رؤية مقاصدية للأدب والنقد
ملخص لبحث موضوعه
د. سعيد الغزاوي*
للمشاركة في ندوة " إسلامية الدراسات اللغوية والأدبية وتطبيقاتها "
بالجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا
كلية معارض الوحي والدراسات الإسلامية
قسم اللغة العربية وآدابها
منهجية العرض :
1 – مقاصد البحث .
2- مدخلات إلى الرؤية المقاصدية للأدب والنقد .
3- الرؤية المقاصدية .
4 – الرؤية المقاصدية للأدب .
5 – الرؤية المقاصدية للنقد .
1 – مقاصد البحث :
قبل الحديث عن الرؤية المقاصدية للأدب والنقد ، نوضح بعض مقاصد هذا البحث في ندوة " إسلامية الدراسات اللغوية والأدبية وتطبيقاتها " ، فبسبب التصور القديم للعلوم الإسلامية بوصفها جزءا من العلوم الإنسانية ، وبدعوى التخصص ينظر إلى الأدب والبلاغة والنقد بوصفها خارجة عن العلوم الإسلامية ، مما ترتبت عنه صورة لها باعتبارها نوعا من الترف أو الكماليات التي لا تلزم المتخصص في العلوم الإسلامية ، بل اعتبرت ضوابطها وقواعدها ومقاصدها خارجة عن هذه العلوم كذلك .
فلنصرح إذن بأن المقصد الأول لهذا البحث هو تصحيح انتماء الأدب والبلاغة والنقد والعلوم الإنسانية ، بل كل العلوم ، حتى تستظل بظلال العلوم الإسلامية ، وتنضبط بضوابطها ، وتتقصد بمقاصدها . ونحن ننطلق من هذا المقصد باعتبار الأدب ركيزة من ركائز الدعوة إلى جانب ركائز التفقه في الدين والتفقه في الدعوة . بل إننا ندعو إلى ما نسميه فقه الأدب حتى نحسن استعماله في مجال الدعوة باعتبار فاعليته في النفاذ إلى القلوب والعقول ، وتنفيذا لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المروي عن أنس بن مالك أنه قال : " جاهدوا المشركين بأنفسكم ، وأموالكم ، وألسنتكم " فالجهاد ضروري والأدب ممثلا في الشعر واحد منها .
ينظر الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا إلى ما يروى لأبي هريرة من قص لشعر عبد الله بن رواحة نظرة مقاصدية فيقول :
"فأبو هريرة يقص يوم الجمعة في المسجد ، والقص في الاصطلاح إنما هو الوعظ والإرشاد والتذكير ، ومن شأن الوعظ أن تكون فيه آيات من كتاب الله ، ومختارات من حديث رسول الله ، ونبذ من روائع الأخبار ، وقد أضيف إليه عنصر الأدب ممثلا في الشعر . وكان الذي جمع القرآن والحديث والشعر على ما بين هذه الثلاثة من تفاوت كبير في القيمة والرفعة أنها جميعا إيمانية الغاية ربانية الاتجاه "( نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد ) ص 10 .
أدعوكم إلى التأمل في قوله : " إيمانية الغاية ربانية الاتجاه " لأنها تؤكد بعض مقاصد هذا البحث بإعادة الأدب إلى محضنه داخل العلوم الإسلامية قرآنا وحديثا، وتفسيرا وفقها ، وغيرها من العلوم الإسلامية ، ولنخط نحو الخطوة الموالية في هذا البحث :
2 – مدخلات إلى الرؤية المقاصدية للأدب والنقد :
سوف نستعير مصطلح " المدخلات " من حقل الإعلاميات الذي أصبح علما ضروريا لكل متعلم . ونقصد به المعطيات التي يتم إدخالها إلى موضوع من الموضوعات المعروضة للمعالجة ، ثم ننظر إلى مدى تفاعل هذه المعطيات معه ، ونختم بالنظر إلى ما حصلناه من " المخرجات " التي نعني بها اصطلاحا نتائج التفاعل بين المعطيات والموضوع .
2-1- مدخلات قرآنية :
يقول الله تعالى : " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " " المؤمنون / 115 " .
ويقول عز وجل : " ن والقلم وما يسطرون " " القلم / 1 " .
ويقول عز من قائل : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " " ق / 18 " .
ويقول جل جلاله : " وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد " " الحج / 24 " .
ويقول تعالى : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " " الأنعام / 112 " .
ويقول عز من قائل : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين " " لقمان / 6 " .
ويقول جل جلاله : " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان " " الرحمن / 14 " .
2-2- مدخلات حديثية :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .......... الحديث " رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وقال عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة ......... الحديث " رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " " رواه البخاري ومسلم والترمذي و الدار مي ومالك وأحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام : " أفضل الجهاد كلمة عدل أو حق عند سلطان جائر ." " رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة " .
2-3- مدخلات أدبية عربية :
قال الشاعر عبد الرحمن عبد الوافي في مقدمة ديوانه " ملحمة الشهيد " : " إن الإسلام الذي تتأسس على تصوراته مضامين القصيدة الإسلامية يعتبر رسالة حضارية ربانية ماضية في الأرض إلى قيام الساعة . الأمر الذي يجعله بمنجاة من الإفلاس الذي آلت إليه إيديولوجيات شتى , فإنه لا يسعني هنا إلا أن أخاطب الشعراء الحداثيين قائلا : " أما أنا فلا أعزل صاحبي بل أثبته " .وهل صاحبي سوى الإسلام بما هو دسن وسياسة في جدله الدائم مع الإبداع ؟ " .
وقال الشاعر عصام الغزالي في مقدمة ديوانه " هوى الخمسين " : " يا شداة الشعر ، قيسوا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قامت القيامة على أحدكم وفي شفتيه لحن فليطلقه . " " ص 5 .
بهذه المدخلات / المفاتيح نؤسس للرؤية المقاصدية للأدب والنقد : مدخلات القرآن الكريم الداعية إلى العبودية لله ، والمذكرة الإنسان بأنه خلق لتحقيق هذه العبودية ، وبأنه سيحاسب على قوله الذي هدي إلى الطيب منه حتى يلزمه ، ويبتعد عن زخرفه ولهوه ، وبأن يشكر الله على نعمة البيان التي كرمه بها ، وجعله مباينا لسائر المخلوقات .
كما نؤسس الرؤية بمدخلات السنة النبوية المطهرة التي تدعو الإنسان إلى أن يصحح قوله ويقصد منه نية مخلصة ، ونصيحة صادقة ، وخيرا وجهادا وعدلا .
أما مدخلات الشاعرين عبد الوافي والغزالي فنحقق بها مقصد عودة الأدب إلى الدين ، وقياسه ببيان القرآن وبلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فلنخط صوب الخطوة الموالية جاعلين هذه المدخلات ، ومثيلاتها من القرآن والسنة والأدب ، متفاعلة مع الرؤية المقاصدية للأدب والنقد :
3- الرؤية المقاصدية :
سأكون ضيفا على المتخصصين في العلوم الإسلامية ، فأبدأ بما قرره العلامة علال الفاسي في شأن المقاصد حين قال : " المراد بمقاصد الشريعة : الغاية منها ، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها " " نظرية المقاصد " الدكتور أحمد الريسوني ص 6 .
ثم أميز بين المقاصد العامة والخاصة والجزئية ، فأجعل المقاصد العامة للشريعة حسب كلام علال الفاسي " هي عمارة الأرض ، وحفظ نظام التعايش فيها ، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ، و قيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ، ومن صلاح في العقل وفي العمل ، وإصلاح في الأرض ، واستنباط لخيراتها ، وتدبير لمنافع الجميع " " نفسه ص 7 " .
أما المقاصد الخاصة فأجعلها هي ما هدفت الشريعة إلى تحقيقه في باب معين أو أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع ، مثل مقاصد أحكام العائلة والتصرفات المالية والمعاملات والقضاء والشهادة والتبرعات والعقوبات .
وأما المقاصد الجزئية فأجعلها أحكاما شرعية تنقسم إلى وجوب وحرمة وندب وكراهة وإباحة وشرط وسبب " نفسه ص 8 " .
إنها المقاصد التي عني بها الفقهاء بحكم تخصصهم في جزئيات الشريعة ودقائقها ، فوصفوها بالحكمة أو العلة أو المعنى أو غيرها من المراد فات . " و إذا كانت المقاصد أرواح الأعمال كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله فكيف يعيش الناس بلا مقاصد أي بلا روح ، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح ، إن لم نقل إنه ليس بفقيه ، والمتدين بلا مقاصد متدين بلا روح ، والدعاة إلى الإسلام بدون مقاصد هم أصحاب دعوة بلا روح . " " الدكتور أحمد الريسوني " مدخل إلى مقاصد الشريعة " ص 12 .
وإذا كانت الرؤية المقاصدية إلى الأشياء تحرك النشاط إليها ، وتدعو إلى الصبر والمواظبة عليها ، وتبعث على إتقانها والإحسان فيها ، فإن من وجبت عليه الزكاة وهو لا يدري لها مقصدا ولا يرى لها فائدة يجنيها ، كان إلى التهرب منها أقرب " " نفسه ص 14 " .
أما إذا كان الدعاة أول المحتاجين للمقاصد تحقيقا لقوله تعالى : " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " " يوسف / 108 " ، فإن أول ما تعنيه هذه " الدعوة على بصيرة " هو أن يكون الداعي بصيرا بما يدعو إليه ، أي مدركا لمقاصده ومراميه ، وهذا ما يعضده قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " " النحل / 125 " ، فالإحاطة بمقاصد ما ندعو إليه ، ومعرفة مواضعه ومراتبه ، وما يجوز تأخيره وما لا يجوز ، وما يمكن التسامح فيه حتى حين وما لا يمكن .. هذا كله يستفاد من معرفة مقاصد الشريعة ، والتمييز بينها وبين ما هو من قبيل الوسائل ، والتمييز بين ما هو ضروري وما هو حاجي وما هو تحسيني من تلك المقاصد . " " نفسه ص 17 " .
وإذا انتقلنا إلى تصنيف العلماء هذه المقاصد إلى مراتبها المعروفة فإنهم يصنفونها كما يلي :
3-1- الضروريات الخمس : وهي الأصول أو الكليات التي سبق إليها الإمام الغزالي حين قال : " ومقصود الشرع من الخلق هو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة " " المستصفى " ج 1 ص 287 نقلا عن كتاب المدخل ص 63 " .
3-2- الحاجيات : تطلق على المصالح التي يحتاج الناس إليها احتياجا لا يبلغ إلى حد الضرورة ، ولكن فقدهم لها ينشأ عنه ضيق وحرج ونكد . ومن شأن الاستمرار في فقدها واختلالها إلحاق الضرر بالضروريات نفسها ، ومن هنا كان حفظ الضروريات مقتضيا حفظ الحاجيات . " نفسه ص 63 " .
من أمثلة الحاجيات في حفظ ضرورة الدين ضبط تفاصيل العبادات وتحديد مقاديرها وكيفياتها ، باعتبار أن هذه الضوابط والتفصيلات لا يتوقف عليها في الأمد القريب إقامة أصل العبادة ، ولكن من شأن غياب التفاصيل والتحديدات إحداث بلبلة وغموض لدى المكلفين . " نفسه ص 63 " .
3-3- التحسينيات :
تدخل ضمنها كل مصلحة أو منفعة لا تصل إلى حد الضرورة أو الحاجة ، ولكن فيها إفادة للناس في أي جانب من جوانب حياتهم الدينية والدنيوية : كنوافل العبادات وآداب المعاملات ومحاسن العادات واجتناب المكروهات والدناءات و سفاسف الأمور والعادات ، ومراعاة مظاهر الجمال والتزين من غير إسراف ولا مبالغة . فكل هذه تدخل في المصالح التحسينية المعتبر في الشرع . وهي آداب تؤدي المحافظة عليها إلى إضفاء الكمال والجمال والسمو في الحياة . " نفسه ص 68 " .
أما آخر ما نقرره في هذه الرؤية المقاصدية للمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية ، فهو أن حفظها الشامل يعد أكبر دليل وأظهر حجة للآخذين بالمصالح المرسلة ، امتثالا لقوله تعالى : " وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " " الحج / 77 " . فالآية تأمرنا بفعل الخير أي خير ، وكل مصلحة مرسلة ثابتة فهي من الخير المأمور به . " نفسه ص 68 " .
فكيف يتم تنزيل هذه الرؤية المقاصدية على الأدب والنقد ؟ أوكيف يتم تقصيدهما ؟ وأية رتبة من المصالح يتم التقصيد على أساسها : ضمن الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات ؟ . وهل تجوز لنا بدءا هذه الرؤية المقاصدية للأدب والنقد وقد أخرجا من دائرة العلوم الإسلامية بفعل مؤامرة التغريب التي نغتر فنسميها عوامل النهضة ، ونؤرخ بها للعصر الأدبي الحديث والمعاصر ؟ لنخط صوب الخطوة الموالية ، مصحوبين بهذه الأسئلة ، حتى نكشف خيوط المؤامرة ونعود بالأدب إلى محضنه الإسلامي الذي تأسس عليه منذ بداية الدعوة الإسلامية:
4- الرؤية المقاصدية للأدب :
رغم جدة هذه الرؤية عند المشتغلين بالأدب والنقد ، فإن استقراء الكتابات التنظيرية تفاجئنا بوجود إشارات وتلميحات إلى المقاصد والمرامي والمعاني لكن في صورة مرادفات لعلة وجود الأدب والنقد :
لذلك فنحن حين ندعو إلى الأدب الإسلامي فإننا نقصد ذلك الأدب المستمد من الإسلام عقيدة ورؤية ومنهاجا وبيانا ، متأسين بتنفيذ رسولنا الأكرم ، صلى الله عليه وسلم ، للأمر الرباني الوارد في قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " " التوبة / 125 " ، فالتأويل السليم لهذه الآية يعني اعتماد الدعوة مقومين اثنين هما الحكمة والموعظة الحسنة ، وهما قوام الأدب والجناحان اللذان يحلق بهما في سماء الدعوة إلى الله تعالى ، تأكيدا لقوله عز وجل في آية أخرى : " أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " " النساء / 63 " .
يقول الزمخشري ، رحمه الله ، في تفسير هذه الآية : " أي قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم ، يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا " " الكشاف ج1 ص 537 " .
هكذا نستنبط أن ما أمر به الرسول الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده سائر الدعاة الأدباء المسلمين ، يتجاوز البلاغ بمعنى وصول القول ، إلى أن تكون من صفته التأثير في النفس ، وهو ما لا يتحقق إلا حين يكون قولا أدبيا مبينا .
تأسيسا على ما سبق ، وإذا كان القرآن الكريم بلاغا وبيانا ، فإن مقصد الأدب أن يكون على شاكلته بيانا لأمر الدين ، وهدى وموعظة ، وأداة طيعة بيد الدعاة / الأدباء حتى يحققوا مقصدهم من الدعوة ، أي التأثير في النفوس ، وتوجيه القلوب وإرشادها إلى الخير دنيا وآخرة .
إذا لم نقتنع بهذه الرؤية المقاصدية للأدب ، فلننظر في كتاب " هكذا يربي اليهود أطفالهم " الذي تشير مؤلفته الدكتورة سناء عبد اللطيف إلى إدراك اليهود مقاصد الأدب ، وفاعليته فيما يكتبون لأطفالهم ، حتى يصوغوا عقليتهم ، ويجعلونهم قادرين على اتباع آبائهم وأجدادهم ، فيرسخون في عقولهم الصهيونية الحاقدة على العرب والمسلمين ، بل البشرية جمعاء .
أما إذا اقتنعنا بجدوى هذه المعالجة المقاصدية للأدب ، فلندعم قناعتنا هاته بما تقدمه العقيدة الإسلامية نفسها لهذا الأدب ، لأنها حسب عبارة الدكتور عماد الدين خليل : " بانقلابها على سائر الجاهليات والوثنيات ، منحت الفن منظورا توحيديا " " الفن والعقيدة " ص 11 .
وهو المقصد الذي استوعبه المفكر رجاء غار ودي فلخصه في عبارة تصويرية جميلة حين قال : " كل الفنون تصب في الجامع ، والجامع يحمل على الصلاة . " " وعود الإسلام " ص 145 .
من مقاصد الأدب كذلك الاستدلال على وجود الله ، لأن الأديب يربي إحساسنا بالجمال والزينة والتأمل في آيات الله التي أبدعها وبثها في الكون ، ودعا الإنسان إلى النظر فيها .
ومن مقاصد الأدب والفن الإيمان والعمل الصالح ، حيث يؤول الدكتور أحمد محمد علي قوله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا . " " الشعراء / 224 227 " .فيستنبط مجموعة من المقاصد من هذه الآيات حين يقول : " في صدر هذه الآية وصف لواقع الشعراء ، وفي آخرها توجيه لطاقات الشعراء وملكاتهم إلى منحى الإيمان والعمل الصالح لتكون طاقات بناءة " " الأدب الإسلامي ضرورة " ص 31 .
ومن مقاصد الأدب والفن عموما " التعبير عن المجتمع الإسلامي وعن وجدانه ومشاعره وأحاسيسه وتصوراته التي كونتها عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه وآدابه ونظامه وتراثه الغزير " " الأدب الإسلامي ضرورة " الدكتور أحمد محمد علي ص 56 . كما أن من مقاصده التعبير عن الشخصية الإسلامية وصياغتها والدعوة إلى تبنيها .
ومن مقاصد الأدب العربي تصحيح مسيرته ، حتى يصل حاضره بماضيه ، ويشحنه بالصدق والانسجام مع المشاعر والنفوس ، ويستبدل المقولة الشائعة " أعذب الشعر أكذبه " بدعوى ضرورة توفر عنصر الخيال بمقولة يدعونا الدكتور عماد الدين خليل إلى الدعوة إليها وهي " أعذب الشعر أصدقه " .
فإذا حققنا هذا المقصد ، فإننا نؤكد على الارتباط العضوي بين الأدب والأخلاق ، ذلك أن الجمال في الإسلام غير منفصل عن قيم الخير والحق ، بل يمتزج بهما امتزاجا لا فكاك منه ، تنفيذا للأمر الرباني الوارد في قوله تعالى : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " " آل عمران / 104 " ، وتنفيذا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ." رواه البخاري ومسلم . وهو أمر ، كما يقول الدكتور أحمد محمد علي ، ينبغي على الدعاة والأدباء الاستجابة إليه قبل غيرهم ." الأدب الإسلامي ضرورة " ص 80 .
من مقاصد الأدب كذلك التأمل في الكون وتذوق العالم والارتباط بالخالق حتى يستيقن المقصد العميق من قوله تعالى : " الذي أحسن كل شيء خلقه " " السجدة / 8 " .
ومن مقاصد الأدب كذلك البيان الذي تؤطره وتحث عليه الآيات الأربع من سورة الرحمن : " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان " " الرحمن / 1 4 " .
هذه الرؤى المقاصدية للأدب ، التي حاولنا بسطها وشرحها والاستدلال عليها وإيراد بعض الأمثلة عليها ، يقوم فقهاء الأدب ورواده باختزالها في مقصد عام يكاد يحوز على إجماعهم ، وهو : " التعبير الفني الهادف عن وقع الحياة والكون والإنسان على وجدان الأديب ، تعبيرا ينبع من الرؤية الإسلامية للخالق عز وجل ومخلوقاته " ببعض التصرف عن كتاب " نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد " ص 92 .
بقيت أمامنا إشكالية رتبة ضمن المقاصد الضرورية أو الحاجية أو التحسينية . وإذا كان الأستاذ فريد شكري ، أحد أساتذة المقاصد في شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة الحسن الثاني ، قد اقترح المشاركة معنا في إحدى حلقات لجنة الأدب التي كنت أشرف عليها في الجامعة ، اقترح المشاركة بعرض حول " المقاصد التحسينية للأدب " ، مما يعني ترتيبها في الرتبة الثالثة ، وكان الأديب الفقيه محمد موهوب يرجح ترتيبها ضمن الحاجيات التي تحفظ الضروريات الخمس : الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، فإن فقهاء الأدب لا يرضون للأدب إلا برتبة الضروريات : وأحيل بداية على كتاب الدكتور أحمد محمد علي " الأدب الإسلامي ضرورة " ، الذي يحسم فيه أمر الرتبة منذ عنوان الكتاب ، ويبني عليها فصله الثاني في محوره الأول بالعنوان نفسه " الأدب الإسلامي ضرورة " ص 56 .
وأنا أعتقد أن حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، لما كان يرتب ضمن الضروريات الخمس ، وهو ما أوردناه في الرؤى المقاصدية للأدب ، مما يؤكد على ضرورة حفظه . فالمسألة يحسم فيها فقهاء الأدب لأنهم أهل الرأي والاختصاص ، ولعل أدلتهم السابقة من القرآن والسنة والأثر تدعم ترتيبهم الأدب ضمن الضروريات ، مع الإقرار بالحاجة إلى توسيع دائرة الاستشارة والخبرة ، لتشمل الفقهاء وعلماء الأصول والمقاصد . فلنخط خطوة أخيرة نحو النقطة الخامسة والأخيرة من هذا البحث :
5- الرؤية المقاصدية للنقد :
نبدأ بتصنيف الفئة المستهدفة بالنقد إلى فئة الأدباء وفئة الجمهور المتلقي للأدب :
5-1- فئة الأدباء :
يحصر الدكتور أحمد محمد علي مقاصد النقد في توجيه الأدباء : " ما دام أمر الإبداع يقوم على الوعي والإرادة والاختيار ، فلابد من أن يكون للإسلام توجيه لهذه الطاقة المبدعة حتى تسير في مسارها الصحيح ، وحتى يتحقق الانسجام في مسيرة الحياة ، حياة الفرد وحياة الجماعة ، وحتى تصبح طاقة الإبداع طاقة بناءة تضيف إلى بناء المجتمع لبنة بل لبنات . " " الأدب الإسلامي ضرورة " ص 31 .
إنها مدخلات قرآنية تذكر الإنسان عموما ، والأديب المبدع بشكل خاص ، بمسؤولية العبودية لله ، ومسؤولية الكلام الذي يصدر عنه ، ندعمها بمدخلات حديثية ، من أمثلتها ممارساته النقدية التي توجه مقاصد الشعراء.
ومن مقاصد النقد كذلك تحكيم المقياس الفني أولا ، حتى إذا استوفى الإبداع شروطه الفنية داخل جنسه الأدبي ، ننظر فيه بعد ذلك لنرى إن كانت رؤيته إسلامية : " والفيصل في ذلك هو التصور الإسلامي للموضوع المراد التعبير عنه ، وللأدوات المعبر عنها إن كانت لها خصوصيات إسلامية . " " نفسه ص 64 " .
من مقاصد النقد كذلك توجيه الأدباء إلى منهج التعامل مع الغرب : " إن الأخذ عن الغرب جائز ، بل هو ضرورة فنية وحضارية ، ولكن الانصهار فيه .. التلاشي في رؤيته الفنية للكون والحياة والإنسان أمر مرفوض ، ما دام أن الفنان المسلم يمتلك ابتداء رؤيته المتميزة . " " الفن والعقيدة " ص 28 .
من مقاصد النقد ،كذلك ، ترشيد المبدع إلى نظافة اللغة حتى تنسجم مع الالتزام الأخلاقي الطبيعي في الإبداع ، والسمو باللغة باللجوء إلى الكنايات في التعبير عما يستقبح ذكره ، وهذا ما يؤكد على الطبيعة الأخلاقية للأدب العربي . إذا تبنينا هذه الرؤى المقاصدية للنقد في توجيه الأدباء ، فإننا مدعوون إلى تبني مصطلح ( النصيحة ) بديلا عن المصطلح ( النقد ) يقترحه علينا أحد فقهاء الأدب ، هو الأديب الداعية الدكتور عدنان علي رضا النحوي .
5-2- الرؤية المقاصدية للنقد باعتبار المتلقي :
لعل من مقاصد النقد باعتبار المتلقي التفسير والتأويل وتقريب الإبداع من الجمهور . فهم بحاجة إلى فقهاء الأدب الذين يميزون بين خبيث القول و طيبه ، بما رزقهم الله من قدرة على الفهم والتأويل .. فلا ينبغي الوقوف عند ألفاظ النصوص وحرفيتها والاكتفاء بما يعطيه ظاهرها . ببعض التصرف من كتاب الدكتور أحمد الريسوني " مدخل إلى مقاصد الشريعة " ص 8 .
هكذا ندعو إلى الالتفات إلى فقهاء الأدب ، ونوكل إليهم أمر إيجاد نظريات في إسلامية الأدب . وهم لا يختلفون عن بقية فقهاء الأمة إلا بتعمقهم وتخصصهم في القضية الأدبية التي يفتون فيها ، دون الانطلاق من ذواتهم و لا حماسهم .
وبعد ، فهذه محاولة للبحث في الرؤية المقاصدية للأدب والنقد ، لعلها تصوبهما وترد إليهما أرواحهما ، وتردهما إلى ظلال العلوم الإسلامية مثل سائر العلوم ، تهتدي بهديها ، وتتقصد بمقاصدها ، وبذلك تبرأ الأمة من هذا الانفصام النكد ، الذي حدث بين عقيدتها وعبادتها وسلوكها وفكرها من ناحية ، وبين عواطفها ومشاعرها وأحاسيسها وخيالها من ناحية أخرى . والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
* أستاذ النقد الأدبي
كلية
الآداب ابن مسيك /جامعة الحسن الثاني المحمدية
مصادر
ومراجع الدراسة :
1-
2-
السنة النبوية من كتب الصحاح .3-
الزمخشري جار الله " الكشاف عن حقائق التأويل " طبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1972.4- شهاب الدين النويري " نهاية الأرب في فنون الأدب " تحقيق حسين نصار ومحمد جابر عبد العالي مراجعة عبد العزيز الأهواني ومحمد مصطفى زيادة طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976 .
5- الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر " البيان والتبيين " تحقيق وشرح عبد السلام هارون طبعة دار الجيل بيروت .
6- الدكتور احمد الريسوني " مدخل إلى مقاصد الشريعة " مطبعة التوفيق الرباط ط 2 سنة 1417 ه 1997 م .
7-
الدكتور محمد عمارة " الإسلام والفنون الجميلة " دار الشروق بيروت سنة 1999 م .8-
الدكتور رجاء غارودي " وعود الإسلام " ترجمة ذوقان قرقوط مطبعة مدبولي القاهرة 1993 .9- الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا " نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد " جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . الرياض 1405 ه 1985 م .
10- الدكتور عماد الدين خليل " محاولات جديدة في النقد الإسلامي " مؤسسة الرسالة بيروت ط 1 سنة 1401 ه 1981 م .
11- الدكتور عماد الدين خليل " الفن والعقيدة " طبعة مؤسسة الرسالة بيروت ط 1 سنة 1997م.
12- الدكتور أحمد محمد علي " الأدب الإسلامي ضرورة " ط دار الصحوة . رابطة الجامعات الإسلامية . الطبعة الأولى 1411 ه 1991 م .
13- الدكتور عدنان علي رضا النحوي " الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته " طبعة دار النحوي الرياض المملكة العربية السعودية طبعة 4 سنة 2001 م .
14- عباس المناصرة " مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي " طبعة مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ودار البشير عمان الأردن .ط 1 سنة 1418 ه 1997 م .
15- الدكتور عبد الرحمن عبد الوافي " ملحمة الشهيد " منشورات الفرقان الدار البيضاء 1999 .
16- عصام الغزالي " هوى الخمسين " طبعة دار الوفاء القاهرة ط 1 سنة 1419 ه 1999 م .
17- شريفة فتحي " لهب وأمواج " طبعة وزارة الثقافة القاهرة سنة 1964 م .