السراج عالياً

عبد السلام العطاري

للشاعر مراد السوداني

عبد السلام العطاري*

 العلاقات الدولية / اتحاد كتّاب الانترنت العرب

" السورُ رَجْفُ أسىً /  والدمعُ قَبضُ يدي / والليلُ شالُ ندىً / أَثْغى على جسدي  / حيران مشتعلاً/  أََمسي قناعُ غدي / حبلانِ من مسدِ/  حزني وقافيتي / حرِّي ومُبْتَرَدي".

هذا جزء مما تراه  في " السراج عاليا"  حين يضيء الشاعر مراد السوداني سراجه المجلّل بأربعة مدارج وبثلاثة وعشرين قصيدة عالية وبصفحات مضيئة لا يعني عددها لي شيئا فهي جزيلة بكل كلمة كُتبت من مداد التعب ورسمت بقوت الجيب والأمعاء فكان متشحا بالسواد وباحمرار غضبة القلب الرقيق يبيِّضه الاسم وتلونه أغنية لفقير رحل دون ضجيج( الشاعر المصري محمد عفيفي مطر) ولأبناء غرسهم مسلة في ذاكرته وفي جوف المعنى ليعلو على لسانه نشيد المُعنّى .. فأضاء السراج وأهداه لهم وأعلاه ليوقظ رعاة ظنّوا بغفوتهم أن القمر لا يأتي إلاّ من خلف سراب أوهامهم فاصطادهم بوشم جلّل به مبتدأ القصيد العالي النافر كنفرته الدائمة كعينيه الحدأتيّن واسودادهما فإذ به يصرخ من وجع الاجهاض الدائم لبويضة لم يتكاسل أو يتابطأ من أجل  زقّها بقمح البلاد وفولها إلاّ أنه من ألم الصدر والحسرة ترّن موشِحةً إبط الكتاب ليقول:

" الجوع سحاب فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة "،  ناقلاً ومستنسخاً من نار أبي اليزيد البسطامي حكمته فحكّها بذيل كلامه الناشر للأمل... هذا أنا وهذا من قوت أبنائي فكان سراجاً عالياً.

فـ " السراج عالياً" على بيدرنا الجامع لسنابل مروج الحكاية ولراحة قوافلها العائدات من سراحةٍ بعيدة أضاءه " حادي السبيل"  و زاجل المعنى الشاعر مراد السوداني الذي أنهضه من قلبه ومن خباياه " ديوانه" الجديد المغلف بالسواد ليس حدادا على حالة رثاها وأرثاها الكثيرين وإنما هي عباءة الشاعر وكوفيته وغضبته وفرحه ونبضته الحسينية الكربلائية التي طالما جلل صهوتها وأطلق سهم قصيدته من عالي سَرْجِها و باسمها فرمى وأصاب وكان .. سراجاً وهّاجا.

ولعل الاحتفاء بنفرة قصيدة السوداني المعروفة بحسّها وأحاسيسها وجمرتها المتوضئة بسيل الكلام التي انتظرناها وانتظرتها طويلا حين تعففه و انشغاله في همنا العام ليقدم دون أن يتقدّم عليهم ليحتفي بأصوات جديدة وبأصوات معتقة تناسوها وأنستهم  وألهتم تجارة عن ذكرِها وتذكُّرها إلى أن وَلَجْنا خيط العبور من عين الشمس لنلّج بإعلان سراجه فكان ما كان من صدفة جميلة بارقة كابتسامته المضيئة تعبه وتعبنا ليكون سمو المعنى بين دفتي كتاب عالجه واستطببه بروح الطريق المحفوفة بشوك وخز القلب، ولم يدْمه الوخز فمضى رغم هبوب رياح السموم وعواصف الحياة أن يصل بسراجه ليكون الآن مضيئا مشتعلا متوقداً لنرى فيه الشاعر الممتد فينا والجدّات بلغة ورّادات الماء ملآءات الجرار عابرات السبيل منشدات الفجر مطربات رعاة علمّنه وعلمهنَّ الغزل البري كيف يكون و بلغة الأرض ورائحة السرّيس وعبق الطيّون وهفة الحجل ونسائم تلال ديره السوادني التي اجتمعت كلها دون غياب  لتوقد معه عتمة السواد المجلل لبياض المعنى والمعنّى.

ولعل نفرتنا معه من على جبل رمينا الحصى في عيون من راهنوا على خسارات القصيدة القابضة على منجلٍ لم يصدأ وعلى معولٍ لم يبرح وعلى زوّادة مغمسة بزيت تلالنا مغلفة برائحة أكف لامسن طابون الفجر ولوحنَّ لساري الليل المسيتقظ على آذان الله وديك الجيران ونشيد البلابل.

السوداني الذي أوحشته البلاد والطريق فعبرها وأضاءت عليه الخسارات وكل جمال عرفه وطاعنه بالدموع وإن ذكر ذلك بإيلام على كتف الغلاف الأخير؛ إلاّ أنني أرى أنه بذلك يختم صفحة من بلاء ليستفشي من مرض استطببه بيده دون حاجة لأطباء البنايات العالية المترفين بمريول لم يتسخ لأن الناس لم تستهدي على أبوابهم فشرّع بابه المنشور من عصب لوز عجوز أعاد لها الحياة  واجتباها لتكون بواب مشرّعة لمن أراد العبور إلى بيت شعره المعمور والممهور بِهذا بيتي للناس الفرحين بما آتتهم البلاد من مطرٍ اغتسلوا به فزال  درن البلاء وكان عطر طيّونها عابقا شذاه.

" أوحشتني البلاد ..

 وكل طريق عبرتُ أفاضت

عليّ الخسارات ..

وكل جمالٍ عرفت يطاعنني بالدموع ."

من استوحشته البلاد، ماله والغرباء وأشباه الغائبين، ماله والعابرين حفاة طائعين يولّون وجوههم خشية ريح شرقية تلفح عبوسهم وتشققات قلق ليل أصابهم وصبَّ عليهم ندامات وخسارات اقترفوها، وخشية جفاف يصيب شفافهم الباردة عن الكلام الساخن كجباه فلاحين تعرّقوا فصب العرق فكان غديراً  يشرب منه الطير والطائر والعابرين كأسرابٍ تصّطف حين سنابك تحمل رِكاب صافنات العائدين إلى الومضِ المفتوح على النبوءاتِ المُشتعلة في صحنِ الروح:-

" مالي وللغرباء ...وأشباهي الغائبين / نردح أحلامنا للعذراى / ونعرف أن الطريق تؤجِّل ما نبتغي/ مالي وللعابرات ../أعلّق قلبي سراجا على بابِهنَّ / وأرضي بأعذارهن ../ وفي المسرّات دم الشعراء مباح / ودمع البنات؟ / هذي احتفالية الخاسرين الغواة."

والغواة يُعَدّون ويمضون لا يمكثون في أرض ما زالت فيها القصيدة العالية بجماليات الصدق وبمعاني تفضح كل الخراب وسوء وتمسح عنّا عناء ورهبة خوف ووهن تحلّ بنا بلاءً ومصيبة حين ننسى أن البلاد ما زالت تحوس بها غيلان القبح..، ولعل هذه الغواية الفارقة بمعانيها وبمتجلّيها الشاعر مراد السوادني وبصهيل قصيدته الأصيلة المؤصلة بالحرون الطالعة من سرب أخيلة برّية عصية عن الترويض وعن التطويع؛ تُبقى بالفعلِ السراج عالياً... فطوبى للشعراء الأتقياء الأنقياء أينما حلّوا وأينما ولوّا وجهوههم وقصائدهم العاشقة والمحاربة.

               

* شاعر وكاتب من فلسطين