متعة الحكي المتأرجح بين الاغتراب واللّاطمأنينة

"حيث لا تسقط الأمطار" لأمجد ناصر :

متعة الحكي المتأرجح بين الاغتراب واللّاطمأنينة

هشام بن الشاوي

[email protected]

في روايته البكر "حيث لا تسقط الأمطار" ( دار الآداب)،  والتي استلهم السارد عنوانها، من أحد الملصقات السياحية الضخمة، وخمّن أن تلك الصحراء والواحات تتعلق ببلاده، يكتب صاحب "حياة كسرد متقطع" سيرة جيل بأكمله، آمن بالأفكار الكبرى، ولم يجد أمامه في نهاية المطاف سوى المعتقلات أو الهروب من جحيم ملاحقات الأنظمة البوليسية، غبّ تلاشي أحلامه الكبرى، وترصد الرواية عبر التداعي الحر، وبكثير من الدهشة والشجن، تفاصيل اليومي في زمن التحولات، وغربة الذات وتمزقها  بين الـ"هنا" والـ"هناك".

*****

يستهل أمجد ناصر روايته بعودة بطله "يونس الخطاط"، معذّبا بحنينه الملتاع وغربته المضاعفة، وقد تركت معاول الزمن  آثارها على ملامحه وجسده، وأيضا على الناس والأشياء من حوله، فتنثال الذاكرة المخاتلة، مستحضرة الأماكن والوجوه، الأصوات والروائح... بعد عشرين عاما، يعود يونس إلى وطنه، الذي فرّ منه، بعد مشاركته في محاولة اغتيال "الحفيد"، وسيفاجأ بأن كل سنوات النضال ضاعت هباءً، فهاهم أعداء الأمس صاروا حلفاء اليوم، يستعين بهم النظام من أجل إيقاف مدّ  التيار الإسلامي الكاسح، والكتب التي كانت محظورة تباع على الأرصفة، وصديقه القديم محمود (أبو طويلة) ارتمى في أحضان السلطة، في حين تحوّل سلمان، المعلم الشعري الأول ليونس إلى داعية دينيّ يجوب القرى والمداشر، وسيطال هذا التغيير حتى المكان، فيتعرض لتشوهات بصرية، إذ تحول "المنشآت الطنانة حقول القمح والذرة، وأجمات الصنوبر والعرعر إلى ذكرى بعيدة".

 اللافت  أن الكاتب  غير معنيّ بتراتبية الأحداث أو بخطية السرد، بل يبرع، كما روائيّ قدير،  في تنقلاته السردية/ الزمكانية دون الإخلال بانسيابية الحكي وجاذبيته، فيتذكر لقاءه بالشابة الثورية، التي ستصير زوجته فيما بعد، لكن سرعان ما ستفتر علاقتهما بسبب انطوائيته وميله إلى التكتم، ويستحضر ذلك البرنامج الإذاعي، الذي يفاجئ ضيوفه باقتناص ذكرياتهم البعيدة والمنسيّة، ثم عثور الزوجة على ورقة على قارعة الطريق، فتشك في أنه كاتبها، وتشتعل ذكرى حبه القديم لرلى أو "سيدة المدينة"، كما سمّاها في قصيدته الغزلية، فضلا عن استرجاع حبّه للتردد على الأسواق الهامشية، حيث الأشياء المستعملة، ومحاولته البحث عن ساعة تشبه هدية خلف، صديقه الأقرب إليه، على رغم كراهيته للكتب، وحزنه لفقدانها.. في حين، كان، من قبل، يتعمد تضييع الساعات/الهدايا الأخرى، بأن يتركها على طاولة مقهى أو مكان عام، ويغادر...

وفي حديثه عن إقامته بمنفاه الاختياري، حيث سيختار اسما آخر هو :  أدهم جابر، يتطرّق السارد إلى علاقة الشرق بالغرب، وتلك العنصرية المتمثلة في تعليق ملصقات تحذر الأهالي من الكلام مع الغرباء، وبسخرية سوداء، ينتقد الرؤية السّريريّة لدى أمثال بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ويقارنها بذلك الغزو الشرقيّ الجديد، الذي انتقل من الأسرّة إلى الأحزمة الناسّفة.

***

في بيت العائلة، سيجد  يونس نفسه مع يونس الصغير (ابن أخيه) في مرسم الأب الراحل، وسيأسر القارئ ذلك الحضور الآسر للأب، وذلك الحبّ الغريب بينهما، على رغم الاختلاف الكبير بينهما في الأفكار والمعتقدات.. بخلاف الكثير من الروايات العربيّة، التوّاقة إلى قتل الأب، في حين هناك شبه غياب للأم،  حيث لا تحضر سوى في آخر مشاهد الرواية، عند زيارته لقبرها مع الصغير يونس، ويتذكر عتاباتها المتواصلة : "عاد إلى ذاكرته كلام أمه عن الشياطين التي تتراقص حوله. عن مؤخرته التي لا تستقر في جلسة كأنها على خازوق أو جمر"، بينما الأب  كان يتحمل كل نزقه الفكري، بل وتقبل برضا تام  عقاب "النظام"  له، وذلك بعزله من وظيفته  بسبب فعلة الابن، ومثلما جعلنا الروائي البيروفي الشهير يوسا نتلصص على "دفاتر  دون ريغوبرتو"، نتلصص مع يونس على  دفاتر الأب، المولع بفن الخط، الشعر الكلاسيكي والصوفية، مما يجعلنا ندرك أن للأب - أيضا- قلقه المعرفي، على رغم إيمانه أو بمعنى آخر  :سلامه الداخلي.

إنه التوق الإنساني إلى الحقيقة، الحقيقة الكبرى.

 هذا الأب اختار نقش مصطلح بالفارسية على مدخل البيت المقوس، يشير إلى "مكان اللّا أين"، وهذه اللاّ طمأنينة سيصادفها يونس في لوحة للأب المحيّرة، لوحة تشي بقلقه، ويختم السارد روايته بمشهد زيارته لقبر والدته، ويفكر بنفسه، أو بالأحرى باسميه (يونس الخطاط/أدهم جابر)، وأيهما سينقش على الشاهدة؟

"حيث لا تسقط الأمطار" عمل سرديّ ماتع، مرهف، مضمخ بالحنين والدهشة، يخلّد - وبلغة روائية شفيفة- رحلة الإنسان، بحثا عن يقين ما، يقين آمن، وهذه الرحلة لا تكون من خلال الجغرافيا فقط، وإنما تشمل الأفكار والمعتقدات أيضا.