فروق لا يخطئها النظر، ومن أهمها:

1 ـ تدور تراجم هيكل على محاورة ثلاثة هي: الشخصية، والدولة، والعقيدة، أو النظام، بأنصباء تتوازى، وتكاد تتساوى. بينما يعطي العقاد همه الأكبر "للشخصية" وخصائصها النفسية، وصورتها الإنسانية، حتى ليشعر القارئ أن الشخصية قد كشفت للعقاد طواعية عن خفاياها ومساربها ودروبها.

2 ـ يمكن أن نطلق على طريقة هيكل في الترجمة "المنهج السردي التحليلي أو العلمي" فهو يلتزم الخط التاريخي للشخصية من بدايته إلى نهايته، ولكن شخصيته تطل من الأحداث مع مواكبته لها في مسيرتها، ويكون تدخله أقوى إذا ما احتاج الأمر إلى ربط سبب بمسبب، أو تعبليل ظاهرة، أو بيان أثر، أو رد شبهة، وهو ـ على أية حال ـ لا يبتعد كثيرًا عن الخط التاريخي الزمني الذي يستغرق حياة الشخصية من الميلاد إلى الوفاة.

فطريقة هيكل ـ كما ذهب أحد النقاد المعاصرين "طريقة غير مبتكرة، أما العلاج ففيه شيء من الابتكار... الطريقة هي طريقة كتب السيرة مهذبة .. مع مناقشتها وتحقيقها.

أما طريقة فهمها ـ في المقام الأول رسم الصورة النفسية الإنسانية للشخصية، بصرف النظر عن ترتيب الأحداث، واستيفائها جميعًا، فالمهم عند العقاد ما يحمله الحدث من دلالات وما يعكسه من تأثيرات.

3 ـ أسلوب هيكل وأداؤه التعبيري يتسم بالانطلاق والترسل، وكثيرًا ما يقترب من الأسلوب الصحفي المباشر بما فيه من سهولة، ووضوح، لكنه لا يعدم الطابع العلمي في المناقشة والتصدي للشبهات والأباطيل.

أما أسلوب العقاد، فالأصل فيه اتسامه بالتركيز والشتبع، ولكنه في العبقريات يجنح للشاعرية والجمالية الفنية.