بيان رقم واحد كاريكاتيريا
قراءة في رواية سعيد الأول والواحد والعشرون لحافظ البرغوثي
توفيق العيسى- رام الله - فلسطين
استخف بقومه... لبس العباءة واستوى على الكرسي، تحسس نياشينه ونجوم كتفيه، لوح بالصولجان فأطاعوه، فابتسم وقرأ عليهم بيان الثورة.
" بيان رقم واحد... أنا ربكم الأعلى فاعبدون"
هو شيخ الجامع وشيخ العشيرة، معلم المدرسة والشاعر وهو الاول والواحد والعشرون.
في عمله الروائي الثاني " سعيد الأول والواحد والعشرون" يروي لنا
الأستاذ حافظ البرغوثي قصة الطغاة الذين ما هبطوا علينا من السماء ولكن أنتجناهم نحن.
منذ البداية عمد الكاتب إلى عرض أسس النظام السعيدي الحاكم، وكأنا به عبر هذا العرض يدخلنا مباشرة إلى جوهر القضية أو الرواية دون مقدمات، سعيد بطل الرواية "يتناول طعامه بنهم كعادته" ويتابع نشرة أخبار التاسعة فيلاحظ جسما غريبا يحوم حول صورته في التلفاز فيتوجس خيفة، لعل القاريء يكتشف هنا أسس هذا النظام القائم على السذاجة والخوف، الخوف الذي سيحيل الدولة ونظام الحكم إلى حكم استبدادي.
فالاستبداد هي مادة الرواية، وإذا كان ومنذ الصورة الأولى التي رسمها قد كشف لنا فحوى الرواية إلا أنه كان كشفا موفقا لم يؤثر على متابعة القاريء لأحداث الرواية ولعل أحد اهم الأسباب التي أدت إلى ذلك هو استخدام الصورة الكاريكاتيرية بكوميديا سوداء غير "ثقيلة الدم" والتي امتاز بها شكل الرواية.
وعودة إلى البداية فان الكشف الذي تحدثنا عنه أدى بنا إلى معرفة افرازات ذلك الحكم وانعكاسه على الحياة السياسية والعلاقة ما بين الرئيس والمرؤس من جهة ومن جهة أخرى بين مجموع أركان الرئيس " سعيد" عبر مبارزة بين أركان النظام في تحديد هوية الجسم المشبوه ومدى خطورته وتبارى المسؤولون في حماية الرئيس بتضخيم الحدث وأهميته طمعا منهم في منصب جديد.
النهم والشراهة هما ما يميز سعيد قبل أن يكون حاكما أي منذ كان اسمه " مغيظ" وبعد أن تحول إلى " سعيد" والطمع هو ما يميز حاشيته والمقربين منه، فشراه ونهم سعيد جعلاه وحيدا في البداية خسر شعبه ثم خسر حتى حاشيته أما الثانية فعلتها تكمن في طمع سعيد وطمع الحاشية معا، فالرواية لم تخل من مشاهد للبطل تعبر عن وحدته واغترابه حتى نهاية العمل التي جسدت هذه الوحدة ومصيره.
الوحدة والمصير تجسدت في مشاهد متنوعة وموزعة باتقان بين الداخلي والخارجي، فمثلما صور سعيد وحيدا عند بركة الماء صور أيضا في صراع داخلي عبر ما يسمى بالمونولوج يحدث نفسه ويطرح الأسئلة ويتذكر حبيبته وأمه وشبابه في شوارع المدينة، كما استطاع الكاتب أن ينسج لنا كوابيسا تعبر عن هذه الفكرة، أي الموازنة ما بين المونولوج والكابوس.
لم يكن يدري سعيد بأن حبه للطعام سيصبح مصدر سعادته، فقد أتاح له الدخول إلى القصر ليلا ابان عملية الانقلاب التي قتل فيها الصف الأول من ضباط الانقلاب ليجد نفسه في وسط المعركة بطلا مضرجا بالدماءمنتخبا من ضباط الصف الثاني قائدا للثورة، فالصدفة والجهل مكنا سعيد من اعتلاء سدة الحكم ولكن ماذا بعد ذلك؟؟
سعيد ساذج وجاهل خائف دوما استطاع أن يركب الجهل ليصل إلى الحكم والاستبداد، بدءا من الصدفة الاولى وحتى اختيار مستشاريه والالتقاء مع الضيوف المحليين والأجانب وتوسيع دائرة علاقاته التي أتاحت له معرفة الكثير وساعدته على توسيع مداركه، ثم نفاجأ بسعيد وقد قرأ للكواكبي " طبائع الاستبداد" والسؤال الذي نطرحه هل سعيد شخصية ساذجة وبسيطة تتحكم فيه الصدف أم شخصية ذكية وعميقة؟
إن جواب هذا السؤال يجعلنا نركز على بناء الشخصية في العمل الروائي، فسعيد يمناز بأنه أقل من عادي فاشل في دراسته " هامل" لذا وظف في الجيش لصقله، انسان يعيش بلا حلم أو طموح وقد يكون اصرار الكاتب على الصاق هذه الميزات بسعيد هو اكمال الصورة الكاريكاتيرية وهي أيضا صرخة احتجاج أمام الجمهور المستكين لسعيد وأمثاله محاولا تفكيك صورة الفرد الدكتاتور وعرضه عاريا كما هو.
حافظ البرغوثي كان منصفا ومنطقيا في بناء شخصية سعيد، فالجاهل والغبي وإن أتيحت له فرصة الحكم والاستبداد فانه سرعان ما ينكشف لذلك كان عليه – أي سعيد- أن يطور ذاته وشخصيته عليه أن يتعلم حتى يستطيع أن يكون الأول والواحد والعشرون.
فسعيد لم يكن مجرد أداة للحكم بيد مجلس الثورة يحكمون من خلفه وباسمه وهذا ما جاء به الكاتب على خلاف عدد من القصص والروايات التي تناولت هذا الموضوع.
نحن وإن تناوبت علينا المآسي والنكبات " محكومون بالأمل" فلو افترضنا ان الكاتب لم يكن ساخرا في روايته ولم يضحك من شدة القهر لأنتج رواية سوداوية وقد تصل إلى درجة التنفير فدولة يحكمها سعيد لا شك بانها " في أسوء أحوالها تقول لا بأس" على رأي مظفر النواب، بارقة الامل الأولى في عمل البرغوثي تتجلى في شخصية عدد من الكتاب والمثقفين الذين التقى بهم سعيد هاربين من الحي الهاديء يتناقشون على احدى المقاهي فعلى امتداد الرواية لم يكن هناك وجود لغير سعيد حتى من حوله ومن يلتقيهم كان يأتي على ذكر بعض تفاصيلهم دون استرسال ونستطيع القول ان بناء الشخصية في الرواية تركز حول سعيد فقط وهذا يعتبر خلل لبعض الروايات الأخرى حين يخرج سعيد متخفيا لمعرفة أحوال البلاد لا نجد للشعب ذكر سوى بعض التلميحات وقد يكون عمد إلى ذلك للتأكيد على الهوية البوليسية والمخابراتية لنظام الدولة فالشعب يتحايل على النظام ويحتج على حياته ولكن بالحيلة، هنا يظهر لنا الكاتب المباشر الوحيد وهو المثقف الذي رفض الانسلاخ عن قضية شعبه وهو انحياز من قبل الكاتب للمثقفين والكتاب باعتبارهم أداة التغيير والتوعية، وهو يحملهم أيضا هذه المسؤولية التاريخية.
سعيد يلتقي بمصيره في نهاية الرواية وهو المصير الذي صنعه بيديه فاذا كان حكمه للبلاد كان صدفة أو قدرا لا فكاك منه فان مصيره كان باختياره مستشفى الأمراض العقلية، فالدولة البوليسية التي صنعها سعيد هي ذاتها من أدخلته إلى المستشفى ولو خطأ.
كان يمكن لحافظ البرغوثي أن يختار مصيرا آخر لسعيد ولا أعتقد ان احدا سيلومه على ذلك لكنه اختار هذا المصير نهاية لروايته وهو تأكيد على حتمية مصير الدكتاتورية واستشرافا لمستقبلها.