قراءة في ديوان صيف يوناني لصالح دياب
مجازات جديدة:
د. محمد السيد إسماعيل
في ديوانه الثاني صيف يوناني الصادر عن دار ميريت بالقاهرة للشاعر السوري صالح دياب المقيم في باريس، يستكمل ما قد بدأه في ديوانه الأول قمر يابس يعتني بحياتي حيث نلحظ إن الغربة هي مدار هذا الديوان والدافع الأساسي الذي يكمن وراء أغلب قصائده، ولا يتمثل ذلك فحسب في مجرد الدوال المعبرة عنها: الوحدة، الصمت، الألم، الندم، والتي تطرد اطرادا واضحا داخل الديوان، بل تتمثل في كونها تيمة موضوعية تتداخل مع الخيال الشعري ذاته الذي تتكون من خلاله البنية الشعرية؛ التي يهيمن عليها ما يمكن أن نسميه بالتفكير الاستعاري؛ حيث تأخذ المعنويات صورة تشخيصية واضحة، فإحساس الشاعر بالزمن أو بالأيام ليس إحساسا مجردا بل إدراكا حسيا بكائنات مادية تحيط به، كائنات تمتلك القدرة علي الحركة والحياة في مثل قوله: عابرا، صف الأيام الطويل، المائلة العنق، كوجود مودلياني، أمر بالظهيرة، حيث الأسف يسطع مثل زيتونة .
فلا شك أن مثل هذا التصوير يوحي بثقل الأيام وازدحامها وإحاطتها بالشاعر وهيمنتها عليه؛ كما يتحول الأسف - وهو إحساس داخلي - إلي شيء مرئي لا تخطئ العين سطوعه. وهي سمة غالبة تجعل من تداخل الإنساني والطبيعي أمرا لافتا علي نحو ما توحي به هذه الصورة: كلما أغمضت عينيّ علي رائحتك، أبصر اليد الصغيرة للوردة، أفكاري تزرق، تصير طائرات ورقية، قلبي يشرد، أكثر من نافذة .
حيث نجد أنفسنا أمام دوائر ثلاث: الحبيبة، الوردة، الشاعر؛ وهي أطراف تتبادل الصفات، فيصبح للحبيبة رائحة مثل الوردة، وتصبح للوردة يد مثل الحبيبة، كأنهما - وهي كذلك بالفعل في خيال الشاعر - كائن واحد، كما تحمل أفكار الشاعر زرقة الوردة - الحبيبة فتتحرر مثل طائرات ورقية مبتعدة عن أسر الواقع.
كما يصبح نوم الحبيبة أشبه بالملاك الذي يتنزه بحرية افتح الباب، ادخل بهدوء، كي يتنزه نومك، كملاك . كما تتجلي صور الغربة في العديد من قصائد هذا الديوان حيث لا شيء يجدي في هذه البلاد الباردة، ففي مثل هذه البلاد: حيث يدفنون الغابة والحجارة، لا يعني شيئا، أن ترفق يدك مع التحية، أو تطير شفتيك مع القبلة .
إن دفن الغابات والحجارة صورة كنائية عن دفن حياة البشر أنفسهم تحت جبال الثلج المتساقطة، والذي يتعامل معه الشاعر - بفعل الاعتياد - بحيادية وتأمل عقلي: أفضل لي، أن أدلف إلي المقهي، وأتأمل الثلج يسقط فوق حياتي . وكما تبدو الحياة - في الصورةالسابقة - مطمورة بالثلج، فأنها تبدو - في صور أخري - منفرطة متناثرة: أيام حياتي تنفرط، متناثرة، علي السلالم، في كل اتجاه، كعائلة .
وإذا كانت الحياة تحمل شيئا من التجريد في تعبيرها عن الغربة، فإن الجسد يعد علامة مادية تظهر عليها آثار هذا الاغتراب حين يقول: دم كثير، من أول الشهر إلي آخره، علي طول جسدي، يسيل من هذه الموسيقي . وفي مثل هذا الواقع تتحول الأنثي إلي ملاذ قادر علي أن يهب الحياة للشاعر وأن ينقذها من الأعمال الكاملة للثلج وتصبح هي - الأنثي - الطبيعة بأسرها في الطريق إلي البيت، ليست الأشجار سوي نظرتك، كذلك السماء، ضوء ركبتك، لمستك ترفع بيتا للرجاء، تسبب حياتي التي تغادر الأعمال الكاملة للثلج .
ويصبح التفكير فيها وبها وسيلة الهروب من الواقع والاهتداء إلي البيت بما يحمله من معاني الطمأنينة والاستقرار: أفكر بك، في الطريق، لأعرف كيف اهتدي إلي البيت، لأسافر بطمأنينة إلي المساء، وأصل سالما إلي الصباح كما تصبح الأنثي اختصارا للمدينة بأسرها وعلاماتها الشهيرة: أحتاج وقتا، لكي أجد برج إي÷ل في علبة ماكياجك، ونوتردام في الجارور ، بل تصبح هذه الأنثي قادرة علي تبديل حياة الشاعر والطبيعة من حوله، ويظهر ذلك في قول الشاعر: كان عليّ، أن أتمتم باسمك، في مساء كامل، لكي تتوسع هذه السماء قليلا، أن أنظر إلي صوتك، يهب من بعيد، لكي لا تعود العتمة تملأ نومي .
إن صوت هذه الأنثي الذي يطرد العتمة يتناقض مع الصمت الثقيل الذي يملأ حياة الشاعر ويصبح مثل قوس كبير يحيط بكل شيء: صمتنا الذي تقوس، تعبره الآن كل الجسور . أو يصبح مثل إبهام مقطوعة - في صورة أخري - إنني أدخن، لتسهو الوحشة، بينما الصمت ينزف، تحت نظري، مثل إبهام مقطوعة .
وفي مقطع مكتنز بالإيحاءات يلخص الشاعر حياته في الغربة هذه الحياة المحصورة بين القصب والريح بينما القراصنة ينهبون صمته ويتحطم مجدافه الكبير، ولا تصنع رسائله الكثيرة - أو محاولات تواصله مع الآخرين - مرفأ يستريح عنده، وتصبح حياته غارقة في العتمة: علي كتفيك، آحاد ثقيلة، وإلي يديك سالمة تأوي العتمة، ها أنت تخرج من كهف إلي كهف، لتزرع أملاحا، علي الصخور .
غير أنني أريد أن أتوسع في مفهوم الغربة هنا، لأنها - في تصوري - ليست مرتبطة بالمكان، بل هي غربة وجودية مرتبطة بالإنسان علي اختلاف أماكن وجوده. وربما كانت دالة البحر ومصاحباتها اللفظية: المد، الجزر، الشواطئ، الصخور، الأملاح، الجزيرة، القراصنة، والتي تشيع داخل الديوان؛ رمزا كبيرا علي هذه المتاهة التي يستشعرها الإنسان أيا كان جنسه أو مكانه.
كما يصبح الصائد في ارتحالاته الدائمة وخساراته العديدة رمزا للإنسان في عمومه، حيث يقدم الشاعر الصيادين علي هذه الصورة: علي الطاولة، يتبادل الصيادون مع ذكرياتهم، الشباك الممزقة، النسيم لا يهب إلا ليشعل خساراتهم ، وتفقد الأشياء ارتباطاتها الشرطية التي تعد من علامات اهتداء الإنسان في حركته، ويعقد الشاعر علاقة توازٍ دلالي بين افتقاد العناصر الطبيعية لتلازماتها وعلاقته هو ذاته بالزمن، ولنتأمل هذه السطور: النوارس، ليست بالضرورة الدليل الجيد إلي البحر، والشتاء يتلصص كل لحظة من المتاريس ؛ حيث يبدأ المقطع بالنوارس في دلالتها علي الحرية والفضاء الرحب، لكنها تفقد العلامة الإشارية علي وجود البحر مما يجعل حركتها أقرب إلي التشرد والمتاهة، ثم ينتهي المقطع بالمتاريس بكل ما تحمله من دلالة الحصار وتقييد الحركة، هذه الصورة الكلية التي تجعل من عناصر الطبيعة مكوناتها الأساسية، تتوازي مع علاقة الشاعر بالزمن التي تعبر عنها السطور اللاحقة مباشرة: علي النمط ذاته، الأسبوع يقلع بصعوبة، من الأسفل، النهار ينظر إليّ، بعيون الغرقي . حيث نلاحظ حركة الزمن البطيئة في مقابل حركة النوارس، وعيون النهار الغرقي التي تتوازي مع تلصص الشتاء من خلال المتاريس.
والحق أن هذا الأسلوب الشعري الذي يبدأ بالطبيعة وينتهي بالذات يعد نمطا شائعا في الديوان، فالشاعر لا يعبر عن ذاته مباشرة بل من خلال وسيط طبيعي أو مادي؛ وهو أمر يتجاوز فكرة المعادل الموضوعي الذي نادي به إليوت، حيث لا يتوقف شاعرنا عند هذه المعادلات الطبيعية الموضوعية بل يحرص علي عقد علاقات دلالية بينها وبين تجربته الخاصة سواء مع الزمن أو مع الأنثي؛ علي نحو ما نلاحظ في هذه الصورة: السفينة تعبر مضيقا، الزرقة ترتفع حتي أشجار الصنوبر، ثم يأتي نورس، يجمع الوداعات من الهواء، ويعيدها إلي الأيدي ، تبدو الصورة كما لو كانت تعبر عن حالة انفراج، في حين تعبر السطور اللاحقة التي تقدم التجربة الذاتية للشاعر في صورة مناقضة علي عكس العلاقة السابقة التي كانت تقوم علي التماثل، ففي السطور اللاحقة نقرأ: هذه الجزيرة، حيث النهارات تتقيح، مثل عودتي المرمرية، في السقيفة، حيث لا ملجأ تأوي إليه، في غيابك، نظراتي .
إن تقيح النهارات داخل الجزيرة المحاطة بالبحر إيحاء بالعزلة وافتقاد التواصل يعد تمهيدا لتجربة الشاعر في غياب حبيبته حيث لا تستقر نظراته علي مكان تأوي إليه وسط هذا الفراغ الكبير. مما يجعل المفارقة عنصرا فاعلا داخل البنية الشعرية في أغلب قصائد هذا الديوان ليس فقط علي مستوي المقطعات الشعرية بل أيضا علي مستوي السطور المتلاحقة، كما يبدو في قوله: الطمأنينة في مرورها تخلف ندوبا حيث تبدو مقدمة الصورة مناقضة لنهايتها.
وتعد السخرية مستوي من مستويات المفارقة، فإحساس الشاعر العدمي بالحياة وتعامله معها تعاملا استهلاكيا يدفعانه إلي السخرية منها وإسقاط جلالتها المزعومة علي نحو ما يبدو من قوله: أستعمل السبت والأحد، لكي أتأكد أن الحياة دلفت خلفي، مع كلبة الجيران . إن التفاعل الخلاق مع الحياة هو الذي يمنحها معناها ولونها الحقيقي، فالحياة بعناصرها الطبيعية والمادية ليست شيئا منفصلا عن الذات؛ بل تكمن - حقيقة - في الإحساس بها ويظهر ذلك في مثل هذه الصورة: قريبا جدا، من المقهي المغلق، فوق الميناء، ليس سوي النوارس، تروح وتجيء، لا ينقصها سوي نظرتي، كي تصير بيضاء .
وهكذا نري في هذا الديوان تداخلا واضحا بين الإنساني والطبيعي لتقديم رؤية شعرية معبرة عن تجربة الشاعر ليس فقط في تلك الأماكن البعيدة بل في مواجهة الحياة.