المرأة تنتقد التاريخ
د. راشد عيسى
شاقتني روايتان مميزتان تنقدان التاريخ صدرتا قبل عام واحد ، الأولى "البرق وقمصان النوم" للأديبة السورية انتصار سليمان والثانية "أشرعة الهراء" للأديبة العراقية خالدة خليل. نعرف أن شهرزاد نقدت إلى درجة الهدم تاريخ السلطة الذكورية المتمثلة بأنانية شهريار في ألف ليلة وليلة ، ونقدت أحلام مستغانمي تاريخ الحرب ، ومن قبلها نقدت فرجينيا وولف تاريخ الحزن الأنثوي ، وقد بات مألوفا أن أغلب روايات المرأة إنما هي نقد ضمني يدافع عن كينونة الأنثى من نحو وسلطان الاستلاب من نحو آخر.
في روايتها البرق وقمصان النوم تفضح انتصار سليمان تاريخ العادات الاجتماعية القبيحة في إحدى القرى التي تمثل صورة مطابقة للقرى الأخرى ، فقد هيمنت الأعراف الاجتماعية على جميع شخوص الرواية ، فظهرت النساء جميعا ماكرات حسودات أنانيات حاقدات ذليلات أمام سلطان العرف الأسري الاجتماعي ، وظهر جميع الرجال كذلك إمّعات أشباه رجال منافقين بلا مروءات أو مواقف حاسمة. وبالرغم من أن أحداث الرواية تتمركز في حياة أسرة وما تعالق بها من جيران وأقارب إلا أن المعاني والدلالات المتوَاربة خلف الأحداث تشير إلى المكر الفني الذي حققته الكاتبة وهو خنوع الناس أمام العادات حتى لو كانت ضارة ومؤلمة ، وأن العادات ليست مذنبة إنما الناس هم المذنبون عندما ينصاعون لها بتأثير الجاه والمال والتفاخر الكاذب. فلعبت السخرية الخفية دور البطولة.
أما خالدة خليل ففي روايتها أشرعة الهراء إنما تفضح تاريخ الحضارة التي عبثت بإنسانية الإنسان فأورثته الحروب التي دمرت كبرياءه وعواطفه وعقله ، وأسلمته للشتات الجغرافي والاغتراب الروحي وجعلته نهبا للمنافي ، كل ذلك من خلال إحالات تاريخية شفافة ومرجعيات موروثة توظفها الكاتبة في حزمة رموز وإيماءات وإرشادات حذرة من المباشرة ، لا بل مصوغة بانهمار شعريّ جارف حتى بدت الرواية كأنها قصيدة رثاء طويلة. ولعل المزية الفنية في هذه الرواية تظهر في أن ما ساقته الكاتبة من أحداث وظلال أحداث هو احتجاج متنوّع الأنماط في رسالة شخصية جارحة سحيقة الدلالات بعثتها البطلة إلى صديق قديم ما زال غريبا في وطنه. تنمو الرواية الصغيرة نحو كشف آلام البشرية التي تسببها مزاعم الحضارة المعاصرة ، وما البطلة في جديلة حزنها وتشظيها سوى نموذج من نماذج الألم الإنساني الذي تورثه الحضارة للإنسان بحيث تصبح الحياة موتا معيشا ويصبح الموت حياة ماثلة ، وتلك أقصى لعنة وجودية تواجه البشرية. وعليه فإن مثل هذه الروايات تعد إضافة نوعية لمنجز الروائية العربية التي لا تعرّي أحداثا إنما تكشف ما وراء الحياة من آمال خائنة ومكابدات تورّط بها الإنسان جرّاء خنوعه لسيرورة التاريخ.
كل من الكاتبتين شاعرة في الأصل ، الأمر الذي يشير إلى ما تفعله فتنة السرد المعاصر بالشعراء والشاعرات ، وإلى انزياح في البنية السردية نحو المعمار الشعري ، ففي الروايتين مكامن شعرية ملحوظة تنبئ ببطولة اللغة الشعرية التي بتنا نلمسها في الرواية الحديثة منذ عشرين سنة تقريبا.