تنوع الخطاب الشعري ودلالته -1-
تنوع الخطاب الشعري ودلالته -1-
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
تتعدد أنماط قراءة النص الشعري بتعدد أشكاله، وتتنوع أيضا بتنوع المقام المراد كشفُه.. وقد ينتبه كثير من الملاحظين سواء منهم المتخصصين أم المتتبعين عن بعد؛ الصيغة التي جاء بها حفل توقيع أعمال شعرية لستة شعراء من مدينتنا وجدة.. فمن صعوبةِ الجمع بينها في دراسة جامعة مكثفة ومركزة، إلى تعدد وجهات النظر عند كل مبدع، إلى الرؤية التي يحتفظ كل منهم لصالح النص الشعري وآفاقه ووظائفه.. كل هذه الاعتبارات جعلتني أقف عند الأعمال التي توفرت لدي، وأشتغل وفق التعريف بالشكل العام للتجارب الشعرية مع محاولة التمييز بينها من حيث تنوع الخطاب الشعري أو تشابهُه..
وأعني بالخطاب الشعري هنا أنه نسج من الألفاظ والدلالات التي تسعى إلى تحقيق تواصل بين المبدع والمتلقي.. وبعبارة أخرى هو ما تؤديه اللغة الشعرية وتقدمه من أساليب وتعابير تميزه عن ما سواه.. وقد استطاع بعض النقاد التمييز بين أنواع متعددة من الخطاب في النص الشعري، كالخطاب الإيحائي والخطاب المباشر والذاتي والسردي والخطي ثم الدائري.[1]
وبما أننا في محفل الاحتفاء بهؤلاء المبدعين، فلا بأس أن نحاول تطبيق هذه الفرضية في بعض أعمالهم الشعرية.. وقد استرعى انتباهي حضور شكلين من أشكال الخطاب عند أربعة شعراء ( محمد ماني، عبد القادر الطاهري، علي العلوي و عبد القادر زرويل).
1- الشكل الأول، الخطاب الخطي ونمطية الاسترسال المباشر:
المقصود بالخطاب الخطي أن يصاغ الخطاب بطريقة ينمو فيها نموا أفقيا، أي أنه ينطلق من نقطة (أ) ليواصل نموه إلى نقطة (ي) دون أن يعود إلى ما سبق إظهاره من عناصر الخطاب.[2] بمعنى أن الشاعر يبدأ نصه بصياغة فرضية مثلا ليواصل تحليلها وإعطاء الأدلة على فحواها حتى يصل إلى نتيجة معينة. أو يبدأ نصا بإطلاق العنان لذاته كي يسترسل في مصوغات تراتبية تنهيه إلى ساحل النجاة في مرفإ سبق أن تصوره في ذهنه ووجدانه.. وتتصل العبارات فيما بينها بعناصر ربط أساسية كحروف العطف، أو الانتقال من مقام شعري مختوم بقافية نحو مقام ثان.
انطلاقا من هذا المنحى النظري؛ نستطيع التأكيد أن الشاعرين محمد ماني وعبد القادر الطاهري استغلا هذه الطاقة التعبيرية، فكان خطابُهما الشعري دالا على الاسترسال في تجريد ذاتيهما من همومها وهواجسها، وتتبع دقات قلبيهما عبر صيغ تعبيرية متتالية..
ولقد عبر الشاعر محمد ماني عن هذا النسق بصيغة مباشرة في ديوانه (مقام الصدى) حيث جاء عنوان إحدى القصائد دالا على سمة التقرير، والتقرير كما هو معهود في كتاباتنا موصوف بالخطاب الخطي، إذ الانطلاق من نقطة بداية أو مقدمة؛ للوصول إلى منتهاه وخاتمتِه. ونقصد هنا قصيدته التي جاءت بعنوان (تقرير على هامش التقرير) وهي نموذج للنسق العام الذي تسير وفقه جل النصوص الشعرية في تجربته الشعرية الأولى..
لكن، لا بد من استدراك مهم، أو بالأحرى وقفة عند مقصدية هذا البناء الدلالي عند الشاعر. ولعل الجانب النفسي هو المهيمن على تحولات الذات والتحولات الدلالية المصاحبة لها. إذ تعتبر المواضيع الجاهزة أحدَ الأسس التي تجعل الشاعر نمطيا في تفكيره ووجدانه، وترديه قتيلا أمام لوحته الشعرية.. والقصد من قولنا أن الشاعر يحمل همًّا وضغطا اجتماعيين، تجعله يفكر أولا في موضوع النص، ويخطط له بحيث يأتي متناسقا ومنسجما، وذا تراتبية منطقية، أو ما اعتمدناه فكرة أساسية وهو الخطاب الخطي في شعره.. ولن ندخل في تفاصيل النماذج الشعرية عند محمد ماني لأن الديوان جله يسير وفق هذا النمط.. وإذا كنا بدأنا به كونه مزج بين الجانب الذاتي والموضوعي في شكل متناسق غير منفصم.. فهو يقارب تجربة المبدع الشاعر والقاص عبد القادر الطاهري، الذي جعلنا نقف عند جانب أكثر شمولية، تنعكس فيه الذات؛ فتصير مرآة للتحولات الاجتماعية والسياسية ... وينغمس فيها الشاعر بذاته حتى يتوحد وملكوتَها. وقد كان للتكثيف الدلالي برموزه التاريخية والسياسية ... بعدٌ تأثيري على نسق الخطاب الشعري، إذ اتسم بالخطية والتخطيط المسبق كما لاحظنا مع الشاعر محمد ماني. إلى جانب كون التجربة الشعرية عنده مكملة ً للسرد المتشبع بالاسترسال، والمتصرفَ الأساسَ في نمو الخطاب وانتقالـَه من لحظة البداية إلى لحظة النهاية.. وقد استطاع عبد القادر الطاهري في نصه الطويل الذي يعتبر سمة أساسية للتعبير طويلِ النفـَس، أن يساير بعض شعراء المنطقة الشرقية في نشر القصيدة / الديوان. نذكر على الخصوص كل من محمد علي الرباوي في ( من مكابدات السندباد المغربي) و(تحولات يوسف المغربي) لعبد الرحمن بوعلي.. وتبعا لهذا الخاصية؛ كرس الشاعر الطاهري مبدأ الخطية باسترسالية بسيطة، بدأها بحرف عطف في أول مقطع: عطف قلب موجع بالهموم/ مخاطبا ذاته أساسا، لأن مارية هي صدَى ذاتـِه كما أن مقام الصدى عند محمد ماني هو صدى ذاته وتوهجاتها.. والشاعر عبد القادر الطاهري مفعم بالنبضات الكونية والذاتية، وهو الباحث عن معادلاتها الموضوعية في الواقع، من خلال الرموز التاريخية والدينية والسياسية والشعبية.. والتناص مع النصوص الشعرية الأخرى.. كل هذا التكثيف استـُغِل بطريقة ممنهجة، ومخططٍ هلا سلفا في مخيلة الشاعر ووجدانه، حتى غدا النص كـُلا متكاملا. انطلق فيه الشاعر من وهج "مارية" وبهجتها، ليصل إلى توهج ذاته التي تصطبغ بالدم الأحمر.. فكأنه مثمِّن لدور الذات في السير قـُدما نحو الخلاص من وهج الواقع، إلى هرج الذات وتقلصات شرايينها..
قد تكون هذه البداية دليلا كافيا على الانسجام بين الشاعرين في ما يخص الجانب الخطابي، أو العنصر التكويني والعنصر المقصدي. ولم يبق أمامنا سوى تسجيل جماليات هذا البناء في النص الشعري. فمن المؤكد أن الشاعر كيفما كان موقعه، يحاول كسب المتلقي بتقديم صيغ جمالية ذات أبعاد فنية وتعبيرية.. وقد امتلك الشاعران حركية َ الصورة الشعرية بما تحمله من رموز وعينات مجتمعية مختلفة، قد تصل أحيانا إلى العينات الحيوانية كما عند الشاعر محمد ماني. مما أضفى صفة اللحظة الجمالية التي تـُعنى بدرجات الإرسال والاستقبال، وتركز على عملية التلقي صفة أساسية في إخراج النص من ذاتية المبدع إلى إنتاجه ثانيا وفق أفق انتظار المتلقي.
- يمكن الرجوع في تعريف هذه الأنواع إلى كتاب (مبدأ الخصوصيات- أو معينات قراءة النص الشعري) للناقد د. مصطفى سلوي، سلسلة رسائل[1] الأدب (01)1425- 2004، مطبعة شمس وجدة، ص- 70 وما بعدا..
- المرجع السابق، ص- 101[2]