رَسائِلُ 17

د. محمد جمال صقر

[email protected]

أستاذنا الكريم : أبا براء

السلام عليكم و رحمة الله

سألتكم بالأمس عن قضية التناص , فى جزئيات متفرقة منها

وتذكرت بعدها ما دار من حوار بينى و بين أخى السلفىِّ المتشدد إلى حدٍّ ما , حين رأى  أحد العلماء الكبار و قد جعل عنوان برنامجه على إحدى الفضائيات { أفلا تبصرون } فاستنكر أن يُقتبس شئٌ من القرآن و يستخدم فى العنونة أو غيرها , تقديساً للقرآن وحفظاً لدلالته من التحريف , ثم أراد أن يدعم هذا الرفض بما ينفر من هذا الاستعمال , فسخر من سوء الاختيار , قائلا: إنها كلمة فرعون  لقومه فى سورة الزخرف ! , فرددت عليه وقتها  - وكان ذلك منذ عام تقريبا - بأنه انتزع العبارة من سياقها واستخدمها بمدلولها اللغوى فى سياق مختلف , فأكسبها دلالة جديدة  ,   فلم يقبل

و هنا سؤالان : الأول هل تنخلع العبارات المستخدمة فى التناص فعلا من دلالاتها السياقية تماماً لتوظف فى سياق جديد كما قلت له , أم تأتى بدلالاتها , أو بشىءٍ منها , أم يختلف الأمر كل استخدام بحسبه ؟

و السؤال الثانى - وفيه شئٌ من الأول - : هل نستحضر السياق الأصلىَّ عند التناص فيمثل لنا ذلك مشكلة أحياناً كالتى تسببت لأخى فحملته على السخرية من سوء الاختيار حين استحضر السياق التى قيلت فيه أفلا تبصرون , فرأى فيه فرعون قد جمع قومه يضللهم و يثنيهم عن عقيدة التوحيد مستخفا بهم , فأطاعوه إذ كانوا قوما فاسقين ! , ثم نقل مفردات هذا السياق وقابل بها مفردات السياق الجديد فوضع الشيخ الفاضل موضع فرعون , ووضع مشاهديه موضع قومه فسخر منهما معاً !,

كذلك هل ثمت علاقة بين التناص و التعريض ؟ أليس من الممكن أن نأتى بنص كامل طويل لا نغير فيه و لا نبدل ولا نضيف لكننا نضعه فى سياق يُحمِّله - وحده - معنى آخر بعيدًا عن دلالاته القريبة الظاهرة فماذا أسميه حينئذٍ : تناصًا أم تعريضًا ؟   

ثمَّ لماذا نطلق على كل اقتباس مصطلح التناص و ربما لم يكن المقتبس منه نصًا بل قد يكون جملة , أو حكمة , أو أى عبارة موجزة لم تتجاوز نصف سطر , كما سميتم كتابكم { إذا صحَّ النصُّ } نقلا عن عبارة الإمام مالك , أو قد يكون مصطلحًا كما نقلتم مصطلح الحلول والاتحاد الذى تكلمتم فيه بالأمس 

هذا كان الموضوع الثالث الذى سألتكم فيه بالأمس , و أذكركم بالموضوع الثانى وكان عن أسرار اللغة فى كتاب فقه اللغة للثعالبى

هل قدم بالفعل أسرارًا للغة فيه فحلل و ناقش , ووقفناعلى خفايا تلك التراكيب والظواهراللغوية وأسباب مجيئها على تلك الصور غير المعتادة ؟ , أم اكتفى فقط بجمعها  و التنبيه إليها , وتركها هكذا مفتقرة إلى الدراسة ؟

يسَّر الله عليكم بما تيسرون علينا , وبارك فى أوقاتكم بما تبذلونها لنا فى سبيله , وبارك فيكم , ونفع بكم  

والسلام

زينب

4/5/2008م

بنيتي زينب العزيزة الكريمة ،

بارك الله فيك ، ونفع بك ، وجعلني عند حسن ظنك ، وأبقاني كذلك !

أما استعمال النص القديم فبيد مستعمله ، على أن يدل على مراده منه سياق نصه الجديد ..

وأما بقاء معناه القديم فحق كذلك كما قال أخوك الكريم ، ولكن ينظر في هذا إلى نسبة توفيق مستعمل النص القديم في سياق نصه الجديد ، وإلى قبول المتلقين منه .

ومهما فعل مستعمل القديم لبعض المتلقين ، فلن يزحزحهم عن مبادئهم حتى يغيروها ، ولن يغيروها حتى ينصتوا إلى استعماله إنصات المتعلم .

ولكن لا موضع هنا لتضمين الأفعال معنى الأفعال وما إليه ، إنما التضمين الواقع هنا ، نوع من الأخذ يسمى تضمينا واقتباسا ؛ فهي ككثير من مصطلحات العلوم ، كلمة كثيرة الاستعمال كثيرة المفاهيم ، تعرف مفاهيمها في مواضعها من أبوابها في علومها .

أما التعريض ففن من الإيماء إلى المعاني ، لا أدري كيف استحضرته في هذا المقام إلا أن تفهمي التعريض من نص استولى على نص ، فتظني أن التعريض من أخذ النص القديم ، وإنما هو من طريق البيان !

وأما الثعالبي فلم يعلل ولم يفسر ولم يزد على جمع جملة صالحة لتحريك شعور المتلقي إلى ما يريده أن يشعر به من أسرار العربية ، فكأنه آثر التلميح !

والله أعلم !!

5/5/2008

أستاذنا الكريم : أبا براء

 السلام عليكم ورحمة الله

وأما عن قضية التناص التى لا زالت تشغلنى , وإن انشغلت - معذرة - عن متابعة النقاش فيها ببعض أمرى ,

وعن تَعَجُّبِكم كيف استحضرت التعريض أو غيره من الأنماط البيانية الأخرى فى مقام التناص , وتنبيهكم على ضرورة الاحتفاظ لكل منها بكيانه مصطلحاتٍ و مفاهيمَ وبناءً , وعدم الخلط بينها , أقول لقد تأملت التناص من خلال بعض صوره , ومن خلال إجابتكم السابقة فوصلت إلى أنَّ إثبات وجود علاقة بين التناص وغيره من هذه الأنماط لا يؤدى إلى أى خلط , فإذا لاحظنا أنَّ لاستخدامه جمالا و إمتاعًا ثم أخذنا نبحث عن سره , فرأيناه فى اشتماله على بعض البلاغيَّات كالتعريض مثلا والتورية والاستعارة  , وتضمينه معانىَ جديدة من خلال سياقى المقال والحال الجديدين كليهما أو أحدهما ..... إلخ , أنكون فى هذا مخلطين ؟     

لقد نظرت فى الأمثلة القليلة جدًا التى معى فرأيت أنَّ التناصَّ أحيانًا لايكون مقصودًا منه أكثر من التَّبرُّك بالتعبير القرآنىِّ مثلا , أو الحديثىِّ أو تعبير الفقيه أو المحدِّث , ولا يُقصد منه استصحاب السياق الأصلىِّ للنص , بل يضمنه الأديب معنى جديدًا يقصده هو ويفهمه المتلقى من السياق الجديد الذى وضع فيه , كما فعلتم أنتم فى عنوان كتاب ( إذا صح النص ) , وأظنه يصدق كذلك على استخدامكم لمصطلح ( الحلول والاتحاد ) , فلا أظنكم أبدا أردتم استحضار معناه الفلسفى لابتعاد السياق الجديد عنه تمامًا ,

ومن مثل هذا فهمت علاقة التناص بالتضمين ,   ;

وربما أراد كذلك مستخدمه أن يومئ إلى معنى آخر فى نفسه يحول دون التصريح به حائل ما , فيذكر النص القديم تمتعًا أو ترنمًا فى نظر من يخشاهم , وتعبيرًا عما فى نفسه فى نظر آخرين فيكون للنص إذن  دلالة قريبة هى الدلالة المعروفة له , ودلالة بعيدة هى ما يرمى إليه مستخدمه منه , فأشبه بذلك التورية , كأن يتشكى شخص من غدر الإخوان فلا يزيد على أن ينقل أبيات ابن زيدون :

يا أبا حفص وما ساواك فى فهمٍ إياسس

من سنا رأيك لى فى غسق الخطب اقتباس

ما ترى فى معشر حالوا على العهد وخاسوا

ورأونى سامريا يتقى منه المساس

أذؤب هامت بلحمى فانتهاش وانتهاس       

كلهم يسأل عن حالى وللذئب اعتساس

.................................

....................................

إلى آخر ما قال , لكنَّ هذا مثال مصنوع ! , وربما مثل لهذا النوع مما استخدم حقيقة ما كان يفعله بعض الشيوخ فى زمان التضييق عليهم بالمنع والحبس والضرب وغيره إذا جهروا بكلمة الحق عند السلطان الجائر فلم يكن يزيد أحدهم إذا صعد المنبر على أن يقرأ سورة ( ق) مثلا أو أى سورة مناسبة لموقفه , معرضًا بها بهم .

وفى طريق عودتى اليوم رأيت إعلان شركة اتصالات عن تخفيض أسعار الاتصال مكتوب فيه ( انخفاض حاد فى سعر الدقيقة 15قرش والصواب قرشا ) وتكلمتم فى المحاضرة عن تعبير بعضهم فى وصف النحو بأنه ( الهيكل العظمى للغة ) فكان تناصا من جهة استخدام المعبرين لمصطلحات علم فى علم آخر , وكان استعارةً من جهة تشخيص تلك المجردات , وهى سبب قوى فى جمال هذا التعبير وإمتاعه , بالإضافة إلى ما فى محاكاة أو تداخل النصوص أو تكاملها من جمال 

ولعل من الشطط أن أصل بالتفكير إلى أن الاستخدامات اللغوية تكون كلها من التناص فى بعض وجوهها , فكلٌّ ينقل عن كلٍّ ,على مدى العصور والأجيال , لكن ربما قربه إلى الصواب ما ذكرتم من أن التناص صار أحد أصول النصية الآن .

فما رأيكم ؟

وفقكم الله إلى كل خير

والسلام

زينب

6/5/2008م

بنيتي زينب العزيزة الكريمة ،

يا سلاما عليك !

ويا بارك الله فيك وفي أستاذك !

قد أبعدت النجعة ، حتى خطر لي أن أسمي الإنسان حيوانا تَناصّيًّا من بعد أن كنتُ أسميه حيوانا تُراثيًّا - وهما قريب من قريب - على طريقة المحدثين فيما يَحْزُبُهم من البلايا العامة !

ولكنني أحب لك أن تُمَيِّزي طبيعة تكوين الأساليب البلاغية ، من طبيعة حدوث التناص ؛ فإن تكوينها مستقل عن حدوثه ، فربما لجأت إليه ، وربما لم تلجأ . وربما حملتني طبيعة تكوينها هذه ، على تحذيرك مما سميتِه خلطا ؛ إذ ينبغي أن نعرف الشيء بما في طبيعته ، لا بما يطرأ عليها .

ولا أتركك حتى أستجير لك من غدر الإخوان أو الأخوات - أو شبهته - الذي يضطر أمثال ذلك الموري أو تلك المورية ، إلى شعر ابن زيدون !

كان الله جارك !

والسلام .

محمد جمال صقر

6/5/2008م

أستاذنا الكريم : أبا براء

السلام عليكم ورحمة الله

أحمد لأستاذى ( سنا رأيه ) أن فطن إلى أن الأمر ربما لم يزد على أن يكون مجرد شبهة فى نفسى لا أساس لها , و أشكره شكرًا جزيلا على هذا التعاون , أجاره الله من كل سوء 

والسلام .