تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 43

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " رَسائِلُ الْجاحِظِ " ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قالَ خالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْريُّ لِحاجِبِه : لا تَحْجُبَنَّ عَنّي أَحَدًا إِذا أَخَذْتُ مَجْلِسي ؛ فَإِنَّ الْوالِيَ لا يَحْتَجِبُ إِلّا عَنْ ثَلاثٍ : إِمّا رَجُلٌ عَييٌّ يَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلى عيِّهِ ، وَإِمّا رَجُلٌ مُشْتَمِلٌ عَلى سَوْءَةٍ ، أَوْ رَجُلٌ بَخيلٌ يَكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ إِنْسانٌ يَسْأَلُه شَيْئًا . أَنْشَدَني مَحْمودٌ الْوَرّاقُ لِنَفْسِه في هذَا الْمَعْنى :

إِذ اعْتَصَمَ الْوالي بِإِغْلاقِ بابِه وَرَدَّ ذوي الْحاجاتِ دون حِجابِه

ظَنَنْتُ بِه إِحْدى ثَلاثٍ وَرُبَّما نَزَعْتُ بِظَنٍّ واقِعٍ بِصَوابِه

فَقُلْتُ بِه مَسٌّ مِنَ الْعيِّ ظاهِرٌ فَفي إِذْنِه لِلنّاسِ إِظْهارُ ما بِه

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عيُّ اللِّسانِ فَغالِبٌ مِنَ الْبُخْلِ يَحْمي مالَه عَنْ طِلابِه

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هذا وَلا ذا فَريبَةٌ يُصِرُّ عَلَيْها عِنْدَ إِغْلاقِ بابِه

هذا النظم ( الشعر ) مِنْ عَقْد ذلك النثر ، وهو باب من البلاغة تبارى فيه المتأخرون ، كما تباروا في حَلّ النظم ( الشعر ) إلى نثر .

والنثر تفريق ، والنظم تجميع !

وقد عبر الشعر هنا عن " الثلاث " ، أقرب من تعبير النثر ؛ فبادر إلى أحوال المحتجب ، من بعد أن وَرّى النثر فيها بدواعي الاحتجاب !

حُجِبَ أَحْمَدُ بْنُ أَبي طاهِرٍ بِبابِ بَعْضِ الْكُتّابِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : لَيْسَ لِحُرٍّ مِنْ نَفْسِه عِوَضٌ ، وَلا مِنْ قَدْرِه خَطَرٌ ، وَلا لِبَذْلِ حُرّيَّتِه ثَمَنٌ . وَكُلُّ مَمْنوعٍ فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ بِغَيْرِه ، وَكُلُّ مانِعٍ ما عِنْدَه فَفِي الْأَرْضِ عِوَضٌ مِنْهُ ، وَمَنْدوحَةٌ عَنْهُ . وَقَدْ قيلَ : أَرْخَصُ ما يَكونُ الشَّيْءُ عِنْدَ غَلائِه . وَقالَ بَشّارٌ :

وَالدُّرُّ يُتْرَكُ مِنْ غَلائِهْ

وَنَحْنُ نَعوذُ بِاللّهِ مِنَ الْمَطامِعِ الدَّنيَّةِ ، وَالْهِمَّةِ الْقَصيرَةِ ، وَمِنِ ابْتِذالِ الْحُرّيَّةِ ؛ فَإِنَّ نَفْسي - وَاللّهِ - أَبيَّةٌ ، ما سَقَطَتْ وَراءَ هِمَّةٍ ، وَلا خَذَلَها ناصِرٌ عِنْدَ نازِلَةٍ ، وَلَا اسْتَرَقَّها طَمَعٌ ، وَلا طُبِعَتْ عَلى طَبَعٍ . وَقَدْ رَأَيْتُكَ وَلَّيْتَ عِرْضَكَ مَنْ لا يَصونُه ، وَوَكَّلْتَ بِبابِكَ مَنْ يَشينُه ، وَجَعَلْتَ تَرْجُمانَ كَرَمِكَ مَنْ يُكْثِرُ مِنْ أَعْدائِكَ ، وَيَنْقُصُ مِنْ أَوْلِيائِكَ ، وَيُسيءُ الْعِبارَةَ عَنْ مَعْروفِكَ ، وَيُوَجِّهُ وُفودَ الذَّمِّ إِلَيْكَ ، وَيُضْغِنُ قُلوبَ إِخْوانِكَ عَلَيْهِ ؛ إِذْ كانَ لا يَعْرِفُ لِشَريفٍ قَدْرًا ، وَلا لِصَديقٍ مَنْزِلَةً ، وَيُزيلُ الْمَراتِبَ عَنْ جِهاتِها وَدَرَجاتِها ، فَيَحُطُّ الْعَليَّ إِلى مَرْتَبَةِ الْوَضيعِ ، وَيَرْفَعُ الدَّنيَّ إِلى مَرْتَبَةِ الرَّفيعِ ، وَيَقْبَلُ الرُّشا ، وَيُقَدِّمُ عَلَى الْهَوى . وَذلِكَ إِلَيْكَ مَنْسوبٌ ، وَبِرَأْسِكَ مَعْصوبٌ ، يَلْزَمُكَ ذَنْبُه ، وَيَحُلُّ عَلَيْكَ تَقْصيرُه .

" لَيْسَ لِحُرْ = مُسْتَعِلُنْ

رٍ مِنْ نَفْسِ = مَفْعولاتُ

ه عِوَضٌ = مُسْتَعِلُنْ " !

قد استقام لك عفوًا المنسرح - يا مولانا - عن حُسْن إنصاتك لطبيعة لغتك ، الواضح فيما سوى ذلك من تعابيرك !

وإنما السقوط وراء الهمة الذي تبرأتَ منه ، أن تعجز عما أردت !

ولنحن أحوج أن نضع كل كلمة من كلم رسالتك ، في كل خلية من خلايا تكويننا ؛ فإنما المُلوك المُلوك هم الزهاد ، والمُلْك المُلْك هو الزهد : أن تمتلك الشيء وتزهد فيه ، وأن تقدر عليه وتعرض عنه !

أَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ لِجَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ :

إِنَّ وُقوفي مِنْ وَراءِ الْبابْ  

يَعْدِلُ عِنْدي قَلْعَ بَعْضِ أَنْيابْ

يحتاج اتزانه من مشطور السريع ، إلى قطع همزة وصله :

إِنَّ وُقو = مستعلن

في مِنْ وا = مستفعلن

ءِ أَلْبابْ = مَعولاتْ

يَعْدِلُ عِنْ = مستعلن

دي قَلْعَ بَعْ = مستفعلن

ضِ أَنْيابْ = مَعولاتْ

وإلا انكسر بـ"  ءِ الْبابْ = مَفْعولْ " ، التي لا مدخل لها مع " ضِ أَنْيابْ = مَعولاتْ " إلى أضرب مشطور السريع ، إلا أن تقطع الهمزة : " ءِ أَلْبابْ = مَعولاتْ " .

قالَ الْأَصْحَمُ أَحَدُ بَني سَعْدِ بْنِ مالِكِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ، يَذْكُرُ خالِدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْريَّ وَأَبانَ بْنَ الْوَليدِ الْبَجَليَّ ، وَحَجَبَه خالِدٌ : (...)

وَيُدْعَوْنَ قُدّامي وَيُجْعَلُ دونَنا مِنَ السّاجِ مَسْمورًا تَئِطُّ حَدائِدُهْ

من قول الفرزدق في فُجوريَّته :

" أُحاذِرُ بَوّابَيْنِ قَدْ وُكِّلا بِها وَأَسْمَرَ مِنْ ساجٍ تَئِطُّ مَسامِرُهْ " !

قالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمْ ! - : " مِسْكينٌ مِسْكينٌ رَجُلٌ لا زَوْجَةَ لَه ! مِسْكينَةٌ مِسْكينَةٌ امْرَأَةٌ لا بَعْلَ لَها !

مِسْكي = فاعِلْ

نٌ مِسْ = فاعِلْ

كينٌ = فاعِلْ

رَجُلٌ = فَعِلُنْ

لا زَوْ = فاعِلْ

جَةَ لَهْ = فَعِلُنْ

بيت من مجزوء المتدارك قد اكتمل ، قد استقام له - صلى الله عليه ، وسلم ! - عفوًا من المنسرح ، عن طبيعة البيان العالي الشريف ، وفضيلة الكلم الجامع !

قَدْ جاءَ فِي الْحَديثِ أَنَّ الزِّنى فيهِ سِتُّ خِصالٍ : ثَلاثٌ فِي الدُّنْيا وَثَلاثٌ فِي الْأُخْرى . فَأَمَّا الَّتي فِي الدُّنْيا فَيُذْهِبُ بِالْبَهاءِ ، وَيُعَجِّلُ الْفَناءَ ، وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ مِنَ السَّماءِ . وَأَمَّا اللَّواتي فِي الْآخِرَةِ فَالْحِسابُ ، وَالْعَذابُ ، وَدُخولُ النّارِ .

هي الآخرة كما صح في خلاله ، فأما الأُخْرى فغير المذكورة ، وأما الآخرة فالمتأخرة ، وهو المراد ، وكأن الحياة الدنيا إنما سفلت عن أن تسمى الأولى لما في الأولية من فضيلة ، فسميت الدنيا ، ومن شاء على هذا سمى الحياة الآخرة العليا ولا حرج عليه ، إن شاء الله ! ولا اعتراض بمطابقة الدنيا ، وإلا فاستعمال كلمة العليا أولى من كلمة الأخرى .

ثم ما العذاب وما دخول النار ! إن في ضبط ثلاثة الآخرة لشيئا !

قالَ صَفْوانُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ الْأَهْتَمِ ، لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ رَبيعَةَ بْنِ الْحارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَكانَ رَكّابًا لِلْبَغْلَةِ : ما لَكَ وَهذَا الْمَرْكَبِ الَّذي لا تُدْرِكُ عَلَيْهِ الثّارَ ، وَلا يُنْجيكَ يَوْمَ الْفِرارِ ؟ قالَ : إِنَّها زَلَّتْ عَنْ خُيَلاءِ الْخَيْلِ ، وَارْتَفَعَتْ عَنْ ذِلَّةِ الْعَيْرِ ، وَخَيْرُ الْأُمورِ أَوْساطُها . فَقالَ صَفْوانُ : إِنّا نُعَلِّمُكُمْ ، فَإِذا عَلِمْتُمْ تَعَلَّمْنا مِنْكُمْ !

ما أكبره تواضعًا ، وما أحسنه ثناء ! وهما من طريقة قول أستاذ لي وكان عليَّ واجِدًا - فكأنما اختبر ما عندي فلم يجد غير الصمت - : ربما فاق التلميذ أستاذه !