من ديوان العرب النسيم
من ديوان العرب
النسيم
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال ، قولهم : " العرب أمة شاعرة " . وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك؛ فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم ، وأيامهم ، ومسيرة حياتهم .
**********
عزيزي القارئ : إن الإنسان من قديم ليضيق بحرارة الصيف إذا اشتدت ، ويطلب نسمة حانية تخفف من قسوة الحرارة وعتوُّها ، وتعيد للنفس نشاطها وحيويتها . فما رأيك – يا عزيزي القارئ – أن نعيش دقائق مع النسيم ، لا على شاطئ بحر ، أو في مغاني حديقة ، أو على مُرتَفع من الأرض ، ولكن في هذه الحلقة الجديدة من " ديوان العرب " .
وقد يأخذ الهواء المستطاب أسماءً أخرى – غير النسيم – مثل : الريح – والصَّبا ، والشَّمال ، وغيرها مما هو معروف في كتب اللغة .
ونلتقي - في ديوان العرب – لابن المعتز ، فنراه يربط بين النسيم والمطر الذي تنتظره البلاد ، في أمد وشوق ، يقول ابن المعتز :
ونسيم يبشر الأرض بالقط ــر كذيل الغلالة المبلول
ووجوه البلاد تنتظر الغيـ ـث انتظار المحب رد الرسول
ويعالج أبو هلال العسكري قريبًا من هذا المعنى ولكن على نحو أوفى فيقول :
والصبا يجلب الغمام إلينا فترى القطر للرياض نديما
وترى للغصون فيها نجيًا وعلى زهرة الرياض نميما
**********
وانطلاقًا من النسيم أو الشمال يرسم ابن الرومي لوحة جامعة للطبيعة تفيض بالحركة والصوت واللون والرائحة . فيقول:
حـيـتـك عـنا شمال طاف هـبت سحيرًا فناجى الغصن صاحبه وُرْقً تـغـنـى عـلى خضر مهددة تخال طائرها نشوان نشوان من طرب | طائفهابـجـنـة ، فـجرَت رَوْحًا سـرًا بـهـا ، وتنادى الطير إعلانا تـسـمـو بها ، وتشم الأرض احيانا والـغـصـن من هزه عِطْفيه نشوانا | وريحانا
**********
وفي أبيات أخرى ، يتحدث ابن الرومي عن نسيم السَّحر أو السُّحير ، ويشبهها بعبير نبات الخُزَامى بعد الوسمي ، وهو المطر الأول ، والولي ، وهو المطر الذي يتلو الموسمي ، فتناجي الأغصان ، وتنسمها الناس بعمق .
يقول ابن الرومي :
كأن نسيمها أرجو الخزامى هـديـة شمأل هبت بليل إذا أنـفاسها نسمت سحيرًا | ولاهـا بـعد وسْميٍّ لأفـنـان الغصون بها نج تـنفس كالشجيِّ لها الخليُّ | وليُّ
**********
عزيزي القارئ : إن الشعر الخالد - فكرًا وتصويرًا وتعبيرًا لا ينقضي بموت صاحبه ، بل يظل جديدًا يتردد ما واتته الفرصة ، واستدعته المناسبة ، وفي سياق الحديث عن النسيم نعرض مثلاً لهذا النوع من الشعر . فقد جاء في كتاب ديوان المعاني لأبي هلال العسكري نقلاً عن الصولي قال :
حدثنا المكتفي يومًا أنه كان نائمًا ، فسمع دق باب ، فانتبه له مرتاعًا ، ثم سكن قليلاً ، ثم عاد فنظر ، فإذا الريح تحرك الباب حركة كأنها دق بيد قال فقلت له لقد ذكر الشاعر ذلك فسألني وما هو ؟ فأنشدته لبشار :
طرقتني صبًا فحركت البا ب هُدُوًَّا ، فارتعت منه ارتيابا
فكأني معت حس حبيب نقر
الباب نقرة ثم هابا**********
ونعود مرة أخرى إلى ابن الرومي العظيم ، فيلح في قصيدة أخرى على إبراز عشقه للسحر بنسائمه وهدوءه ، ويزيد على ما سبق حديثه عن " ليل أيلول " ، وقمره الساري بصفحته الفضية البيضاء ، ونشر ريحانه المنكسر في الهواء ، وكل أولئك من أنعم الله ، التي لا تحصى ، يقول ابن الرومي :
يـا حـبذا ليلُ أيلو إذا وأسفر القمر الساري فصفحته يا حبذا نفحةُ من ريحه سحرًا قل فيه ما شئت من شهر تعهده | بَرَدَتْفـيه مضاجعنا والريح ريـالها من صفاء الجوء لألاءُ يـأتيك فيها من الريحان أنباءُ فـي كـل يـوم يد لله بيضاءُ | سجواءُ
**********
عزيزي القارئ فلنترك الشرق والمشارقة من الشعراء إلى حين ، ولنقف برهة أمام أجمل بقعة في بلاد الأندلس وهي " الزهراء" .... ضاحية قرطبة التي أنشأها الخليفة الناصر ، وأنفق على إنشاءها قرابة 20 مليونًا من الدينارات الذهبية .
يستخفي الشاعر ابن زيدون بعد فراره من سجن قرطبة ، ويرى الجمال الآثر في الضاحية الفاتنة برياضها وصفاء جوها ، ورقة نسيمها ، فيعز عليه ألا تكون حبيبته معه ، فيرسل إليها قصيدة مطلعها :
إنـي ذكـرتـك بالزهراء ولـلـنـسـيم اعتلال في أصائله والـروض عن مائه الفضي مبتسم نـلهو بما يستميل العين من زهَرٍ كـأن أعـيـنه إذ عاينت أرضي | مشتاقاوالأفْق طلق ووجه الأرض قد راق كـأنـمـا رق لـي فاعتل إشفاقا كـمـا شـققت عن اللَّبْات أطواقا جـال الـندى فيه حتى مال أعناقا بـكت لما بي ، فذال الدمع رقراقا |
إن ابن زيدون وهو يصور جوه النفسي الحزين المكروب – يوظف ما يسميه البلاغيون – " حسن التعليل " : فاعتلال النسيم إنما هو رقة له ، وإشفاقًا عليه ، والندى دموع زالت في أعين الورد لما أصاب الشاعر من أرق ودوى وأحزاناً ، تلك الأحزان التي أهزلت الشاعر وأضنته على حد قوله :
لو شاء حَمْلي نسيمُ الصبح حين سرى وافاكمُو بفتىً أضناه ما لاقى
**********
عزيزي القارئ في أمان الله نتركك لنسائم الصيف تنعش حياتك ، وتجدد نشاطك . وإلى اللقاء في حلقة جديدة من ديوان العرب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .