الماركسية.. في مواجهة الإسلامية.. 6
الماركسية.. في مواجهة الإسلامية..
- 6 -
د. نجيب الكيلاني
لا أعتقد أن قضية عداء الماركسية للإسلامية تحتاج إلى إثبات أو تدليل، فذلك أمر مفروغ منه، لأن كتابات "ماركس" وزعماء الحركة الشيوعية وكذلك كل من شارك في صنع النظرية الماركسية أو تغييرها، كل هؤلاء زعموا أن الأديان من صنع البشر، وأنها حيلة ماكرة لاستغلال الضعفاء والفقراء لمصلحة الأغنياء والأقوياء، وأنها أفيون الشعوب، تخدر المظلومين والكادحين حتى لا يشعروا بمأساتهم، ولا يحاولوا انتزاع حقوقهم المسلوبة، وعلى الرغم من أن الماركسيين يصفون دراساتهم وتحليلاتهم بالموضوعية والواقعية، إلا أنهم لم يكونوا موضوعيين يقيناً حينما عمموا أحكامهم الخاطئة بالنسبة للأديان على الإسلام بالذات، ومعروف أن الإسلام له مبادئ خاصة تنظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والشيوعيون لم يتناولوا هذه الجوانب بالدراسة المستفيضة أو التحليل الشامل المتكامل، فالقضية أساساً قضية جهل وعدم موضوعية على الإطلاق، وقد حاول البعض منا أن يجمع بين الإسلام والماركسية، مثال ذلك ما قاله "سوكارنو" الذي قال "أنا ماركسي مسلم"، وحاولت بعض الأحزاب الشيوعية أن تخدع الجماهير المؤمنة في بلادها، وتقدم برامج سياسية واقتصادية فيها لون من ألوان الوفاق الزائف بين الماركسية والدين، هذه المحاولات باءت كلها بالفشل، لأن سياسة الماركسيين وأخلاقياتهم وتشريعاتهم وأساليبهم في التربية وهياكل التنظيمات الإدارية، والنشاطات الفنية، والحريات العامة من وجهة نظرهم، كلها تتعارض مع الدين، وتعلن عليه الحرب الخفية، وتحاول الحد من تأثيره، وضرب أنصاره وعلمائه كلما سنحت الفرصة لذلك، وكان من جراء ذلك ضياع الكثير في الدول التي ابتليت بالفكر الماركسي، أو جعلت من الماركسيين أوصياء على أجهزة الإعلام والتوجيه..
الماركسية إذن لها وجهة نظر بالنسبة للدين، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلنه وتعتبر الدين رجعية وتخلفاً وعقبة كأداء في طريق نموها وانتشارها وسيطرتها، ولهذا كانت الأحزاب الشيوعية دائماً في ناحية والتجمعات الدينية في ناحية أخرى، ولم تكف الشيوعية عن تدبير المؤامرات ضد القوى الدينية، مستخدمة أبشع الوسائل وأحطها، ولا يخفى على أحد تلك التجربة المريرة التي خاضتها الشعوب الإسلامية في علاقاتها مع الشيوعية، فقد كانت القروض التي تقدمها للدول (الصديقة) قروضاً ومعونات مشروطة.. بثمن غال، وكان أول هذه الشروط ضرب الحركات الإسلامية، والتمكين للقوافل الحمراء كي تتولى زمام الأمر في المناصب القيادية والإعلامية، وفتح أبواب السجون والمعتقلات لكل من تحدثه نفسه بانتقاد الشيوعية الدولية أو الدولة الأم (روسيا)، وقد يقول قائل بأن بعض الحكام قد ضربوا التجمعات الماركسية كما ضربوا التجمعات الإسلامية، والواقع أن ما حدث هو صدام مؤقت في بعض الأحيان بين السلطة والشيوعيين، وكانت ظروف هذا الصدام في الحالات التالية:
1 - قد تشم السلطة رائحة خطر داهم يتهددها من الشيوعيين المتطرفين فتبادر باتخاذ الإجراءات التي لا بد منها لحماية نفسها، ومنع تفشي الخطر، هؤلاء المتطرفون لا يشكلون مجمع التكتل الشيوعي وإنما هم فئة قليلة منه، خرجت على إرادة القيادة الرئيسة.
2- أحياناً كانت السلطة تحاول أن تظهر الشيوعية الدولية أنها قادرة على خنق الحركات الماركسية أو تركها لتنمو وتترعرع ومن ثم فهي تلجأ إلى أسلوب من الضغط أو الابتزاز لتنال قدراً من العون أو التأييد عند تخفيف القبضة على التنظيمات الشيوعية.
3- إن افتعال صدام مع الشيوعيين كان يسير في خط متواز مع طبيعة العلاقات بين روسيا والدولة (الصديقة) فإذا ما تحسنت العلاقات، ترك الحبل على الغارب للشيوعيين، وإذا ساءت العلاقات، انعكس ذلك على معاملة الشيوعيين وأذنابهم.
ومع ذلك فإن لحظات التوتر بين السلطات وبين الشيوعيين تعتبر كما قلنا مؤقتة ومحدودة، أما ضرب الإسلاميين والتنكيل بهم فقد كانت سياسة ثابتة لا تتغير، وكأنها هدف متفق عليه، أو لعله الشيء الوحيد الذي لا خلاف عليه بين الماركسيين وأعداء الإسلامية من كل صوب ولون..
والشيوعيون ينظرون إلى التاريخ ويحللون أحداثه ومراحله من خلال نظريتهم، وفي ضوء المادية الجدلية، وصراع الطبقات، والعامل الاقتصادي الذي يعتبر في نظرهم العامل الرئيسي إن لم يكن العامل الأوحد، ولذلك نراهم يعتدون على كرامة العلم والعلماء، ويكتبون التاريخ من وجهة نظر ضيقة منحرفة، فزيفوا الحقائق وشوهوا البطولات، ولوثوا المبادئ العظيمة، وداسوا القيم الرفيعة، فالجهاد في نظرهم عدوان واستعمار، ونشر الدعوة والأخلاق الفاضلة تخلف ورجعية، والتراث الديني خرافات ومتاهات وتخدير للشعوب، والحديث عن الله والعبادات والشعائر مضيعة للوقت وهوس وسلبية.
وقد طبقت هذه السياسة بحذافيرها في الجمهوريات والدول الإسلامية التي ابتلعتها الشيوعية مثل تركستان الشرقية والغربية وغيرها، فقد أحيلت المساجد إلى أندية ومقار للحزب، إن لم تهدم على رؤوس المصلين، وأحرق الكثير من المصاحف وكتب التراث، وسيق العلماء إلى الموت أو العمل في معسكرات السخرة أو المنافي البعيدة في سيبريا حيث البرد والموت والعذاب، وديست القيم الفاضلة والأخلاق.
ولا أعتقد أن هناك عاقلاً ينكر جو الرعب والإرهاب والبؤس الذي يشيعه الحكم الشيوعي أو النفوذ الشيوعي في أي بلد من بلدان العالم، بل إن مجرد الخلاف في بعض الأمور السياسية بين بعض بلدان المعسكر الشيوعي نفسه، قد دفع روسيا لسحق المجر وتشيكوسلوفاكيا، فأريقت الدماء، وأذيق الناس ألوان العنت والشقاء، هذا في عقر دارهم فما بالك إذا كان الصراع مع غيرهم الذين لا يتفقون معهم في خط من خطوط فلسفتهم الفكرية؟؟
ولا يستطيع منصف أن يؤمن بضرورة التصفية الدموية في صراع الطبقات مهما كان الهدف، ومهما كانت الغاية، إن للإنسان حقاً في الحياة الحرة الشريفة، وله كل الحق في أن يعبر عن أشواقه وآماله وآرائه، فحياة الكبت والرعب ليست بحياة، وإذا لم يدرك العالم هذه القضية الخطيرة، فإن مستقبل الجنس البشري كله – وليس الإسلاميون وحدهم- مهددون بكارثة عامة لا مهرب منها ولا نجاة.. وإذا كنا نحمل على الصليبية الاستعمارية حملات شعواء، فإن حملتنا على الشيوعية يجب أن تكون أشد وأعنف وبعض الشر أهون من بعض.
وعداء الشيوعية للإسلامية لا يتوقف عند حد النصوص والمقتطفات الواردة في كتبهم ونظرياتهم، التي جمعها وشرحها الكثيرون من كتاب الإسلام، العداء لا يتوقف عند تلك النصوص، وإنما تحول إلى سياسة دائمة، فتاريخ روسيا مع دول العالم الإسلامي حافلة بالعدوان والحقد، فقد كانت روسيا ثاني دولة اعترفت بإسرائيل عند إنشائها، ولما عقدت أواصر الصداقة المزعومة بيننا وبينهم، ظلت تعطي إسرائيل الكفاءات والمهارات على صورة مهاجرين يهود، وكانت أمريكا تفتح مخازن السلاح الحديث لإسرائيل وتقدم لها المعونات الهائلة، في الوقت الذي تقدم لنا روسيا سلاحاً محدوداً لا يكفي لمجرد الدفاع، وتقبض الثمن بأرباحه المركبة، وعندما احتدمت المعركة في أكتوبر 1973 وقفت وقفة الغدر والخيانة، برغم ما نزحته من أقواتنا وأرزاقنا ومواردنا إلى بلادها.. إسرائيل تأخذ السلاح بالمجان، ونحن نشتريه بعرقنا وأقواتنا.. بل نشتري فقط ما تسمح به الشيوعية الدولية.. تلك التجربة المريرة لا يمكن أن تنساها الشعوب المسلمة التي تحارب في معركة مصيرية مع الصهيونية العالمية..
عداء الشيوعية للإسلامية عداء نظري وعلمي.. ولا يمكن أن تمد يدها لنا إلا إذا قصدت من وراء ذلك مصلحة من المصالح.. فليست صداقتها صداقة مبدأ أو عقيدة، ولكنها علاقة آثمة قائمة على المكر والخديعة والتسلل الخبيث حتى تتمكن وتضرب ضربتها وتفرض السيطرة الحمراء، وقد تكون علاقاتها بهدف تجاري بحت فتأخذ ما تحتاجه من دولنا، أو تفتح لمنتجاتها أسواقاً لدينا، أو لتبيع لنا الفائض من سلاحها، أو توقعنا في قبضة ديونها حتى تتحكم في مصائرنا.. والبون شاسع بين العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وبين العلاقات الروسية العربية مثلاً. نحن لا ننكر أن لأمريكا أهدافاً بعيدة أو قريبة تؤثر في خطها السياسي وفي توزيع معوناتها وقروضها الطويلة الأجل ذات الربح البسيط، المهم أن تلك الدول أو هذه تجعل مصالحها فوق كل اعتبار، لكن الكراهية للإنسانية والعداء لها أمر متفق عليه لدى الجميع، ذلك العداء هو العامل المشترك الأعظم في نظرتهم لنا..
الشيوعية في نظريتها وفكرها ومنهجها وسلوكها عدو لدود للإسلامية، وإذا كانت الرأسمالية تحمي حرية الفرد ونشاطه الاقتصادي، وتساعد على الاحتكار والتحكم في أرزاق الطبقات الدنيا، وتستسلم لأهواء رجال المال، وتجعل من رأس المال قوة مؤثرة في السلوك السياسي والاجتماعي، وتطحن المجموع على حساب الفرد، إذا كانت الرأسمالية كذلك، فإن الشيوعية تسحق الفرد من أجل مصلحة المجموع وترهقه بالأعباء والقهر وتنزع حريته الشخصية، وتسوق الناس كالقطعان إلى العمل والإنتاج، وتجعل للحزب ميزات وحقوقاً مقدسة، وتؤرث الطبقية في مستويات الحزب والسلطة، باسم توفير لقمة العيش للجميع حتى وإن أهدرت حرية الفرد وكرامته، ذلك التطرف في الحكم من جانب الرأسمالية يميناً، ومن جانب الشيوعية يساراً، يؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي، ويبعث الاضطراب والفساد في جنبات الحياة السياسية والاجتماعية وينحرف بالمسار الطبيعي لنمو المجتمع وسعادته وأمنه، ويقضي على روح العدالة والإخاء والمحبة.
أما الإسلامية فقد كانت نظرتها إلى الأمر أعمق وأعدل، فقد أعطت للفرد حقه، كما حفظت حقوق المجتمع، فأعطت الفرصة للمواهب الفردية كي تترعرع في ظل المحبة والحرية، وفي دائرة الحقوق والواجبات، ثم إنها قد أكدت العلاقات الإنسانية الأخوية السامية بين الأفراد، ومن هنا كان هدفها صنع المجتمع السعيد من مجموع الأفراد السعداء، فلا طغيان من جانب على الجانب الآخر، ولم تجعل الإسلامية الانتماء للحزب والإخلاص له هو الصفة التي تترفع بهذا وتهوي بذاك، وإنما جعلت التقوى والانصياع لأوامر الله هي التميز الذي يجعل للفرد مكانة سامية في الدنيا، وثواباً ونعيماً في الآخرة، وإذا كانت المكاسب الدنيوية هي مطمح الشيوعية والرأسمالية، فإن الإسلامية قد جمعت بين الخيرين، خيري الدنيا والآخرة "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض"(1).
هذه التعادلية، أو هذا التوازن الإسلامي الذي راعى مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، هو سر النجاح المذهل، والمنجزات الرائعة التي حققتها الحضارة الإسلامية في الماضي، وفي مقدور تلك الحضارة أن تحقق ذلك النجاح وتلك المنجزات كلها أعطيت الفرصة لها، في أي زمان من الأزمنة، وفي أي مكان من الأمكنة، وليس هذا بعجيب، فالمذاهب الأرضية من رأسمالية وشيوعية كلها من صنع البشر، وتعبر عن أهواء وظروف وتصورات مؤقتة، أما الإسلامية فإنها من صنع الله الذي خلق كل شيء، وهو العليم بطبائع الناس، وأسرار الخلق، وحركة المجتمع، والعوامل المختلفة التي تؤثر في سلوك الناس ونوازعهم أفراداً وجماعات..
إن ارتباط مناهج الفكر والسلوك بالعقيدة الدينية أمر له أهميته القصوى، فالفرق شاسع بين إنسان يعمل في هذه الدنيا وليس وراء عمله إلا تحقيق الكسب والسعادة على وجه الأرض، وإنسان آخر يدرك أن الجزاء الحق، في عالم آخر غير هذا العالم الذي يعيش، فالأول له أن يكذب أو يختلس أو يظلم، ولا خوف من شيء يناله، اللهم إلا بعض القوانين الوضعية التي كثيراً ما يفلت منها، أما الثاني فهو يعلم يقيناً أن هناك إلهاً يرى ويسمع كل شيء، ويعرف خبايا النفوس ونوازعها، ويضع الموازين القسط ليوم القيامة، ويحاسب الناس حساباً دقيقاً لا مجاملة فيه ولا تحيف، ولا شك أن خلو المناهج الفلسفية والأخلاقية من هذا الوازع يورث الناس الكثير من الفوضى والتجبر والأنانية، فتنبت المفاسد والمظالم التي لا حصر لها، وتقود العالم إلى الفناء والدمار.
إن أغلب ما كتبه الماركسيون عن الإسلام جاء بعد وضع نظريتهم، ولذلك حاولوا أن يعتسفوا البراهين، ويختلقوا الأدلة لإثبات صدق نظريتهم وفساد ما عداها، ولو أن الأمر سار في مجراه الطبيعي ووضعوا أيديهم على أسرار الشريعة الإسلامية، وفهموها حق الفهم لوفروا على أنفسهم الكثير من الجهد والعناء، ولحافظوا على أرواح الملايين التي أزهقت عبثاً، ولكفوا أنفسهم مؤونة التدمير والخراب الذي شاع في بداية وأعقاب الثورة الماركسية العمياء.
وتعصب الماركسية الأعمى لنظريتهم جعلهم يغلقون أعينهم عن كل مذهب أو فكر مغاير، فلا يتناولونه إلا بقصد التجريح والتخريب والتفنيد، أي أن لديهم نية مسبقة، وحكماً جاهزاً يصدرونه ضد أي اتجاه يخالف اتجاههم، وهذا منهج أبعد ما يكون عن الموضوعية والإنصاف، وإذا كانت موجهات الضعف والتمزق التي انتابت المسلمين في ديارهم تعتبر دليلاً ضد الإسلامية، فإن ذلك الاستنتاج خاطئ من أساسه، لأن العيب ليس عيب الإسلامية، ولكنه عيب الرجال الذين حملوا مبادئها وشعارها، فهؤلاء المسلمون المتقاعسون قد تخلوا عن مبادئهم، وبعدوا عن أهدافها ومراميها ولم يلتزموا بالعمل بها ولها، وتركوا العنان لأهوائهم ومطامعهم، فأصبحوا مسلمين اسماً لا فعلاً، ولهذا نستطيع أن نقول: إنهم أوقفوا العمل بتطبيق الفكر الإسلامي، وأصبحوا في الواقع دون انتماء له، فكانوا كمن يحمل السلاح ولا يعرف كيف ومتى يستعمله، أو كالمريض الذي يحمل ألواناً مختلفة من الدواء، ولا يدري ماذا يستعمل ولا كيف يستعمله، أو كمن يملك الأرض الصالحة للزرع ولديه البذور والماء والسماد، ولا يفكر في بذر البذور، أو تمهيد الأرض والاستفادة منها، هؤلاء المسلمون المتقاعسون ليسوا حجة على الإسلام، فهم يقفون – بغفلتهم وجهلهم- في صف أعدائه فالخطأ إذن ليس خطأ المبادئ ولكنه غفلة الرجال عن تلك المبادئ وعظمتها...
ومع ذلك فقد كان يوجد في كل عصر فئة من الرجال الأفذاذ والعلماء العمالقة، استطاعت أن تقف في وجه الطوفان، وتطلق نداءات التحذير، وتدعو بالعودة إلى الإسلامية، لأن فيها الخلاص والحرية، وفيها الشفاء لكل أدواء المجتمع وتخلفه، هؤلاء الأبطال ما زال التاريخ يحفظ لهم أنصع صفحاته، ويسجل لهم بالفخر والاعتزاز مواقفهم الخالدة في الدفاع عن حوذة الدين وتراثه وقيمه العريقة.. كما استطاعوا أن يتطوروا مع الزمن، ويحاربوا جمود الفكر والتعصب، وظلوا مستميتين في مواقعهم لا يرهبون بطشاً ولا وعيداً، ولا يعبأون بإرهاب أو تعذيب. "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا"(2) هؤلاء لم تغرهم الدنيا ببريقها، ولم تستهوهم البدع المستوردة، ولا الحيل الخبيثة، فما انصرفوا عن الجادة، ولا حادوا عن الطريق بل ظلوا أمناء أوفياء لعقيدتهم ودينهم، ولا شك أن هذا الصمود المذهل يعتبر معجزة في حد ذاته، لأن تكاثر الأعداء، وامتلاكهم لناصية القوة والقول، واستعدادهم بكل فتاك وقاهر من السلاح والأدوات الحديثة الجهنمية، واتباعهم أحدث الأساليب الفكرية والدعائية، وتربعهم في مواقع الحكم والسلطة، لأن كل ذلك لم يمكنهم من القضاء على الإسلامية وتغلغلها في النفوس، والاحتفاظ بنفوذها وتأثيرها على العقول والأرواح.. "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"(3).
الإسلامية إذن لا تحابي الأغنياء على حساب الفقراء، ولا تمالئ الفقراء لضرب الأغنياء، ولا تضع بذور حرب شعواء بين الجانبين، ولا تنمي مشاعر الحقد والصراع الدامي بينهما، فالأغنياء والفقراء إخوة في الله، لكل منهما حقوق وواجبات مستمدة كلها من كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد المجتهدين المخلصين من علماء المسلمين، ولو أمكن تطبيق الإسلامية تطبيقاً صحيحاً لما كان هناك وجود لمشاعر الأنانية والحقد بين أفراد المجتمع المسلم، وللحاكم المسلم الحق أن يرعى ذلك التوازن الاجتماعي والاقتصادي بالأسلوب السليم النابع من المفاهيم والتصورات الإسلامية القويمة، وعلى علماء الأمة أن يجتهدوا في ذلك ما وسعهم الاجتهاد حتى يحفظوا لذلك التوازن سماته وآثاره الإيجابية البناءة..
نعود فنقول: إن الماركسية من ألد أعداء الإسلامية..
وأن ذلك العداء يتزيى بمسوح العلم والموضوعية، وهو أبعد ما يكون عن المنهج العلمي أو الموضوعية المنصفة.
وإن ذلك العداء مرتبط بنظرة كل منهما إلى الآخر..
فالماركسية أرض والإسلامية سماء.. وشتان بين الأرض والسماء،
والماركسية أفرزتها عقول مسممة مريضة حاقدة، والإسلامية قد نزل بها الوحي من عند الله خالق الأرض والسماء، وهي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
والماركسية تجربة مريرة تنضح بالظلم والقسوة وسحق إرادة الإنسان وكرامته وحريته، والإسلامية تجربة حية، تتألق بكل نبل ووقار ومحبة وطهارة وعدل،
والماركسية سيف مسلط على رقاب العباد، يستغلهم ويستعمرهم ويستنزف ثرواتهم باسم الطبقات الكادحة، ويوقع بهم الإذلال والخوف، أما الإسلامية فهي "رحمة مهداة"، تدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وتفتح البلاد لتشرق عليها أنوار العدل والإخاء والإيثار، ولا تكرههم على اعتناقها بل "لكم دينكم ولي دين"(4)، والجميع شركاء في العمل والخير والرزق، تنظم العلاقات الأخوية بينهم قواعد ومبادئ نزل بها الروح الأمين..
وإذا كانت الماركسية دنيا، فالإسلامية دنيا ودين وآخرة..
وإذا كانت الماركسية قوانين صارمة جائرة، فالإسلامية ضمائر حية، وشرائع رحيمة، لا تجنح للهوى، ولا تميل مع شطط النفس وانحرافها وعقدها السوداء..."صبغة الله ومن أحسن من الله صبغةً"(5).
إنه أمر مستحيل الوقوع، فليوفر فلاسفة الماركسية جهودهم الماركسية بالإسلامية؟؟
إنه أمر مستحيل الوقوع، فليوفر فلاسفة الماركسية جهودهم الضائعة في سبيل خداع المسلمين، وليجمعوا أوراقهم ومؤلفاتهم المتناقضة وليذهبوا بعيداً عن ديارنا، فلن يفرط المسلمون في عقيدتهم مهما كان الثمن، ومهما كانت الظروف، لأن المسلمين يؤمنون أن الخير كل الخير في استمساكهم بعقيدتهم، وأن فيها الخلاص حينما تتأزم الأمور، ويشتد الكرب، ويتكاثر عليها الحاقدون والطامعون، وأن النكسات التي تصاب بها الشعوب الإسلامية ليست كوارث أبدية، وإنما هي مجرد صدمة ليفيق الغافلون، ويتنبه النائمون، وعندما تأتي اليقظة الكبرى فسوف تندثر كل الترهات والأكاذيب، وتنمحي كل ألوان الزيف والأباطيل، وتصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى..
وما ذلك على الله ببعيد...
(1) القصص آية 77
(2) الأحزاب آية 23
(3) الحجر آية 9
(4) الكافرون آية 6
(5) البقرة آية 138