قراءة في رواية إمرأة الرسالة
قراءة في رواية إمرأة الرسالة
حذام العربي
صدرت رواية امرأة الرسالة– لرجاء بكرية عن دار الآداب – بيروت – 2007 .
أقرأ لأن القراءة متعة وفائدة. وهي بعض ما تبقى لنا من متع في هذا الزمان.
لم اقرأ رواية مرتين، أبدا ً ! ليست مسألة مبدأ، بل يمكن القول انه زوال الدهشة والمتعة.
لم اقرأ لرجاء بكرية من قبل.
أعترف مسبقا بالتهمة. انني دائمة ُ الاحتفاء بالأقلام النسائية العربية. ولا أرضى لها بأقل من الامتياز والتـَمـَيـُّز. لكنني أرفض الادعاء بالتواطؤ معها.
ولجت الى محراب امرأة الرسالة مسلحة بقلم رصاص، كي اكتب ما تيسر من ملاحظات وتداعيات تخطر ببالي اثناء القراءة. أسجل هنا بعضا مما كنت قد ذ َيـَّلـْتُ به بعض صفحات الكتاب اثناء وحال الانتهاء من قراءته، واستفيض اذا ما دعت الحاجة.
رواية في كتاب من القطع الصغير، تقع في 366 صفحة مقسمة الى اربعة ابواب. في كل باب عدة فصول، وفي الفصول ايضا ما يشبه بنودا تم ترقيمها. وفيها فصول اشتملت ايضاً على عناوين فرعية، وليس فقط ارقام، بعضها طالت والاخرى قصـرت، وكأننا بصدد بناء منهجي ذي مداميك. ولكن تصفيط مداميكه جاء اقرب الى مبنى عشوائي لمتاهة.
قـَلـَّبتُ الكتاب أتحـَسَّسـُهُ بين يدي، وتمعـَّنتُ في لوحة الغلاف، ثم قرأت ما جاء على الغلاف الاخير.
فما ان قرأت مفردات، "مقيد بالسلاسل – عكا – نابليون – القهر – الهزيمة والانتصار"، حتى عدتُ أتأمل لوحة الغلاف الأول. إختلف الايحاء. فإذا بي ارى هذه المرّة، مقطعا جانبيا لامرأة قد تكون في الأربعينات من العمر، تقف بين حائط اكتسى بلوحة مغبشة، وكرسي من الطراز القديم، وبضعة ما يشبه الكتب، مقابل الكرسي. ترتدي هذه السيدة، ملابس عادية بيتية، وقد تكـَوَّر جسدها في بناء اجاصي، وهي تمسك بكلتا يديها ورقة تنهمك في قراءتها، وقد تقوس ظهرها ،وتهدل كتفاها بعض الشيء، وخلا وجهها من أي تعبير. تطغى على اللوحة الوان الارض. قلت في نفسي، حتما ً لهذه المرأة رسالة. هدفا، أو هَمـَّا ً أو وصية تحملها. والرسالة ليست فقط ورقة ترسل بالبريد. غريبة هي تصاريف لعبة الارتباطات الذهنية للقارئ الإمّعة مثلي!
بعض الروايات تثير اهتمام القارئ، وتحفز مشاعره، وتستـثير اشواقه لزيارة مكانها، ليشم عبير أرضها. أعرف ان مجرد إقران اسم مدينة عكا وبغداد فيما يشبه قصة حب، أو حتى تواصل مباشر عبر البريد، في مراسلة عادية، في هذه الايام له وقع السحر على الأذن والعين العربية من المحيط الى الخليج. وأدركُ ان مجرد وجود سجين امني فلسطيني في السجون الاسرائيلية، وخاصة اذا ما كان من هؤلاء الملقبين عرب اسرائيل او عرب 48 19، تدغدغ عواطف القارئ العربي "من محيطه الهادر الى خليجه الثائر". فهذا قارئ "يعاني" من شوق مزمن ودائم لمعانقة فلسطين، أو أي شيء من طرفها ولتضميد جرحها، للتواصل مع من تبقى على هذه الارض، فما بالك اذا كان كل ذلك ركنا في رواية؟! تـُشعركَ هذه الرواية ان المكان فيها يكتسب بعدا غيبيا ميثافيـزيقيا. يافا وحيفا مقترنا في تواصل مع عمان ورام الله وعكا، بغداد ولندن، كافٍ لدغدغة عواطف القارئ العربي، فهذه الأسماء تعيش في الوجدان العربي. تماما كما تعشش فيه رواية الثورة والصمود والتصدي. يقرأ عكا فينتفض وجدانه، ويقرأ يافا وبغداد فتعزف أوتار الروح. ثم يكتشف القارئ ان المكان اشبه بقناع جميل ساحر، لكنه بلاستيكي. وكأن الرواية تتكئ على قصة حب جارف بين الأمكنة بذاتها ! وكأنها تحشد كل هذه الأمكنة ذات الايحاءات التي ينخلع لها قلب القارئ شوقا ولوعة، بتدبير مسبق وفوقي.
الحدث وتناميه في الرواية وإشكالية حـَبكـِهِ بعنصر التشويق جاء واهنا الى حد كبير. في بداية الفصل الثالث ص93 أي ما يقارب ربع الرواية، ذيـَّلتُ الصفحة : الى هنا اقرأ مكرها أخاك لا بطل، قراءة مُضنية ومثيرة للأعصاب. ماذا تريد مني الكاتبة؟! هل الرواية في هذه الأيام، تتلخص في مدى ما تعكس من قدرة كاتبها على التحكم من أداته، اللغة؟!
في هذه الرواية ألاعيب لفظية، مفردات شاعرية تم سبكها في جمل موسيقية جذلة. جاءت اشبه بنصوص غيبية أو شذرات لغوية حالمة وشطحات وجدية. تصفع هذه التراكيب المزركشة القارئ. وبين وقع الصفعات، لا يستطيع ان يعثر أو يميز القماش الاساسي من الترقيع والتزيين. قرأت الكثير من الجمل المُرهـِقة، على سبيل المثال لا الحصر ص134 "وكنتَ تبحث عن شمع وكلام تلمـّه بين غرف نظيفة ومرتـّبة يدخلها رواد المقاهي الفاخرة واصحاب الباببيونات، الى اين تذهب؟ ارتفع صوتي هذه المرّة".
قرأتُ جملاً وفقرات وصفحات كاملة، متسربلة بمفردات جذلة شاعرية لتصبح شيئا من التجريد أو اقرب الى النصوص الغيبية المثقلة بشيفرة يصعب على القارئ الإمّعة مثلي حل الغازها. قرأتُ مثلا ص 311 {"لكي تبقى المدن جميلة .. نشوة، يجب ان نُسكنها قلوبنا". قال، وترك راحته تغفو على قلبه. منذ همس لها أحسّت أنـّها تحتلّ جميع المدن. تركت اليهود لأيـّامهم، وذهبت تزيـّن مدنها بساعاتها. كم احتاجت من الوقت كي تفهم أنّ المدن هي حفر القلب في موج الذ ّاكرة. لديها موج البحر المتوسّط بطوله وعرضه، أفلا تتعلـّم درسا ً واحداُ في استنساخ انتحاراته؟ كلّ تموّج يخلف انتحارا ً، وكلّ انتحار هو مشروع حفر. يومها قال : لو أدرك البحر هذه الفلسفة السّوداء لأرسل موجه إلى كلّ مكان. ذعرت: ولماذا؟
قال:
- كي يحفر النـّاس حكايا، ويظلّ هو كلّ الحكاية}.
ذيـَّلتُ العديد من الصفحات بعبارة : ثرثرة استطرادية، ثرية لغويا، ليست ذات معنى وشطبها لا يخل بالوزن ولا بالايقاع ولا بالصورة الجمالية، ولا بتنامي الحدث او شخصيات الرواية، ولا بأي شيء له علاقة بالرواية، أنه كالزائدة الدودية. على سبيل المثال لا الحصر ص 75، 90-91 ،131، 214 ،229 – 230 ، 264 صفحات محشوة بالثرثرة التجريدية، المُمـِلـَّة والمثيرة للأعصاب على نحو مـُنـَفـِّر.
إن لعبة التشويق اشبه بلعبة شد الحبل مع القارئ. وهذه الرواية، قطعتْ حبل الود معي اكثر من مرة وفي اكثر من موقف. قد يكون هذا بؤس المتلقي، الذي هو انا، القارئ العادي. ولكن مع تقدمي في القراءة تنازعتني الأهواء. فكتبتُ ص257 : شـَدِّ الاحزمة، وشحذ الهمة، القراءة السريعة، كي انتهي من الالتزام. ولاحقا ص265 كتبتُ: ان الاستمرار في القراءة بمثابة اقتصاص مني على ذنب لم ارتكبه، سامحك الله يا شيخ جميل. هذه رواية غير مدهشة بامتياز.
كنت اعتقد لسذاجتي، ان تشبيك ثلاث شخوص في رواية، احدهم رجل أو إمرأة، في علاقة حب، كافٍ "لصناعة الرواية الجيدة والناجحة".
في الفصل الثالث من الباب الثاني ص235 ذيلت الصفحة: الآن فهمتُ ! اذن في الرواية وائل وغسان وكاظم. واذ كنتُ قد تعرفتُ الى الشخصية المحورية في الرواية وهي المرأة، بإسمها الوارد ص212 على ما اذكر، فلماذا تتنازعني اهواء ترك الرواية جانبا؟ علما انه هناك ضيفا آخر رابع، الى وليمة القراءة! هل هو ذاك الضيف الرابع الذي اثقل على قدرتي المتواضعة بالاستيعاب؟ لا ادري ولكن، في الفصل الثالث من الباب الاول تحت عنوان بريد مسجل ص122 سجـَّلتُ: مـَنْ يتكلم عمن ومع من؟ في الرواية، تعددية السارد/ة، تقافز احاديث الروح، احيانا بضمير المتكلم المفرد، أو بضمير المفرد المؤنث الغائب، أو المذكر الغائب. هل على القارئ العادي، صاحب القدرات المحدودة، مثلي، ان يعيد قراءة فقرة أو فصل من رواية ثم يضرب اخماسا باسداس كي يلحق بظلال خيال. وإذ يحتار ولا يستطيع الامساك بزمام ما قيل، في ظل تشبيك لغوي مطلسم، عليه مراجعة القراءة، كأنه يقرأ تقريرا لآخر بحث تم اعداده في مختبر الطب الفيزيائي للخلايا الالكترونية؟
بطلتنا في الرواية، نشوة ظافر، مسكونة بهاجس الجنس والانوثة، حتى خلتُ ان الامر قد اختلط عليها بين الحب والجنس والذ ُرَّية. كما انها مشغولة في المادة ومظاهرها كثيرة البهرجة، وكأنها لم تستكمل المصالحة مع نفسها. وكأنها تنتقص من قدر نفسها، وتشكك في شرعية وجودها كعنصر انساني كامل متكامل، قائم بذاته ولذاته، مستقل عن كل ما يدور في فلكه. فنرى بطلتنا تتحايل على السياق لتدس فيه الوصف لمقاطع ممارساتها الجنسية ذات الايماءة الاباحية، وكأنها هي الهدف أو الحدث بذاته. وكأنه ليس جزءا من الحياة، له مكان وحيز من بين مضامين اخرى. فجاءت بعض هذه المقاطع بعيدة عن الانسيابية والعفوية، مبتذلة، وكأنها تنتهـر السياق تقتحمه بفجاجة، لتحشر نفسها فيه.
في حمى عصر العولمة وصرعته الاخيرة، الفوضى الخلاقة، والتي تنسحب على النتاج الادبي تماما كما تنطبق أو تجوز في عالم السياسة الداخلية والخارجية للافراد والدول، تنتصب امام اعيننا مرة اخرى مسألة الجنس الادبي، ومع غزو الفوضى الخلاقة لبلاد العرب ولغة العـرب، اختلط الامر عليّ بين القصيدة والنص، وبين المقال والقصة القصيرة، وبين البحث التاريخي والرواية، أو بين الجريدة والرواية. فأصبح الشعار السائد في عصر ال "ما ورائيات" أو فيما فوق الحداثة، انا اكتب اذن انا موجود. وعلى القارئ ان يمارس مواهبه بالغوص في اثر النصوص كي يعثر على الدر في احشائها. أعرفُ ان هناك، مجالا واسعا للترميز وللتشفير في هذه الرواية، كما في كل نص أو مادة وان المجال يتسع الى تعقيد الواضح، وتحميل النصوص اعباء تنوء بوزرها حكومات العرب "الهادرة والثائرة".
وأما القارئ الذي يلهث في إثر الدُرّ ولم تسعفه القريحة بقنيصة، وخرج خالي الوفاض، فله العزاء في مقاله ابو تمام.
عثرتُ على باب تدوين وتبويب الاجناس الادبية المعاصرة، وقد اشتملت قائمته على رواية الفانتازيا، لكنني لا اعرف لماذا لم يتم تدوين "فنتزة اللغة" كواحدة من أهم ابداعات عصر العولمة هذا الذي نحن نشهده. فيه اصبح تلغيم اللغة جزء لا يتجزأ من العملية الابداعية. وبقدر ما يوغل النص في حقل الألغام، تتلألأ ابداعيته ويسمو الابداع. أدركُ فجاجة الكتابة المباشرة والوعظية، ولكن لا ارى علامة فارقة بينها وبين الترميز المطلسم وفنتزة اللغة، من حيث ان هذه وتلك تشكلان طرفي نقيض في عملية الابداع، واذا ما ثــَقــُل المعيار اصبح اقرب الى الابتداع. ولغتنا، كما هو معلوم عنها لا تبخل. فهي تجير كل من طلب الاستجارة.
قرأتُ في هذه الرواية، فتافيت جمل جاء فيها صورٌ آخاذة في جمالها، بديعة في خيالها، رائعة في نصها وشفافة في رقتها، لكنها كانت متناثرة هنا وهناك. على سبيل المثال لا الحصر ص35 ،129 ، 132 ، 159 .