قراءة في الصعود إلى المئذنة
قراءة في الصعود إلى المئذنة
للدكتور احمد حرب
حذام العربي
– رواية – دار الشروق للنشر والتوزيع – 2008
لم اقرأ لاحمد حرب من قبل.
يباشر الكاتب في الصفحة الاولى من روايته هذه، بتعريف القارئ على اركانها الاساسية، الزمان والمكان والانسان السارد لها. ثم تأتي مجموعة تراكمية من احداث صغيرة، تداخل نسيجها بين الخاص والعام. أحـْكـَم الكاتب حبكها، ليرسم لنا صورة، وصيرورة جزئية من التاريخ السياسي الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، زمانا قبيل نكسة 1967 . ومكانا في منطقة جغرافية بعينها، تقع بين الخليل وبئر السبع. وهذه منطقة حدودية بين الكيان الاسرائيلي الذي أنشىء عام 1948 وبين الدولة الاردنية.
لا ادري اذا كان اختيار الكاتب باتخاذه اسم "يسير يحيى خليل يقظان" لبطله السارد للرواية، من باب العفوية فقط ، لكني منذ السطـر الاول في القراءة، وبتوارد الايقاع الموسيقي للاسماء، و تضاريس المكان، كالمغر، مشهد الطبيعة وروائح الارض، رحت افتش في ثناياها عن ارتداد أو ذبذبات تشي بعلاقة ما مع بطل ابن طفيل، ولكنني لم أجده. مع تقدمي في القراءة، عزفت نهائيا عن التمحيص والقراءة فيما وراء السطور، وقرأت فيها فقط رواية زمن السقوط والهزيمة ومكانهما. ثم رواية مجتمع مهزوم في ذاته وبأكمله حتى النخاع. لم أعثر على مكان للـرمزية في الرواية، إلا بقدر ما يحتاج القارئ، الفلسطيني على وجه التحديد، للترميز والغيبيات، كي يخفف من وطأة المشهد الروائي المؤلم والمقض والموجع.
رسم الكاتب عمودا فقريا للعلاقة الجدلية بين مجتمع الرواية وزمانه ومكانه بأزمان وامكنة اخرى. وتصويره في حلقات نامية تتسع شيئا فشيئا لتصل من ساكني القرية الهامشية والمهمشة والمغر المجاورة لها، الى نبض الشارع العربي من "المحيط الهادر الى الخليج الثائر" ص83 .
هذه رواية اشبه بروايات السيرة، لقد وشى لنا الكاتب بذلك حين اقحم، خارج الزمن، لقاء لأحد ابطاله، السارد في الرواية، مع احد الزعماء السياسيين اللذين عرفهم بطله و"كان بينهم تاريخ مشترك"، واستذكار المشاركة في احدى المظاهرات، ص78 . كذلك حينما اشار الى بعض الاسماء المعروفة جماهيريا، في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ص84 . ليس بالضرورة ان تكون السيرة ذاتية أو شبه ذاتية. لكن الكاتب اجاد المعرفة، انخرط وانصهر في الصورة والسيرة التي رسمها.
رواية لمجتمع يقوم على ثلاثة اركان تمسك بـزمامه، لتمنع الحراك، وتعنى بالحفاظ على حالة الانجماد فيه. المدرسة والمسجد، والعمارة وهي مركز السلطة الحاكمة في تلك الناحية، المدرسة في الرواية، مقر لتدجين النشئ، وليس للتربية أو التعليم، والمسجد لتدجين المجتمع ورسم حدود الطاعة وفروض الولاء لصاحب القوة والسلطان، والعمارة تقود العملية وتضبط امور هذا المجتمع تارة بالحديد والنار، وطوراً بأسلوب "اضرب كف وعدل طربوش"، ص126.
في هذه الرواية سيرة لمجتمع قامع ومقموع. فهو يقمع الضعيف فيه الذي لا يصمد للمواقف الصعبة، أيا كانت. كالفتى حين صعد للمرة الاولى للمئذنة، وفشل في آداء مهمته ص16 يـُصـْلـَى بنظرات التوبيخ، وترافقه وصمة الفشل حيثما حل وتحدث، ص 128 . أو كما ابو حسين حين بال في سرواله خوفا من مواجهة مع اليهود، ص39 فيتعرض للاهانات تطارده حتى الممات على يبدو. كذلك هذا مجتمع قامع ومضطهد لاطرافه الضعيفة الواهنة، الى درجة محاولة نفضها عنه تماما، بوسمها بالجنون لاعلان البراءة منها، كما عكس الموقع الاجتماعي لدودي القعقاع ص134 واتضح هذا في استبعاده عن الولائم، اكثر الطقوس المجتمعية بلورة للذات الجماعية، ثم صالح، الذي ليس هو بالضعيف أو غريب الاطوار، بل كل ما في الأمر انه يهوى الناي والموسيقى، لا يريد ولا يسعى للجندية كما يتوقع منه مجتمعه، أي وببساطة صاحب مواهب مختلفة، تـُمارس عليه الضغوط العائلية، الاجتماعية والبيئية القاسية التي تؤدي الى انسلاخه عن هذا المجتمع، ص109 . وفي المجمل نستطيع القول ان هذه صورة مجتمع يعتمد علاقة اضطهاد عنفية هـرمية. الحيز الوحيد المتاح فيه للتحرك، هو المعدل العام من القيم المقبولة والمتوارثة، وامكانيات الحراك الوحيد فيه لا تتعدى القتل، والنبذ، والاستخفاف بالآخر، الذي يخرج ولو قيد انملة، عن حدود القيم المتوارثة.
المرأة في الرواية تحظى بتسمية احد فصولها، بإسم من ستقتل دفاعا عن الشرف، رحانة.
في الرواية سيرة لمجتمع أوكل شرف النهوض بوزر شرفه للمرأة. وإذ لم تصمد في مهمتها بالحفاظ على هذا الشرف، يقوم الرجل بالثأر لهذا الشرف السليب والمهدور، بقتلها. ومن جهة اخرى، يبقى هذا الرجل معرضا متغاضيا متخاذلا عن القيام بواجبه، وفق ذات المعايير المجتمعية القائمة، والتي أوكلت اليه هو ضمان الحماية الكيانية لمجتمعه، ثم توفير اسباب المعيشة {الاقتصادية} له. فهو بين صامت او مستمرىء لتجرع الهوان والانتهاكات والذل الذي يتعرض له، من قمع ودوس وتدجين تحت سنابك وحوافر خيل السلطة، وبين فاغر فاه جاحظ عينيه لحالة التشريد والاستعباد لذل الاحتلال، فلهذا يتسابق الرجال الى توليم الولائم، ولذاك يرفع الرجال الراية البيضاء. هكذا يبقى مجتمع الرواية برجاله ونسائه، مرفوع الرأس حاسره، مهزوم النفس كسيـرها. انها ازدوجية المعايير وبإمتياز.
وهذا مجتمع مقموع كذلك، يقمعه فردا فردا وجماعة ايضا، ذل الحاجة الى المراعي، وفيها لقمة عيش هذا المجتمع الرعوي والفلاحي، المغموسة بالتذلل للسلطة المركزية الحاكمة، أو من يمثلها في ذلك المكان ص48. مجتمع رعوي على اطراف الدولة التي يفترض ان تقدم له الحماية الكيانية الأولية، وتساعده في النهوض باعباء حياته الاقتصادية، تقوم بابتزازه، ليقدم لها الرشاوى، التي يقتطعها من قوت يومه الغث، على شكل ولائم لتغذية ممثلي الحكومة وبهائمهم ص49. وإن لم يفعل، تمرغ السلطة وجهه وكرامته في التراب، بما في ذلك التعذيب الذي يؤدي الى قطع الاطراف، ص55. يضاف الى القمع والاذلال والقهر الاقتصادي، القمع والاضطهاد السياسي ايضا ً والذي يتراوح بين التدجين، والسجن والقتل. التدجين، كما جاء في سيرة نزلاء سجن الجفـر الشهير، ومنهم معلم التاريخ في المدرسة، ص110. ثم القتل المباح للطلاب المتظاهرين في الخليل ص90 . وبين هذا وذاك تبث السلطة المؤتمنة على رعيتها، العيون، لتتحكم حتى في أزرار المذياع في بيوتهم. لتمنع عنهم او تسمح لهم الاستماع الى صوت العـرب، ص117 . أليست هذه الصورة أجلى وأوضح، من الصورة التي رسمها جورج اوريل في 1984؟ انه الواقع الذي يفوق كل خيال، اختلاط الأمر ثم التداخل بين الحيز العام والخاص، وسقوط الحدود بينهما، فكل شيء مستباح لصاحب السطوة والقوة، حتى ليخال القارئ ان السلطة الحاكمة تحصي أنفاس الفرد، وتندس في رحلاته حتى اثناء احلامه.
تعكس الرواية نظاما من الاضطهاد القائم على علاقة دونية هرمية تراتبية في تعامل هذه السلطة الحاكمة، او رموزها مع الرعية. وفي تعامل الرعية ونسيج علاقاتها الذاتي الداخلي، افرادا وجماعة. فهو يسير وفق نظام القطيع. تحجز ما يقارب 500 منهم، ثم تطلق سراحهم بصفقة ص88. أو كما جاء : "احنا الفلاحين بنعامل حميرنا زي الحكومة ما بتعاملنا" ص119.
عرج الكاتب على الذاكرة الجمعية والفردية التي اختزنتها شخصيات الرواية، للسقوط المدوي الاول ومذابح العام 1948 كمذبحة الدوايمة وطور الزاغة، وما تركت من ندوب في هذه الذاكرة، وعـِبَر للآتي من الايام. حيث تم استحضارها في اذهان شخوص الرواية، مع قرع طبول النكسة.
اجابت الرواية بمسحها للملامح والأحداث، عن السؤال المقض والمؤرق الذي يرافق الفلسطيني حيثما وكلما حل وارتحل. بما يشمل ايامنا هذه، بعد مرور 40 عاما على النكسة، و 60 عاما على النكبة، هل يملك المجتمع الفاقد لارادته، الملهوف للقمة عيشه، منزوع القدرة على الحراك الذاتي الداخلي، ان يقول كلمة تحدي؟! هل تملك كتلة بشرية من الفوضى التنظيمية وازدواجية المعايير الانتصار في مواجهة أيا كانت؟! ولكنها تركت للقعقاع المنبوذ حصريا والموسوم بالجنون، السبق ببث الجواب وإعلان الخبر لمجتمعه، بشرى الانقاذ الموهوم، أو عمليا السقوط المدوي الثاني، ص144. هل هي رمية من غير رامي؟!
رأيت في الرواية بعض ملامح شخوصها. وقفت على السياق النفسي المتسق لكل منها، ولامست هموم ومشاعـر بعضهم. لكن الكاتب امسك عن الكلام المباح، في نهايتها. فلم يصف لنا ما اختلج في صدر المختار من مشاعر وافكار هائجة مائجة، تصطك، بين التطبيل والتزمير للحرب، والانشراح برؤية طلائع موكب العربات العسكرية، والهتاف لها مرحبا، على انها قوات بلاده. ثم وبفارق دقائق من الـزمن، هبوطه حاسر الرأس، الى أعلى المئذنة ليربط عليها كوفيته البيضاء، استجابة لنداء جيش الدفاع الاسرائيلي، الداعي الى الاستسلام. هل هو انفصام هذا المختار عن مشاعره لحظتها، حفاظا على نفسه في هول المشهد؟! أم انه رجل التلويح بالرايات، مهما تناقضت، وبإمتياز؟!
رواية رصدت مجتمعا يجرجر ذيول النكبة، ويـَحـْبـِكُ جـَدْلـَها بطلائع النكسة، فلا هذه ولا تلك صدفة. انها تحصيل حاصل لمجتمع متآكل الارادة. مجتمع يعتمد في حياته، علاقة من الخوف والارهاب والترهيب مع سلطته المركزية، ويقيم توازنا من الذل والاذلال، الاهانة والمهانة، القهـر والاستكانة معها. فكيف به يغضب أو ينهض أو يثور!.