قراءة في رواية "وقت الرحيل" لنور الدين محقق
النص السردي:
بين غُفْلِ الأكسيولوجيا وتناسل الإيديولوجيا
قراءة في رواية "وقت الرحيل" لنور الدين محقق
عبد المجيد العابد
تــأطير
يكسب المنهج السيميائي فُرادَته في قراءة الأعمال الإبداعية، مادام يجمع بين أمرين معا: المقاربة الداخلية البنيوية، أي اعتماد مبدأ المحايثة، والتأطير الخارجي البراني، أي الانطلاق من الخطاب(الأكسيولوجيا) إلى البنيات السردية الثاوية خلفه (الإيديولوجيا) لذلك أصبح منهجا شموليا. وهذا ما سنأخذ به في هذه الدراسة، حيث سنعتمد على السيميائيات العامة مستثمرين مصطلحاتها ومفاهيمها، ومعززينها بأخرى واردة من حقول معرفية مغايرة نراها لازمة لدراسة نص"وقت الرحيل" للكاتب المغربي نور الدين محقق، لأن الرواية نفسها تتطلب منهجا متعدد المشرب، معتمدين بالأساس على السيميائيات البصرية وسيميائيات الأهواء ونظرية الإيقونص(Iconotexte) بناء على جماع المفاهيم التي تستند إليها هذه النظرية، سواء تلك المرتبطة بها ابتداء، أم تلك التي استعارتها من نظريات أخرى.
لوحة معمار النص
ينظر إلى واجهة الغلاف في النظرية السيميائية، بوصفها لوحة (Tableau) ضمن معمار النص، تشتغل باعتبارها صفحة تتميز عن الصفحات المشكلة للنص المتن بطابعها الدلالي الإيقوني، وبتنظيم العلامات البصرية بكيفية تجعلها ترسخ المتن النصي بأكمله، وتبرز كيف يأتي المعنى إليه. إن واجهة الغلاف لوحة تنتظم فيها المعطيات البصرية والمعطيات اللسانية، بشكل يدمج النسقين اللفظي والبصري في بناء النسق الدلالي العام.
تنتظم الغلاف مجموعة من العلامات البصرية الإيقونية(Iconiques) والتشكيلية(Plastiques)، والعلامات اللسانية(Linguistiques). تضم العلامات التشكيلية: الألوان(Couleurs) والنسيج (Texture) والأشكال(Formes) والتركيب(Composition)، أي كل ما هو اصطناعي يخضع لتوافقات ثقافية، يعود إلى الثقافي. أما الإيقوني فيحيل إلى المعادلات الموضوعية كالجسد، والنظرة(Regard)، والوضعة(Pose) ...، أي كل ما تحبل به الطبيعة، ولا يتم التمييز بين التشكيلي والإيقوني إلا إجرائيا. وتقدم جماعة مو(Groupe µ)[1] لهذا التمييز مثال "البقعة الزرقاء"، فعندما نكون أمامها نقول: إننا بصدد علامة تشكيلية، أما عندما نقول: إنها تمثيل للأزرق، فالأمر يتعلق بعلامة إيقونية، ولا يمكن الحديث عن علامة في حد ذاتها، سواء كانت تشكيلية أم إيقونية، وإنما عن علامة بصرية تجمع بين البعدين: ما يعود إلى الذخيرة (Répertoire)، أي الإيقوني، وبين الاستعمال الاصطناعي، أي التشكيلي.
يقع في أعلى اللوحة اسم كاتب الرواية "نور الدين محقق"، وتحته مباشرة "وقت الرحيل" وبعده "رواية"، وفي وسطها صورة متعددة الألوان والأشكال تجمع بين البحر والأسمال. وفي أسفل الصورة على اليمين جملة "سلسلة إبداع". وفي أقصى الأسفل "منشورات دار الثقافة".
هذا كل ما يقوله المؤول المباشر لهذه العلامات البصرية واللسانية، وهذا ما لا يرتضيه الذهن السيميائي المحلل، إننا وقفنا فقط عند حدود ما تقوله هذه العلامات، بحسب رولان بارت، في صورتها التقريرية(Dénotative)، لكنه لا يسعف في استكناه دلالات الغلاف إلا باستدعاء مؤول دينامي، ننتقل بوساطته من المعاني المباشرة إلى المعاني الإيحائية(Connotatives) أو المستلزمة حواريا، إذ نستدعي تجربة جانبية سابقة في الوجود والاشتغال عن ما هو متحقق نصيا، وهي الكفيلة بتناسل المعنى وطرحه لمتاهات التأويل. إن المؤول الدينامي كفيل بطرح الدلالة في متاهات التأويل، والقذف بالمعنى نحو ساحة التداول، وهذا المؤول يتطلب ضرورة موسوعة إدراكية، بتعبير أمبرطو إيكو، نستحضر فيها الكاتب والإبداع والمقام التواصلي الذي يجمعهما، وكل المقامات الواردة بصدد التلقي والإنتاج السردي…إلخ.
تُقْرأ الصورة في الغالب على شكل s، وهي قراءة شبيهة بالقراءة اللسانية، إذ نبدأ من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل. يوجد في الأعلى على يمين اللوحة اسم الكاتب "نور الدين محقق"، بخط بارز، ومن دون أي حلية، مثل (الدكتور). إن أول ما يلفت النظر في الكتابة اللسانية في فضاء اللوحة، هو اسم الكاتب، ما دام يراهن على الاسم قبل الإبداع، وفي ذلك إشارة إلى شهرة كاتب الرواية من خلال إبداعات سابقة نالت إعجاب قراء كثر، وما دام الأمر كذلك فإن إبراز الاسم سابق عن إبراز عنوان الإبداع، إذ ما قيمة العنوان إذا كان المبدع مجهولا أو لا يعرف مقدرته الإبداعية القراء النموذجيين للنصوص السردية؟
ولعل ما يبين هذه النتيجة أن عنوان هذا المنجز "وقت الرحيل" غير بارز، ويَفْتُر أما بروز اسم الكاتب. بالرغم من القيمة التي يكسبها العنوان في النص السردي على الخصوص، إذ يشير ليو هوك (Leo,H, Hock) في كتابه "علامة العنوان"[2] إلى مجموعة من الأدوار التي يقوم بها في علاقته بمضمون النص. فقد تكون إشهارية، تقوم فقط بدور استثارة القارئ قصد الإقبال على شراء الكِتاب، يلعب فيها العنوان دور المنبه، ويلعب القارئ دور المستجيب للإثارة. وقد تكون إيحائية من خلال الإحالة إلى عوالم وأكوان قيمية يريد الكاتب الإشارة إليها من خلاله. وقد تكون اختزالية تجذيرية، بوساطة اختزال النص بكامله في كلمة أو جملة، تكون بمثابة ثيمة. وقد يلعب العنوان دورا تمويهيا، أو أن يكون مشة مقدمة للقارئ كي يزدرد النص. هذه الأدوار التي يلعبها العنوان، تشير لا محالة إلى قيمته داخل جماع النص، وليس غريبا أن يرتبط في المعجم العربي بقولهم: "عنت القربة" إذا سقطت وبان ما فيها؛ إنه الكشف والإفصاح والفسر والتوضيح والإبانة.
يدخل عنوان الرواية ضمن العنوان الإيحائي (وقت الرحيل)، جاء شبه جملة غير تام، لذلك يحيل إلى دلالات مائعة، فعن أي رحيل ستتحدث الرواية؟ أهو رحيل بالبدن والروح أم رحيل بالروح فقط؟ هل هو سفر مرغوب فيه أو مرغوب عنه؟، أهو موت حقيقي أم خيالي؟ ...وقد تدفعنا التساؤلات الكثيرة إلى تخمين أن الرواية هي من جنس محكي السفر أو أدب الرحلات، ومنه نستحضر رحالين حقيقيين مشهورين كابن بطوطة ومختلف الرحلات المغربية في العصر المريني على الخصوص وغيرها، وقد نستحضر رحلات خرافية كرحلة السندباد في ألف ليلة وليلة. كل هذه التأويلات تجعل عنوان الرواية ينتقل من الفسر والتوضيح إلى الغموض، مما يفرض على القارئ تلمس الإجابة من خلال مراودة النص بكامل تمفصلاته، ويجعل العنوان مكونا إشهاريا للنص.
إذا وضعنا مضامين النص باعتبارها تجذيرا لتعدد دلالات العنوان، نجد أن "وقت الرحيل" كان أساس بداية حقيقية للراوي(الدار البيضاء) للاطلاع على عوالم مختلفة في فرنسا (ستراسبورغ)، وقد شكلت هذه العوالم مهمازا له للبوح وتقديم رؤيته المخصوصة حول دقائق الحياة عبر تفاصيل وجزئيات قد يغفل عن وضعها في الاعتبار كثير من الناس. إن الرواية محكي سفري استطعنا من خلالها التعرف إلى أكوان قيمية متعددة، عبر المعطيات المضمونية التي جاءت من خلال تصور السارد لكثير من الأفعال الإنسانية في الغربة (تصوره للزمن والغربة والجنس والدراسة والحنين والفقر والأنفة والكبرياء...).
أعقب الكاتب العنوان بتحديد جنس عمله الإبداعي (رواية) كتبت بلون بارز شبيه بالطريقة التي كتب بها اسم الكتاب، دلالة على أن الكاتب نفسه أكفى قارئه النموذجي عناء البحث في تحديد جنس منجزه الإبداعي، لأن الرواية نفسها تحيل القارئ إلى عوالم ألف ليلة وليلة عن طريق استحضار مغامرات السندباد، وتحيله أيضا إلى محكي السفر (Récit de voyage)، بوساطة استدعاء عنصر تدوين المشاهد والعوالم، والمقارنة بينها وإصدار أحكام بشأنها، تعود أحيان إلى طبيعة وعي الذات الساردة، وحينا آخر إلى طبيعة العوالم نفسها، أو إلى الشخصيات التي افترضتها الشخصية المحور في الرواية (نوري)، كما تقترن بالسيرة الذاتية، حيث نلفي المتن الحكائي سردا لوقائع مرتبطة بشخصية محور إثر رحلتها للدراسة في فرنسا، وهي الشخصية الوحيدة التي تلتف حولها باقي الشخصيات وتفرضها على المتن الحكائي، كما تفرض طبيعة الفضاءات والأزمنة التي تسيج أحداث القصة.
بعد تحديد الكاتب والعنوان والجنس الأدبي، يوجد في موقع وسط مبار صورة بصرية تجمع بين عناصر إيقونية وتشكيلية بالغة التفرد، يجمع بينها والعناصر الثلاثة، أي الكاتب والعنوان والجنس، علاقة تكامل وتضافر، فالأسمال إيقونة لفضاء مرغوب عنه باعتباره لا يمكن أن يحقق موضوع القيمة المرغوب فيه (الدراسة والتطلع إلى المستقبل)، والأسمال أيضا في حمولتها الرمزية تدل على المتخلى عنه والمبدل والماضي والبلى، لذلك سترتبط بعوالم لن ترغب فيها الذات التي كانت تلبسها مادمت تفكرها بأشياء قد تحيل إل الفقر والفاقة والتخلف حينا، والأسمال بطبيعتها تلك ترمز إلى بيئة عربية تقليدية (تشير إلى المغرب بالضرورة)، وهي بطريقتها الموجهة نحو البحر تدل على أن صاحبها الذي لم يعد بحاجة إليها قد قطع البحر وتركها وحيدة بكل ما تحمله من رموز وقيم (التقليد، الأصالة، المحافظة، الفقر...)، وهذا التخلي عن الأسمال دليل على تخلي صاحبها عن مجموعة من القيم التي يراها تنوء بكلكلها على عاتقه، وهو في المغرب، إنه يطلب الحرية والانعتاق من القيود والطابوهات، ومن تم يصبح "وقت الرحيل" مهما في بداية حياة جديدة أساسها الانعتاق من الطابوهات والشراك التي تأسر الذات في التعبير عن حريتها الفردية، ومن تم الوصول إلى موضوعات القيمة التي تأملها (حياة أفضل، تعليم أفضل، مستقبل أفضل، فتيات أفضل، حرية أكثر...). إن الآفاق التي يحملها البحر في امتداده قرين امتداد تطلعات الذات الراحلة. يرتبط الأمر إذن برحلة مرغوب فيها قصد الهروب من عوالم مغربية مرتبطة بالذات الراحلة مرغوب عنها. وهذه الصورة إن كانت محيلة إلى رغبة شرعية في الانتقال (طلب العلم) فهي تختزل أيضا أغلب رحلات المغاربة نحو الفردوس المفقود سواء كانت رحلات شرعية أم عبر قوارب الموت/النجاة، حيث تجمعنا الرؤية نفسها مع اختلاف في طبيعة الانتقال.
إلى جانب هذه العوالم البصرية تملأ الواجهة في شبه خلفية لها مجموعة من الأشكال قريبة من التصور التكعيبي في فن الرسم باعتماد المنظور التراتبي (Perspective hiérarchique)، تقدم فيه عناصر الصورة بطريقة تراتبية[3]، تجمع هذه الأشكال بين اللونين الأزرق الدال على البحر والأمل، أمل الذات الراحلة في تخطي عقبات والوصول إلى ما تطمح إليه، واللون البرتقالي المرتبط بأحلام اليقظة في الغالب، تبرره مجموعة من الأحلام التي تعتري "نوري" في "ستراسبورغ"، والتي يبني عليها قيما ونظرات وجودية عن الأبوة والأمومة والغربة والقدر...ثم اللون الأسود المتعلق بطبيعة الواقع المعاش في الحاضر والماضي، الذي جعل "نوري" يرحل ليتخلى عنه، ثم اللون الأخضر بتلوينيه المفتوح والداكن، لون الطبيعة والأمل والحياة والرغبة في التغيير، يعود إلى الربيع بكل حمولاته الدلالية.
إن كل العناصر الشكلية والمضمونية التي تحبل بها الصورة البصرية المسيجة لواجهة غلاف "وقت الرحيل"، تعمل متضافرة في القذف بمضامين متعددة تدور حول نواة معنوية واحدة هي الرحيل من أجل بناء وعي قادر على الرؤية إلى الحياة بمنظار مختلف عما تفرضه التنشئة العادية السابقة للذات الراحلة، فهي موجهة ومساعدة في تحديد دلالاتها. فاختيار علامات بصرية بمختلف تجلياتها السالفة الذكر، لم يكن اعتباطا، بل مهمازا للبوح والتعبير وإرساء رؤية مخصوصة للعالم والأشياء.
بنية الرواية الاستهوائية
تأخذ سيميائيات الأهواء بعين الاعتبار النفس البشرية وهي تعمل، أي العامل بمختلف ميوله النفسية المتعددة، من مشاعر وأحاسيس ورؤى وجدانية مخصوصة، كشفا للبعد الانفعالي في تحديد الواقعة السردية، وتحليلها وتقويمها، تقويما ينسجم وطبيعة البنية النفسية للعامل وهو يعمل، ومن تم أصبح الاعتماد أساسا على الخطاب في أبهى تجلياته التداولية، التي تضع مختلف الشروط المقامية في التعامل مع الوقائع الإنسانية ومنها النفس. يعظم البعد النفسي في الرواية من خلال التركيز على مجموعة من الثيمات الاستيهامية للنفس البشرية، التي تدل عليها الوحدات المعجمية الآتية:(العقد، الحب، الذات، الغربة، الشوق، الحنين، الجسد، الحبيب، الصديق...)، مما يجعل النص موضوعا لسيميائيات الأهواء.
تتكون الرواية في بنيتها المورفولوجية من تسعة فصول تحمل عناوين تبئر طبيعة الحدث وشكل الرؤية المعتمدة فيها في استطلاع تفاصيل التجربة الحياتية، وهي بنيات فرعية استهوائية قائمة على مجموعة من المفردات التي تعد قواما لبنية عامة تشكل مسار الوعي بالذات وبالآخر وبالحياة في كامل تمفصلاتها.
يتعلق الفصل الأول "رسائل الحب" برسائل بعثها الكاتب الضمني إلى قارئ ضمني محتمل، سبب الرسائل المكتوبة تبيان المشاق التي يكابدها الكاتب أثناء كتابة المنجز الروائي(الآلام والآمال والأفراح)، لقد اعتمد أسلوب الأنا الفاضح في نقل مكنون الكاتب الفعلي، والهدف الأسمى من ذلك إشراك القارئ في معاناة الكتابة، وهي تقنية غالبا ما يغفل عنها الكاتب، ويغفل عنها القارئ أثناء فعل القراءة أو النقد، لأن الإبداع في أصله معاناة، أي وجود شيء معين يدفعك إلى القيام بفعل الكتابة (كالحب والشقاء)، وهذا الإشراك نفسه يجعل القارئ يلعب دورا مهما في اختيار المساقات المتعددة عن مساق الكاتب خصوصا إذ كان القارئ نموذجيا لما يكتبه نور الدين محقق، لكي يرد على رسائل تتعلق ببناء المنجز وكيفية الاشتغال، غير أن هذه الرسائل لم توضح للقارئ الضمني تفاصيل المنجز ليترك له ولقراء ضمنيين محتملين فرصة التعلق بالنص.
يبنى المسار الاستهوائي في الرسائل على معجمة لأفعال استهوائية تختزل في الود، ومتدرجة عبر طبيعة الرسائل الخمس وسيروراتها عبر مسار تشكل الرواية، وعبر طبيعة العلاقة التي تربط الكاتب الضمني بالقارئ، فكلما اقترب الكاتب من النهاية إلا وأحس بالتباعد في العلاقة الودية التي تتحول إلى ارتباط مبني على علاقة كاتب بناقد، تنتفي فيها عناصر الود والتودد والحب.
العزيز ← الصديق ← الحبيب ← القرين ← الزميل
تحية فائقة تحية مخلصة وودودة تحية أدبية خالصة تحية مائية نارية تحية مشاغبة ملاعبة
يتعلق الفصل الثاني "وهج الظهيرة"، بهوى "الاشتهاء" وبهوى "الأمل" بيت قصيد الرحيل المرتبط بالجسد الأنثوي المفتقد، إذ يرتبط بلقاء الشخصية المحور بـ"عبدو" و"جلول" والفتاة "نطالي" الجميلة التي أمل في كسب ودها، ليصل في الأخير إلى أن لا علاقة لها بأحدهم، غير أن طيفها لم يفارقه:
"أخبرتني أنها على صلة بأحدهم منذ ما يزيد على الثلاث سنين وأنها تحبه كثيرا، وطلبت مني أن أحتفظ بها صديقة حميمة، لأنها قد ارتاحت لي منذ النظرة الأولى" ص31
إن هذا الحدث على الرغم من بساطته إلا أنه يضمر هوى نفسيا يرتد إلى طبيعة تنشئة "نوري" المعتمدة على الاستيهامات الجنسية للذات الأنثوية بعيدا عن كنه العلاقة الجسدية التي تسيج الكون الفرنسي في التعامل وطلب الود، إنها تجربة مبنية على أساس اختصار الجسد في الاشتهاء والأمل الدائم في استيعابه.
أما الفصل الثالث "سطوة الأحلام" فيتعلق بهوى "الحلم" من خلال أسلوب التداعي الحر، حيث يستعيد "نوري" أباه من خلال الحلم ويتحدث إليه عن أشياء مكبوتة، ثم يستحضر أمه أيضا، وهذا الحلم مبني على أن الذات حينما لا تستطيع الوصول إلى موضوعات القيمة في الغربة بالذات على مستوى الحياة الواعية فإنها تحاول أن تستردها عن طريق اللاوعي والحلم واللغة المنسية:
"لم يكن يعرف أنه يحب أمه حبا كبيرا وأن صورتها في الصافية كالماء السلسبيل...رأى هذه الصورة المذهبة بماء الحناء، والحاملة لرائحة الجنة. تقترب منه، مقبلة، تضمه على ثنايا صدرها الحنون، وتعلن له أنها مصاحبة له في غربته، وأنها تسهر حين ينام، تحرسه من شياطين العالم المرئي، وتصنع له الحجاب الواقي كلما شعرت بحاجته العميقة إليه" ص39
ويتعلق الفصل الرابع "صخرة الألم" بهوى الأمل والألم"، يرتبط الأمل بالحصول على البكالوريا بوصفه موضوع قيمة أولي واختيار "نوري" من بين التلاميذ للذهاب إلى فرنسا لاستكمال دراسته، وهوى الألم يرتبط بعدم توفره على المال الكافي للذهاب، مما جعل أمه تستعين بالأقرباء الذين خيبوا آمالها هي أيضا وآلموها، ليجد أمله في ابن عمه "مروان" الذي رجع من إيطاليا وأعطاه ما يحتاجه، ولهذا ظل "نوري" يعيش بين الشقاء والأمل، معتبرا أن هذين الهويين سر النجاح في الحياة:
"إن لذة الهناء لا تحلو إلا في خضم الشقاء، وإن نشوة النصر لا تأتي إلا بعد ملاقاة الأهوال" ص 54
يرتبط الفصل الخامس "هديل القلب" بهوى "الأنفة والكبرياء" من خلال جد "نوري" في طلب الكراء وجداله مع "كريستين" مما أدى إلى إشباعه ضربا مع صديقه المغربي"عبدو" (الذي يعتبر النمط النموذجي للمغربي المتفوق علما وسلوكا) من قبل عصابة الجميلة "كريستين"، هذا الحدث يجعل الشخصية المحور تعيد النظر في رؤيتها للجسد وفي التعلق به وحب من يمتلكه، وللقيم الأوربية، حيث يصبح الجسد بلا روح وتغدو القيم خائنة لنفسها في كثير من الأحيان، وتمسي مناقضا لطبيعة تنشئة "نوري".
يشكل الفصل السادس "ترويض الأفعى" هوى "الاشتهاء"، فحين يغدو الجسد غير مشتهى في الفصل الخامس بالنظر إلى طبيعة الأفعال التي يصدرها (هوى العنف)، يصبح مخالفا لطبيعته اللطيفة ويصير من طبيعة أخرى متوحشة يحتاج إلى رياضة أو ترويض، ذلك ما حصل لـ"نوري" عندما يقارن بين ترويض كرة الفليبير وطلب ود "كريستين" باعتبارها بداية جسدا مشتهى.
يتعلق الفصل السابع "تفاحة العشق" بهوى "الانتشاء"، وفيه يحضر الجسد المشتهى بامتياز لـ"كريستين"، معتمدا في ذلك أسلوب التداعي الحر، الذي يرتبط برغبة الذات في الوصول إلى الموضوع المرغوب "الجسد الأنثوي وروحه حينا":
"ثم تضحكان معا، وتتعانقا، بل إنك لتوشك أن تقبلها أمام المارة كعادتك دائما مع الفتيات اللواتي يعجبنك، ولكنك هذه المرة تكبت رغبتك وتحول مجرى الحديث" ص91
أما الفصل الثامن "رقصة الأشواق" فيشكل هوى "اللذة" حين يرتبط برغبة الذات في تحقيق المتعة العابرة بعيدا عن أسيجة الطابوهات التي يمكن أن تأسرها بالنظر إلى طبيعة تنشئتها، وهي متعة غالبا ما تنتهي بمشقة، وهذا ما حصل لـ"نوري" في الحفلة ومع صديقته الإيطالية "هيلين" التي انتهت بالعبث بمنزله من قبل عاشق مغربي ورفاقه:
"شعرت بأن صديقتي "هيلين" ترتجف فزعا وتحاول إخفاء ارتجافها، قرت أن أغادر مكان الحفلة في الحال لألحق بهم، إن كانوا ذاهبين إلى حيث أسكن" ص 109
بينما الفصل التاسع "زوار الليل" فيتعلق بهوى "الحلم"، أي ما ارتبط بنهاية "هوى المتعة" الذي يدفع الذات إلى نتائج مخالفة لطبيعة الفعل الجنسي في الغالب. لقد قام الطلبة بتهشيم بيت الذات المستهوية "نوري" جزاء لما فعل، مما دفعه إلى المبيت عند "مادونا" ليعيد الفعل نفسه، مما يدل على قوة هذا الفعل في تعطيل الذهن في الاعتبار، لكن هوى الحلم انتصر في آخر الفصل:
"قضينا معظم ذلك الصباح في إصلاح الأعطاب التي تعرضت لها غرفتينا أصلحنا بابها أولا، وقمنا بطلائه بلون رمادي. أصلحنا بعد ذلك النافذة الوحيدة الموجودة فيها، والتي تطل على الحديقة الواسعة التي يقع فيها القصر الأثري برمته، والتي كثيرا ما تأتي حسناوات أوربا بأكملهن إليها" ص128
يتعلق الفصل العاشر "كذبة أبريل" بهوى "الرغبة المعلقة" المقتضية لحدوث أمر مرغوب فيه لم يحدث، وهذه طبيعة الموضوعات المعلقة في الغالب، حيث ألفينا "نوري" يسقط في شراك صديقه "عبدو" لأنه لم يرجع إلى العقل، بل إلى الوجدان في قراءة الرسالة التي أرسلها له، وهذا يعني أن الذات المستهوية لم تغير من طبيعة وعيها الشرقي في علاقتها بالجسد المشتهى:
"حقا إنها لأبيات رائعة، تدفع الإنسان الشرقي لأن يحتوي بنات الغرب كلهن في داخله دفعة واحدة، أبيات يتوحد فيها الشرق والغرب، كما يجب أن يكون التوحد، توحد الذات بالذات، والروح بالروح والجسد بالجسد" ص146
نخلص إلى أن هذه الثيمات الاستهوائية التي تؤثث المسار التوليدي في النص بأكمله، ترجع بالذات إلى طبيعة الاختلاف بين التنشئة الاجتماعية والفكرية للذات المستهوية "نوري" والفضاءات والأزمة والشخوص والمواقف التي صادفها في غربته في سترسبورغ، أحيانا نحس بنوع من الوعي الشقي يجعل الذات المستهوية تنظر إلى المواقف والأفعال بمنظور مخالف عن مألوفها في فرنسا، ومن ثم يمكن أن يكون "نوري" نمطا نموذجيا لكل مغربي مشبع بالثقافة الشرقية التي لا تسعفه وحدها في التفاعل مع مقتضيات التنشئات الاجتماعية التي يصادفها في بلاد الغربة. وهذا ما يجعلنا نبحث في طبيعة الكون القيمي الذي تتحرك فيه الذات المستهوية لمعرفة مدى تأثيره في بناء وعيها.
الذات المستهوية والنظر إلى العالم
إن الكون القيمي للذات المستهوية هو الذي يسيج طبيعة رؤيتها للوجود، ولعل هذا ما يوضح أن الرواية لم تركز على الأحداث في حد ذاتها بل جعلتها مهمازا للبوح، والحكم القيمي على مجموعة من الأفعال الإنسانية التي تبدو في ظاهرها عادية لكنها تستبطن قيما ورؤى بالغة التفرد تريد الذات المستهوية أن تقدم رأيها المخصوص من خلال هذه الأفعال. ومن تم يعتبر الوعي سواء كان فرديا أو جمعيا هو الذي نرجع إليه في ربط الأفعال بالذات المستهوية، التي ترجع إل الكون المغربي المخصوص والعوالم الثقافية المسيجة له في تمثل الأفعال والحكم عليها(تمثل الزمن، العلاقة الأسرية، الفقر، الحرمان، فقدان الأب، الغربة....). وقد كان لهذه العوالم أثر عميق في النظر إلى الأفعال الإنسانية في فرنسا على الخصوص بعين غير مألوفة.
يعتمد النظر إلى جوهر الأفعال من خلال مجموعة من الصور المشهدية(شبيهة بالمشاهد السينمائية البصرية) كثيرة تجعل قارئه النموذجي، يستحضر معطيات الوقائع الإبلاغية من خلال تمثل مجموعة من الصور الذهنية المتسلسلة عبر المعطيات اللغوية، وهي صور تعتبر فيها الذات المستهوية المحور الرئيس في كل فعل سردي، فهي المحددة لطبيعة التفضيء(Spatialisation) والتزمين(Temporalisation)، ومقترنة بهما معا لإنجاز فعل التشخيص(Anthropomorphism).
إن الرواية بحث في عمق المكنون الإنساني بعيدا عن سرد أحداث تشبه باقي الحوادث التي تعترض للناس وهي بحث كذلك في عمق الحياة، عن طريق التأمل، لأن الإنسان المغترب يعرف الأشياء أكثر مما يعرفها الإنسان المألوف، ولهذا كانت الغربة أول المغامرات السيميولوجية كما عبر عن ذلك بارت:
"وكان يريد مع ذلك(عبدو) أن يظهر بمظهر القوي الذي تخلى عن عقده التي عشعشت في دماغه. وأمام من؟ أمام فتاتين فرنسيتين لم تكونا لتشعرا به يعاني من شيء. فبالأحرى من الخجل" ص26
يعتبر "عبدو" نمطا نموذجيا للمغربي الذي يرحل من بلده حاملا معه مكبوتاته التي لا يمكنه أن يعيش بها في بلاد تختلف عما ألفه وتربا عليه، وقد لا يستطيع مسايرة وضعه الجديد ما لم يستطع التخلص من إرثه الثقيل إذا أراد أن ينخرط ضمن منظومة غربية بالغة التفرد، حيث إن ضرورات الحياة تفرض علينا في كثير من الأحيان التكيف مع الوقائع الجديدة، لكن مع الحفاظ على جوهر انتمائنا. إن المغربي غالبا ما يحاول أن ينفلت من ربقة الطابوهات التي تسيجه ويراها تنوء بكلكلها عليه كالجنس والدين والعادات والتقاليد، ومن تم تغدو الغربة فرارا من الطابوهات وطلبا للتحرر من عقالها، وهذا ما جعل الذات المستهوية تنظر إلى الأفعال الإنسانية نظرة غير مألوفة، نظرة حكيم أو متصوف ينظر إلى باطن الأفعال ولا يلتفت إلى تجليها الظاهر:
"تنفست الصعداء، تساءلت كثيرا في شأن هذه الحياة، فقد يقع لك مشكل ما، ومهما يكن بسيطا فإنه يظل في نظرك ذا شأن، لأنه سيفقدك شيئا أنت في حاجة إليه، أو سيبعد عنك شخصا كنت تفضل أن يبقى بجانبك، ولكن على حين فجأة قد يأتي الفرج من حيث لا تعلم" ص30
"وأقنعها (ناطالي) بعبثية الحياة وعدم التفكير في الأناس الذي يصادفوننا ونحن نمشي في طريقها تائهين رغم أننا قد نرتاح إليهم حتى يصبحوا وكأنهم قطعة منا، ثم من ندري ؟ فقد تقع هذه الحورية إن أعربت عن حبها الكبير له(صديقها) في يدي"ص32
إن القيم التي تحبل بها الرواية مردها في الأخير إلى البناء النفسي الذي حدد شخصية الذات المستهوية في نشأتها (الفقر والحرمان والرغبة في التغيير)، ثم البناء الفكري عن طريق الدراسة والغربة التي جعلت الحاجة والأزمة أساس التغيير المنشود والرغبة في تحقيق الأفضل:
"ولكن هذه هي الحياة، صراع من أجل البقاء وحرب مستمرة من أجل إثبات الوجود، إن لذة الهناء لا تحلو إلا في خضم الشقاء، وإن نشوة النصر لا تأتي إلا بعد ملاقاة الأهوال، أضف إلى ذلك أنني قد عشت سنوات كثيرة وأنا أحلك بملاقاة الغرب" ص54
نخلص إلى أن العوالم والأماكن والأفعال الإنسانية والنظرات إلى العالم التي تحبل بها الرواية، والتي تجعلها سفرا في معرفة دقائق الحياة الإنسانية وكشفا لتناقضاتها، تشكل أكوانا قيمية متعددة استفاد منها وعي كاتبنا في النشأة البنيوية الممتدة، من خلال قراءة الوقائع وعدم الوقوف عند ظاهر الأشياء. إن هذا التنقل المتعدد الذي قام به صاحبنا لم يكن انتقالا في الزمان وفي المكان، بل انتقالا في الوعي وفي تشكل الذات، عبر استنطاق الأشياء والأحداث والعوالم. إن هذا التعدد في الموسوعة الإدراكية أو الذخيرة التي طبعت تجربة الذات المستهوية خلقت عندها وعيا شبه شقي بين طبيعة الحياة والوعي بكنه تفاصيلها، وهذه المفارقة الصارخة بينهما وسم الرواية بمسحة تأملية في الوجود.
4. الاستهواء والبناء الساخر
تتزيا السخرية (Ironie)بتعبيرات بالغة التفرد تباعا لمختلف أنماط الممارسة الإنسانية بكامل تمفصلاتها بناء وتدليلا، وهي خاضعة لطبيعة النصوص الحاضنة لها. ويعد الفعل الساخر بناء سرديا له خصوصيته في الاشتغال، ونمطه في التعبير عن المضامين الكامنة في الفعل السردي نفسه، والقذف بالمعاني نحو ساحة التداول والتواصل غير المباشر، عبر المعطيات البينصية التي تخلق أثر فعل ساخر يكون بالضرورة ذا طابع مبنين، خاضع للتفاعل بين القارئ والكاتب، استنادا إلى الموسوعة الإدراكية الجامعة بينهما، لذلك فإن ضبط الفعل السخري في الرواية يتم عبر الاسترشاد بمجموعة من الإواليات والمؤشرات التي تجعل إنتاج آثار ساخرة أمرا ممكن:
الإيحاء: أي الإشارة الخفية للموضوع، ومهما تسترت هذه الإشارة فإنها لا تكون غامضة، كما أنها لا تصل إلى الوضوح التام؛
التلازم: أي ترابط بين عنصرين أو أكثر بينهما علاقة ناظمة، قد تكون مواقف أو موضوعات؛
الحكم: هو حاصل ما يريد أن يصل إليه الفعل الساخر، يكون حكما غير مباشر غالبا؛
ولذلك يمكن القول: إن الملفوظ السخري هو الملفوظ الذي يقول شيئا آخر لا الذي نفكر فيه، ويجب أن نفهم شيئا آخر غير الذي قيل، إنه يوظف بوصفه قلبا لخطاب الآخر، للتعبير عن مجاوزة الدفاع عن مباشرية الملفوظ، وذلك بخلق سياق مخصوص"[4]
إن الملفوظ السخري إذا يعد قلبا للمعنى الذي يقدمه المؤول المباشر الذي يستند فقط إلى ما تقدمه العلامات بصفة قائمة على الإدراك الحسي المباشر، لكونه يقدم لنا فقط معاني العلامات وما تحيل إليه من المعادلات الموضوعية، بصفه محايدة، إذ لا نقوم إلا بربط تلقائي بين العلامة والمرجع. وليس هناك أي نموذج عام للسخرية، يمكن أن يستثمر في كل فعل سخري(Ironisation)، فطبيعة النصوص هي التي تحدد مؤشرات السخرية، إذ ليست هناك أية علامات ثابتة ومخصوصة للسخرية.
1.4. السخرية والموقف
تعتبر السخرية في أبهى تجليها موقفا من العالم والأشياء وحكم قيمة، ترجع في الغالب إلى كون الذات المستهوية تعيش في كون قيمي يجعلها ترى الكون القيمي الفرنسي مختلفا. إن رؤية الذات لمجموعة من المواقف الحياتية تشكلت في حضن أفعال بسيطة محاولة منها دفع مضامينها الأكسيولوجية، إلى قيم تتخذ من الاستثمار السردي سندا لها فتتحول إلى إيديولوجيا، وهي مجموعة من القيم التي عبرت عنها الذات المستهوية من خلال حكم إنسانية برزت في شكل دلالة الخطاب السردي.
"وماذا يهمك أنت يا أبا الشمقمق، وقد ملأت بطنك بطعام شهي ولذيذ ومفيد لصحتك أن تأخذ قطعة اللحم هي الأخرى؟ ماذا يهمك إن لم تفعل ذلك وقد تعودت طيلة عمرك أن لا ترى اللحم فوق مائدة أسرتك التي أنجبت عشرة من أمثالك إلا لماما..." ص29
"لقد غابت الشمس ومات القمر، وتوقفت الأرض عن الدوران، سبحت أنا وصديقي عبده في عالم آخر، نضجت جلودنا قبل نضج التين والعنب وغاب المعتصم عنا، ترك الفتاة العربية المغروسة في قلوبنا تموت كمدا وحزنا. وانتزعت عمورية منا وذهبت بعيدا" ص70
"وربما تأتيك اللذة من حيث لا تشعر إذ تجلس فتاة بجانبك، وقد تأخذ شربة من كأسك، ثم تهدك ابتسامة شكر فيتصفد جبينك عرقا وترتعد ركبتاك ويستقيم ثعبانك باحثا عن مأوى" ص69
إن سخرية الموقف، تعد أرقى مؤشرات السخرية، إن لم نقل هي مضمون السخرية عينها، مادامت هذه الأخيرة موقف الأنا من العالم، انطلاقا من تنشئتها الاجتماعية، والبنيات التي تحدد نمط وجودها، وبالتالي فإن إدراكها يتم من خلال موسوعة سابقة في الوجود وفي الاشتغال(عوالم ممكنة) عن التحقق الفعلي. وقد حاولت الذات المستهوية إثبات موقفها من الأفعال الإنسانية التي تسير الإنسان وفق خطوط الانفلات في الغالب من خلال طرح مجموعة من ردود الفعل الساخرة، التي تعكس الصورة الحقيقية للوضع الإنساني بها، وبالتالي تحديد موقفها من العالم والأشياء والرموز، سواء كانت أوضاعا إنسانية، أو سلوكيات فردية.
السخرية والتورية
ترتبط التورية بلاغيا بإبراز معنى جلي غير مقصود وطلب معنى خفي مقصود يفهم من سياق الكلام ومقتضى الحال الذي يسيج المتخاطبين، لكن نادرا ما كانت التورية مؤشرا سخريا في الخطاب السردي الحديث، ولعل هذا ما يكسب نص"وقت الرحيل" فرادته من خلال اعتماد هذا المؤشر للدفع بمعاني بالغة التفرد بناء على أفعال إنسانية عادية في الغالب، حيث نجد، مثالا، الذات المستهوية تتحدث إلى كرة "الفليبير" وهي تقصد جسد "كريستين" البض:
"إن هذه الكرة الصغيرة وهي مسجونة في هذا الصندوق الجهنمي، تحيرني في أمرها، ففي المرات التي أحاول أن أشفق عليها وأرحم ضعفها، وأتركها تعود إلى بيتها في هدوء وسلام تأبى ذلك، وتفضل أن تبقى معي تاركة جسدها البض معرضا لضرباتي القوية.." ص80
نجد الأمر نفسه عندما أراد "عبدو" الحديث عن الطلبة الذين هشموا بيت "نوري"، مصورا إياهم في قبائل همجية تقوم على التخريب ولا تشرئب إلى العلم والثقافة وحفظ الجوار والكرامة الإنسانية:
"عاتبته (عبدو)على عدم الدخول خصوصا وأنه ليس بغيب علي، ولا على عالمي الحميمي. فما كان منه إلا أن أعلن بكونه لا ينتمي إلى قبائل التتار" ص 123
تقوم السخرية الموراة على خرق أفق توقع القارئ، حيث يجد نفسه عند تتبع المشاهد والمسارات التصويرية أنه أمام صورة غير مطلوبة، سواء كانت آمالا ينشدها ويتعلق بها ويرجو تحقيقها أو تغييرا في مواقف وردود فعل.
السخرية والاحتفالية
يبدو هذا المؤشر من خلال استحضار مجموعة من الشخصيات التاريخية في بناء الكون السردي الساخر، حيث اعتمدت الذات المستهوية التوسل بالشخصيات والأماكن للنظر في كثير من الأفعال الإنسانية التي تعترضها وتجعلها تنظر إليها بعين غير مألوفة باعتبارها أحداثا ليست مطلوبة لذاتها، بل لأنها قنطرة عبور لمعرفة الأوعاء التي تتحرك فيها الذات، وتفرض عليها نمطا مخصوصا من التفكير والتعامل:
"وحاولت أن تنسل منه (عبدو)مرارا دون أن يرعوي أو أن يعود إليه عقله صفعته صفعة تجمع لوقعها تجمع أحدب الشاعر ابن الرومي، فلم أشعر إلا وأنا غارق في عاصفة من الضحك الهستيري اللامتناهي، ولم أشعر إلا والثلاثة ورائي يغوصون في الضحك بمن فيهم صديقي عبده طبعا" ص144
"وتخيلت حين أحصل على الجنسية الفرنسية وأغدو كاتبا شهيرا أنني سأصعد لأجلس معهم. وتمثل لي تمثال رأسي يقف بجانب كل من تماثيل هيجو وروسو وفولتير فابتسمت" ص87
تجعل السخرية الاحتفالية أثر الفعل الساخر مكثفا، وهذا ما يجعله يحتاج إلى موسوعة إدراكية تتطلب قارئا نموذجيا يتفاعل مع المعطيات الاحتفالية، إذ تفرض الاحتفالية تجربة معرفية سابقة في الوجود على التحقق النصي.
4.4. السخرية والتهجين اللغوي
تعتبر العربية المغربية كفيلة بالتعبير عن الوجدان المغربي، لأن الفصحى لكونها لغة ثانية، تعجز عن وصف ما يروج بداخل الذات الإنسانية(وجدانها) المغربية، لهذا رأينا الذات المستهوية تجنح إلى استعمال العربية المغربية في التعبيرات الوجدانية، وتعتمد مرات عديدة اللغة الفرنسية المفروضة مقاما مادامت الأحداث التي تحكى تسيجها عوالم فرنسية بالذات، لذلك تصبح الفرنسية في عمقها حاضنة لهذه الأحداث:
"تحمل اسم بطلة الفيلم المسلسل الشهير "دالاس" و"سويلين" ناعتا إياه بالمناسبة باسم "جي إير" قصد إضحاكه وإزالة "الكعية" على وجهه، الناتجة عن فعلتي السابقة، حين تركه ينام في غرفته وحيدا" ص 127
"ومما سيجعل القراء حتما يغضبون مني، ويرمون بروايتي هاته، إن هم اقتنوها في سلة مهملاتهم أو يبيعونها لأصحاب الزريعة الكحلاء" ص16
تمتزج في هذا المؤشر الساخر لغة التخاطب اليومي باللغة الأدبية الخالصة، وتجدر الإشارة إلى أن استعمال العربية المغربية أو اللغة الفرنسية، لا يكون دائما مؤشرا سخريا، حيث وجدنا مجموعة من التعبيرات بالعربية المغربية أو باللغة الفرنسية تحضر في هذا النص ولا تشير إلى الفعل السخري.
نخلص إلى أن مؤشرات السخرية جميعها تساهم في بنائها، ونقصد بالأساس كل المشيرات التي تقوم على خلق صورة ذهنيـة ساخرة لدى المتلقي، تقوم على قلب المعنى الذي يقدمه المؤول المباشـر، لكونه لا يتجاوز معاني العلامات بمختلف أنواعها، وطرقها في التدليل، وما تحيل إليه من معادلات موضوعية بصفة محايـدة، والفعل المفارق يستدعي مؤولا ديناميا يستوجب بالضرورة موسوعة إدراكية تجعل الانتقال من المعنى التقريري إلى المعنى الإيحائي الساخر أمرا ممكنا.
5. التناص والطبقات اللغوية
هيمنت، من الناحية الأسلوبية، اللغة العربية الفصحى على النص، لكن الكاتب لجأ في أحيان كثيرة إلى التهجين والتنضيد وغيرهما من الأساليب التي عددت من الطبقات اللغوية للنص الحكائي، إذ نجد حضورا لافتا للعربية المغربية سواء من خلال السرد أو من خلال التناص أو عبر إيراد مجموعة من المقاطع الزجلية، كما نجد حضورا للغة الفرنسية من خلال أسماء الأعلام في الغالب، وتحضر اللغة الشفاهية أيضا في فعل الكتابة.
ويكثر التناص في النص حتى إن قارئه يجد نفسه صغيرا أمام هذه الترسانة من هذا السفر عبر ألف ليلة والشعر والزجل والسينما والفلسفة والتاريخ. إلى جانب ذلك اعتمد الكاتب في بعض الأحيان لغة سينمائية عبر الكتابة البصرية، حيث يضع نصب اهتمامه متفرجا مشاهدا:
"ماذا تقول؟ كأنك لم تقرأ قول جميل بن معمر يا هذا:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريــد
لكن حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيـد" ص68
"قال والعهدة عليه ما يلي:
لا هنا لقيت أنا
ولا حتى شي خديمة
لا زواج بغى لي يتبنا
ولا حتى شي جميمة" ص40
" كان مكان الحفلة قد حدد في السابق في الحي الجامعي الذي يحمل اسم «esplanade »وهو حي جامعي يعد من أرقى الأحياء الجامعية التي توجد بمدينة ستراسبورغ" ص102
إن هذه المقاطع السردية، وغيرها كثير في الرواية، تعبر عن مدى طلبها لقارئ نموذجي يجعل التفاعل مع مكوناتها النصية أمرا واردا، إذ يستجمع أسلوب الرواية احتفالا كبيرا بالأسماء والأماكن التي يعسر على كثير من القراء الإلمام بها، كما تتوسل الرواية بإشارات خفية أحيانا إلى أقوال مفكرين ومتصوفة واعتمادها في البوح بدلا من الذات المستهوية. كما أن الكاتب يعود أحيانا إلى تثبيت إحالات المقاطع الشعرية وغيرها الموجود في النص، لأنه يعتقد أن الرواية لا تستهدف قارئا عاديا، بل قارئا له وعي وإلمام كبير بالشعرين الحديث والمعاصر على الخصوص وبالفلسفتين الغربية والعربية وبالمعرفة السينمائية وبالتاريخ العربي، وعارفا بطبيعة الكون القيمي الذي تتحرك فيه الذات المستهوية الذي يجمع بين أصالة الطبع وحداثة التفكير.
تركيب
ترصد الرواية في عمقها المعادلة الصعبة التي تربط بين كونين قيميين مختلفين، لكل له تنشئته الاجتماعية، وله نظرته المخصوصة للعالم، كون تمثله الأنا أو الذات المستهوية بكل تمفصلاتها الدلالية، وإيحالاتها، وكون آخر يمثله الآخر بكل دلالاته المختلفة عن الأول. والرواية أيضا بحث في مكنون الحياة الإنسانية من خلال سبر أعماق الأفعال والعوالم، لذلك تغدو بحثا في الوجود ورؤية مخصوصة للعالم والأشياء متخذة من العوالم السردية بكل تمفصلاتها مهيعا للبوح.
[1] - GROUPE (µ). Traité du signe visuel, pour une rhétorique de l’image, Ed. Seuil, Paris, 1992, p91.
[2] - HOCK(Leo,H), la marque du titre, Dispositifs sémiotiques d'une pratique textuelle, Motion pubblishers The Hague Paris, N.York 1981, p3.
[3]- FANTANILLE (Jaques). Les espaces subjectifs, in introduction à la sémiotique de l’observateur, , Ed, Hachette, Paris, 1989, p128.
[4]- ROBERIEUX (Jean Jaque) . Les figures de style et de rhétorique. DONOD, Paris, 1998.P59-60.