الرجز في دفاتر النقد القديم

الرجز في دفاتر النقد القديم:

جدل التصنيف والتعريف

الشيخ أحمد بن البان

[email protected]

يروم هذا المبحث إثارة غبار مسألة لم تفردها الدراسات النقدية الحديثة بما تستحق من إثارة واهتمام رغم أن مفهوم الشعر أسال كثيرا من المداد بعد عصر النهضة الحديثة، وكانت ظعينته المحمية المقصودة العمود الخليلي، وما ينداح في أشعة تلك الدائرة من قضايا جزئية كلية ليس أقلها أهمية الوزن والقافية، تلك القضية التي جعلها كل النقاد الأوائل قاعدة الشعر التي إن وجدت جاز أن ننطلق في البحث عن تقاسيم الجمال في بقية مقومات القصيدة وإن فقدت لم تعتبر تلك النفثة شعرا ولو كانت من المرقصات المعجبات، لكن ذلك شجن آخر.

 أما هذا المبحث فسينظر للمسألة من الثقب المتحصل في تلك الدراسات التي اهتمت بمسألة الشعرية في خصامها مع سلطان الوزن، ألا هو قضية شعرية الرجز، وهو ثقب وإن كان يبدو أول وهلة أضيق من سم الخياط إلا أنه عند التأمل يتسع مما ينبئ بأنه سيشكل بحثا مهما إن جمعت مادته بتأن وعولجت بدقة، وذلك ما يستأهل باحثا غيري أكثر قدرة وأوفر أداة، ذلكم هو ما تثيره مسألة شعرية الرجز بمفهومه الأول حيث كان ضربا من  الوزن لا يسلم الكثيرون من مبدعي الشعر وناقديه قديما بشعريته. 

1 الرجز والشعر: عطف للمغايرة

حين أفرد ابن رشيق القيرواني في عمدته بابا ل (الرجز والقصيد) كان واعيا بدلالة كلا المصطلحين ومتساوقا مع رأيه المنتصر للرجز باعتباره مشمولا بفن الشعر منفردا بخصوصية(الرجز)، كما انفرد بخصوصيته(القصيد)، وكان في نفس الوقت يرمز لخلاف ناشب بين النقاد حول تصنيف الرجز ومكانته في الحقل الشعري، تلك القضية التي بدأت الإشارة لها منذ أواخر العصر الجاهلي[1]، قال الأغلب العجلي وهو شاعر مخضرم:

أرجزا تريدا أم قريضا   كليهما أجيد مستريضا[2]

وإذا كان الأغلب العجلي فرق بين القريض والرجز فإن المغيرة ابن شعبة جعله فنا من فنون الشعر وذلك في قوله يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا والله ما هو بشاعر ولقد روينا الشعر وأصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه"[3]، ويظهر أنه كان للشعراء أنفسهم دور في تعميق هذا التصنيف المفرق بين الاثنين، فقد روي عن أبي عبيدة قوله "قال منتجع بن نبهان، قلنا لذي الرمة: يا أبا الحارث، بدأت وأنت تقول الرجز ثم تركته. فقال: إني رأيتني لا أقع من هذين الرجلين موقعاً. فعولت على الشعر"[4]، بل كان الرجاز أنفسهم يدركون أنهم غير شعراء وأن رجزهم لا يمكنه أن يصعد الجبل المنيف الذي يجلس على قنته الشعراء، فقد روى صاحب الأغاني في أخبار ذي الرمة مع هشام المرئي الرجاز، قال "وكان ذو الرمة مستعليا هشاما حتى لقي جرير هشاما فقال: غلبك العبد يعني ذا الرمة، قال: فما أصنع يا أبا حزرة وأنا راجز وهو يقصد والرجز لا يقوم للقصيد في الهجاء، ولو رفدتني فقال جرير - لتهمته ذا الرمة بالميل إلى الفرزدق - قل له:

غَضِبْتُ لرَجْلٍ مِنْ عَدِيّ تشمَّسوا     وفي أيِّ يَوْمٍ لم تَشَمَّسْ رجالُها  

وفيم عَديٌّ عند تَيمٍ من العُلاَ      وأيامنا اللاتي تُعَدُّ فَعَالُها"[5]

في نقائض بينهما مشهورة.

إن هذا الإحساس بتفوق الشعر على الرجز هو ما أراد ابن رشيق تفسيره بحيلة تترك الرجز في دائرة الشعر ولا تعطيه كل خصائصه، لذلك جعل بين الشعر والرجز العموم والخصوص الوجهي كما يقول الأصوليون، قال:"فعلى كل حال تسمى الأرجوزة قصيدة طالت أبياتها أو قصرت، ولا تسمى القصيدة أرجوزة إلا أن تكون من أحد أنواع الرجز التي ذكرت، ولو كانت مصرعة الشطور كالذي قدمته؛ فالقصيد يطلق على كل الرجز، وليس الرجز مطلقاً على كل قصيد أشبه الرجز بالشطر"[6].

ويا سقى الله قبر يونس النحوي فقد خرج على المألوف وقال كلمة حق:" أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال قيل ليونس من أشعر الناس قال العجاج ورؤبة فقيل له ولم نعنِ الرّجاز فقال هما أشعر من أهل القصيد إنما الشعر كلام فأجوده أشعره قد قال العجاج:

 ( قد جَبرَ الدّينَ الإلهُ فجبر... )"[7].

وإذا كان ابن رشيق انتصر للرجز وعقد بابا للمسألة فإن ابن قتيبة تجاهل المسألة وترجم للرجاز ضمن الشعراء ليعطي بذلك حكما نقديا عمليا، وكان في كتابه يخلط بين مفهومي الرجز والقصيد كأن لم يثر حولهما غبار، فقد روى في كتابه، قال:"فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التشبيب، فأتاه فأنشده:

هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ     دَعْ ذَا وحَبّرْ مِدْحَةً في نَصْرِ

 فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين"[8]

لكن تجاهل ابن قتيبة (ت276 ه) للمسألة لا يعني أن نارها خمدت ذلك أن ابن رشيق القيرواني (ت 463 ه) أثارها كما سلف في الأسطر السابقة بل سنجد البغدادي (ت1093 ه) بعد ذلك بقرون عدة  يضع الجدر الفاصلة بين الشعر والرجز في كتابه خزانة الأدب، قال:" وهذا من عدم تمييزه بين الرجز والشعر مع أن الذي ضمه ليس من الرجز"[9].

ولم تكن هذه النظرة المغلبة للشعر(القصيد) على الرجز مبنية على مقارنة علمية فنية بين ما ينتجه الراجز والشاعر، بل كانت تعتمد مبدأ الفصل بين الملكتين، ملكة الرجز وملكة الشعر، في حكم بالتفوق المبدئي للشعر على الرجز، ذلك ما قرره ابن رشيق حين قال:"وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عم المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أومرسل أونحوذلك"[10]، وقد أوحى هذا الإزراء بالرجز وأهله لأبي العلاء المعري أن يحرم الرجاز في رسالة الغفران من فسيح منازل الجنة المتخيلة وعاليها ويخصهم بجنة واطئة السقف متواضعة العمران، قال:"ويمرُّ بأبياتٍ ليس لها سموق أبيات الجنّة، فيسأل عنها فيقال: هذه جنِّة الرُّجز، يكون فيها: أغلب بني عجلٍ والعجَّاج ورؤبة وأبوالنّجم وحميدٌ الأرقط وعذافر بن أوسٍ وأبو نخيلة وكلُّ من غفر له من الرُّجاز، فيقول: تبارك العزيز الوَّهاب! لقد صدق الحديث المرويُّ إنَّ الله يحبُّ معالي الأمور ويكره سفسافها؛ وإنَّ الرّجز لمن سفساف القريض، قصّرتم أيّها النَّفر فقصر بكم"[11]

2 الرجز بين النشيد والقصيد

في البدء كانت الإبل الذاملة في فجاج الصحراء وكان حداتها المنشدون على وقع أخفافها المتآلف نغمة تطرب لها فتميد بالراكبين سائرة عنقا فسيحا، تلك قصة حمل المخيال العربي بنطفة الشعر أول مرة،  كما يرى بعض الدارسين، لكن هل نشأ عن تلك الإرهاصات كل بحوره وأوزانه أم أن هناك تدرجا في ظهور تلك البحور والأوزان؟ وإذا كان الأمر كذلك فمتى وجد الرجز في الشعر العربي؟.

زعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولد من السجع ومنه تولدت الأوزان الأخرى، ويتوكؤون في سلوكهم هذا المهيع على ذيوعه وانتشاره في الجاهلية، ويفهم ذلك من قول النحاس:"القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز، يكون مشتقاً من قرض الشيء أي: قطعه، كأنه قطع جنساً، وقال أبو إسحاق: وهو مشتق من القرض، أي: القطع والتفرقة بين الأشياء، كأنه ترك الرجز وقطعه من شعره"[12]، ولكن شوقي ضيف لا يسلم بذلك، قال"كل ما يمكن أن يقال هوأن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعا في الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعني قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى"[13]، لقد ارتبط الرجز في الجاهلية بالنشيد وظل مقصورا على أداء وظائفه في تحريك المشاعر وتلهية النفس عن مكاره الحرب ووحدة السرى بالليل ومناغاة الأطفال وغير ذلك من مواقف آنية، يقول طه حسين"والذي نعرفه عن الرجز أنه في العصر الجاهلي كان فنا من فنون الشعر لا يحفل به الشعراء، ولا يقفون عنده، ولا يلتفتون إليه، وإنما كان شيئا أشبه بالزجل أوبهذه المواويل"[14].

 كان للشعر اهتمامه من بكاء الديار والوقوف على الأطلال ووصف الرحلة والراحلة ثم كل ما يكبر شأنه من مديح أوهجاء أواعتذار، وكان للرجز اهتمامه مما سلف ذكره، ومما يؤكد هذه الوظيفة الوجدانية للرجز ويعمق سر نظرة الازدراء التي كان يوليه الشعراء، أنه لم يكن مختصا بهم بل كان كل المجتمع يرتجز، فترتجله النساء لمناغاة أطفالهن وتعبيرا عن شوقهن الدفين وحبهن لأزواجهن، وينشؤه الأطفال في رعي أغنامهم، إنه كان فنا شعبيا ولا شيئ أكثر من ذلك.

لقد كان الأغلب العجلي (ت 19ه) أول من حاول الخروج بالرجز من ضيق تسجيل اللحظة الآنية والموقف العابر في البيتين والثلاثة إلى تقصيد أطول نفسا وأعمق تجربة شعورية، فكتب مطولات يذكر فيها مزايا الإسلام ومناقب قومه من بني عجل، ولقد شأى شأوه في ذلك العجاج الذي افتن في الرجز، وكان الرجز"يقول الرجل منه في الحرب إذا حضر وإذا شاتم أوفاخر البيتين والثلاثة ونحو ذلك، حتى كان العجاج أول من رفعه وشبهه بالشعر، وجعل له أوائل ومنسبة وذكر الديار ووصف ما فيها، وبكى على الشباب ووصف الرحلة وشبهها كما صنعت الشعراء في الشعر. فكان العجاج يشبه من الرجاز بامرىء القيس بن حجر من الشعراء"[15]، إن رجاز بني أمية العجَّاج ورؤبة وأبو النّجم وحميدٌ الأرقط وعذافر بن أوسٍ وأبو نخيلة وأبو المرقال الزفيان السعدي، قد نقلوا الرجز من مرحلة النشيد إلى القصيد فكانوا ينظمونه في كل الأغراض وينالون عليه الجوائز مما أثار حفيظة الشعراء فانتصر لهم أبو العلاء في محاججته المتخيلة لرؤبة في رسالة الغفران، إذ يقول له في نهايتها:" لوسبك رجزك ورجزاً أبيك، لم تخرج منه قصيدةٌ مستحسنةٌ، ولقد بلغني أنَّ أبا مسلم كلَّمك بكلامٍ فيه ابن ثأداء، فلم تعرفها حتى سألت عنها بالحيِّ، ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وإنّ غيرك أولى بالأعطية والصِّلات"[16]، ثم إن مما أضافه هؤلاء الرجاز اعتمادهم الرجز التام إذ كان الشائع بين الناس مشطوره ومجزوؤه، لكن هل استطاع الرجز بعد ما غير ملامح وجهه ومعالم وجهته أن يوقع الشعراء في شرك هواه أم أنهم ظلوا ينظرون إليه نظر المحتقر النفور؟

3  إقصاء الرجز: تعليل الدين والفن

لاجرم أن فحول الشعراء صدفوا عن الرجز خشية  الشهرة  به بين الناس، إذ الذائقة الشعرية الجمعية تمجه قصيدا وإن استحسنته رجزا، ولا تعد محترفيه شعراء بل تسميهم رجازا، قال ابن التين:" يقال لصانعه راجز ولا يقال شاعر، ويقال أنشد رجزاً ولا يقال أنشد شعراً"[17] ولعل ذلك ما يعلل استنكاف كثير من الشعراء عنه بعد حين من مقارفته منهم غيلان مية والفرزدق وآخرون، وهم وإن كان بعضهم علل ذلك الاستنكاف عن الرجز بتفوق رؤبة والعجاج فيه، فإن ارتهانه لرؤية المجتمع للرجاز كانت ضمن الدوافع الخلفية لذلك الاستنكاف، روى أبو عبيدة قال: قال منتجع بن نبهان:" قلنا لذي الرمة: يا أبا الحارث، بدأت وأنت تقول الرجز ثم تركته. فقال: إني رأيتني لا أقع من هذين الرجلين موقعاً. فعولت على الشعر. قال أبو عدنان: فقلت لأبي عبيدة: من يعني بالرجلين. قال: والله ما سألت، وما خفي عليّ؛ أظنه يعني العجاج وابنه"[18]، ويعلق أبو عبيدة قائلا:"كان لذي الرمة رجز فلما خشي أن يعره عاد إلى القصيدة"[19].

لم يستطع الرجاز رغم كل ما أبدوه من قدرات فنية تصويرية وتشبيهية من نقش فنهم على جدار الذائقة الشعرية العربية الواعية بل ظل ينبو عنها، وإن كان الإعجاب بمويسقاه وسر جماله ظلا يحركان بين الحين والآخر دفين الإحساس الشعري العميق المحايد، فقد "أنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك أرجوزته التي أولها:

الحَمْدُ للهِ الوَهُوبِ المُجْزِلِ

وهي أجود أرجوزةٍ للعرب، وهشام يصفق بيديه من استحسانه لها، فلما بلغ قوله في الشمس:

حَتَّى إِذا الشَّمْسُ جَلاَها المُجْتَلى      بَيْنَ سِمَاطَيْ شفَقٍ مُرَعْبَلِ

صَغْوَاءَ قد كادَتْ ولَمَّا تَفْعَلِ      فَهِيَ على الأُفْق كَعَيْنِ الأَحْوَلِ

أمر هشامٌ بوجء رقبته وإخراجه، وكان هشام أحول"[20]،

لا يستبعد أن يكون الحديث الدائر بين علماء التفسير والفقه في معنى آية يس (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [سورة يس آية 68]، وتوجيههم لما ثبت عن نطقه صلى الله عليه وسلم بما يأتي على وزن الرجز ألقى بظلاله على الدرس النقدي والذائقة الشعرية فعزز نظرة المجتمع والشعراء من بعده إلى عدم شعرية الرجز، وتأكد ذلك بعدما قعد الخليل عروضه ونبذ الرجز بعيدا عن عراء الشعرية حين نسب مشطوره للسجع المنثور، محتميا برأي الفقهاء والمفسرين، فقد روى أنه لما رد عليه قوله:(إن المشطور ليس بشعر)، قال: لأحتجن عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا، قال: فعجبنا من قوله حتى سمعنا حجته"[21]، لكن المعجب أن الخليل نفسه اعترف بشاعرية إمام الرجاز رؤبة بن العجاج فقال بعد موته:"دفنا الشعر واللغة والفصاحة"[22]  ومما يؤكد سيطرة الرؤية الفقهية على النقد في هذه المسألة إدخال بعد القصد والنية للشعر(القصيد)، فقد يظن كثيرون أن ذلك مأخوذ من دلالة اللفظ غير واعين أن البحث عن البعد الاشتقاقي فيها لاحق للتعليل الفقهي الذي يريد إبعاد أي نوع من العلم بالشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام الشعر مرتبطا بالقصد والنية وهو صلى الله عليه وسلم يقصد ذلك ولا ينبغي له.

وإذا كان التعليل الفقهي أوالتعليل النقدي المتأثر بالفقه ألقى بكلكله على مجالس نقاش شعرية الرجز، فإن مطاعن الناكفين عن اعتباره شعرا حاولت أن تتوسل بالفن وشروطه، بدءا  بالخليل بن أحمد الذي أبى أن يمنح مشطور الرجز السالم جنسية القصيد، فقد دفعه لذلك ضعف موسيقاه، واختلال نظام وزنه، وليس انتهاء بالزمخشري الذي وصمه بالأقصر والأعجز، قال:"إنَّ لِبَاسَ التّقْوَى خَيْرُ لِبَاسْ، وأزْيَنُهُ عندَ اللّهِ والنّاسْ فلا تَكُ عَنْ اضْفائِهِ مُغْفَلاً، وَالبْسَهُ مُذالاً مُسَبّغاً مُرَفّلاً. وَلا تقْتصرْ منهُ على الأقْصَرِ الأعْجَزْ، كَمُخَلّعِ البَسيطِ أومَشْطُورِ الرَّجَز"[23]، لقد تحامت الرجاز سهام الفقهاء ورماح النقدة فأجلتهم عن المكانة المهمة التي تسنموها في عصر بني أمية، فانتبذ الرجز مكانا قصيا من الشعر، إلا أنه أطل من خلف الربوة مرة ثانية، بعد أن خلع حلة الشعر ولبس جبة المتون العلمية.

4  الرجز من فن الشعر إلى نظم العلم

لم تطل أيام الفتوة بالنسبة للرجز بل ذبل زهره وجف عوده حين قضى هادم اللذات على رواده في عصر بني أمية، وإن أبدعه بعض الشعراء بعد ذلك مثل أبي تمام وأبي العتاهية وأبي نواس فإن ذلك كان الشذوذ الذي يؤكد القاعدة في أفول نجم الرجز كفن شعري بما تحمل كلمة شعر من عناقيد الجمال والإبداع، ذلك ما جعل شاعرا كأبان اللاحقي يبحث له عن مقام وسط بين الشعر والنظم وذلك حين أرجز به كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع وقد قال أحد النقاد الغربيين عن تلك الأرجوزة أنها مطابقة للمثنوي الفارسي في الروعة والإبداع.

إذا كان الرجز أخرج من نادي الفن  أو أراد له البعض ذلك  فإنه أدخل مجالس العلم، فدونت به متون العلم ليستظهرها الناس مستسيغين خفة وزنه وجمال موسيقاه وقدرتها على الرفرفة حتى وهي مثقلة بأكداس العلوم، فنظم ابن مالك ألفيته في النحو على خطى ألفية ابن معطي وارتجز ابن المرحل فصيح ثعلب في اللغة نظما بديعا، ولم تقتصر تلك الأراجيز على علوم اللغة فقد نظم السيوطي ألفية في علوم الحديث وألف الكوكب الساطع في الأصول رجزا في نظم جمع الجوامع للسبكي.

وكما ازدهرت حركة الرجز معلما وموجها في العصور المتأخرة في المشرق والمغرب، فإنه قد عاد له بعض روائه في أرض شنقيط، إذ لم يكتف أهل تلك البلاد به مدونا للعلوم  وإن كانوا أبدعوا في ذلك إبداعا يستحق الدرس والتنويه وليست منظومات محمد مولود بن أحمد فال الموسوي اليعقوبي إلا قصائد فريدة من بحر الرجز، بل كتبوا به شعرا في غاية الروعة والإتقان الفني يذكر منها عل سبيل المثال أرجوزة سيد محمد بن الشيخ سيديا التي كتب لوالده، ولقد تبوأ الرجز عند كتاب الشعر الحر مكانة سامقة، إذ وجدوا في تفعيلته المنسابة وموسيقاها القوية ضالتهم في إبقاء روح الوزن وإلغاء شكل العمود الخليلي.

ولن أغادر هذه الإثارة حتى أستفسر عن سر كتابة الإمام الشاطبي قصيدته في القراءات في بحر الطويل، هل كان رحمه الله يريد أن يجهز على آخر الحصون التي احتمى بها الرجز من الانقراض، حصن المتون العلمية، أم كان يريد أن يجرب قدرة موسيقى بحر الطويل على الفاعلية حين تثقلها أقوال العلماء؟

تلك جوانب قليلة من قضية طويلة الذيل مشتبهة الأعلام  كما قال رؤبة الشاعر لم يقدرها النقد الأدبي المعاصر قدرها، ولو بحثت بشكل جاد ونوقشت في أبعادها المختلفة لكان لها ثمر على مفهوم الشعر ونظرية الشعرية العربية المعاصرة، وعلى عرابة البحث القادم الذي سيتلقف هذه القضية بيمينه أطرح السؤال الملح:

ما الذي يفقده الرجز من مقومات الشعر الأساسية؟

               

[1]  إذا صحت نسبة البيت للأغلب، فقد ذكر الزبيدي في تاج العروس (مادة روض) أن الصاغاني قال: لم أجده في أراجيزه وأن أبا حنيفة نسبه لحميد الأرقط في عصر بني أمية

[2]  الصحاح للجوهري، مادة روض

[3]  السيرة النبوية لابن إسحاق

[4]  الموشح ص 60

[5]  الأغاني ج 18/ ص18

[6]  العمدة، ج1/ص 342

[7]  الأغاني ج 20/ص352

[8]  الشعر والشعراء، ج 1/ص5

[9]  خزانة الأدب ولب ألباب لسان العرب، للبغدادي، ج 8/ص225، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1891

[10]  العمدة، ج 1/ص 60

[11]  رسالة الغفران للمعري، ص 46

[12]  العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1/342

[13]  تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، د. شوقي ضيف، ص 185

[14]  طه حسين، في الشعر الجاهلي

[15]  الديباج لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي(ت 209)

[16]  رسالة الغفران

[17]  عمدة القاري شرح صحيح البخاري  

[18]  الموشح للمرزباني ص60

[19]  الموشح ص60

[20]  الشعر والشعراء ج1/130

[21]  العمدة لابن رشيق، ج 1/ص346

[22]  وفيات الأعيان لابن خلكان، مصدر سابق، ص304

[23]  مقامات الزمخشري ص38