أيام العرب

( في ديوان الشعر العربي )

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال قولهم: "العرب أمة شاعرة"، وكذلك قولهم "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم.

 فما المقصود بأيام العرب؟ وما مكان هذه الأيام في سجل الشعر العربي؟ إن الإجابة هي موضوع حلقتنا هذه من ديوان العرب.

 يُقصد بأيام العرب المعاركُ التي كانت تنشب بينهم، أو بينهم وبين غيرهم في الجاهلية بخاصة، وقد كثر ورودُ الكلمة بهذا المعنى جمعًا ومفردًا في الشعر العربي القديم كقول عمرو بن كلثوم:

وأيام لنا غرِّ طوال                        عصينا الملك فيها أن نلينا

 ويقول النابغة الذبياني في مدحه لعمرو بن الحارث الغساني معرضًا بهزيمة المناذرة في معركة اشتهرت ب (يوم حليمة)

 ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم            بهن  فلول من  قراع الكتائب

 تورثن من أزمانٍ يوم حليمة              إلى اليوم قد جربن كل التجاربِ

وهناك "يوم بعاث" الذي انتصرت فيه الأوس على الخزرج في الجاهلية، فيقول "قيس بن الخطيم" مفتخرًا بهذا الانتصار الذي أحرزه قومه الأوس:

 أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا                       كأن يدي بالسيف مخراق لاعبِ

 ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا                        إلى نسب في جذم غسان ثاقبِ

 **********

ومن أشهر الأيام يوم (ذي قار) بين الفرس وقبائل بكر، وانتصر فيه العرب على الفرس انتصارًا ساحقًا، وثمة شعر كثير قيل في هذا اليوم، منه الأبيات التالية من قصيدة طويلة مشهورة ل (أعشى بكر):

لـمـا رأونـا كشفنا عن iiجماجمنا
قـالـوا البقية، والهندي iiيحصدهم
لـو أن كـل مـعـد كان iiشاركنا
لـمـا  أمـالوا إلى النشاب iiأيديهم




لـيـعـلموا  أننا بكر.. iiفينصرفوا
ولا بـقـيـة إلا الـسيف فانكشفوا
في يوم "ذي قار" ما أخطاهم الشرفُ
مـلـنا  ببيض لمثل الهام iiتختطف

 **********

 وقامت الحرب بين أخوين هما شرحبيل وسلمة ابنا الحارث بن عمر آكل المرار الكندي، وكان لكل منهما أنصار من القبائل، وسمي هذا اليوم بيوم "الكلاب" وهو اسم ماء بين البصرة والكوفة حيث دارت المعركة التي انتصر فيها سلمة، وقتل فيها شرحبيل، فرثاه أخوه معد يكرب الذي كان معتزلاً الحرب، وهجا بني يربوع من تميم الذين عاهدوا أخاه على النصرة، وكانوا معه في ساحة المعركة، ولكنهم لم ينصروه، وفي ذلك يقول شرحبيل:

إن  جـنـبي عن الفراش iiلناب
مـن حـديـث نـما إلي iiمثير
مـن شـرحبيل إذ تعاوره iiالأرْ
يـا  ابـن أمي: ولو شهدتك iiإذ
لـتـشـردت  من ورائك iiحتى
أحـسـنـت وائل، وعادتها iiال
يـوم  فـرت بـنو تميم iiوولت







كـتـجافي الأسير فوق iiالظراب
فـغـدوت ومـا أسـيغ iiشرابي
مـاح  مـن بـعـد لذة iiوشباب
تـدعو  تميمًا، وأنت غير iiمجاب
تـبـلـغ الرحب، أو تبز iiثيابي
إحسان بالحنو يوم ضرب الرقاب
خـيـلـهـم يـتـقين iiبالأذناب

 **********

 ويوم بعاث من الأيام المشهورة بين الأوسِ والخزرج، وكادت الغلبة تكون فيه للخزرج، وبدأ الأوسيون في الفرار، ولكن زعيمَهم حضَيْر الكتائب الأشهلي" طعن ساقه برمح وثبت مكانه، واستصرخ الاوس، وبعث في نفوسهم الحمية والحماسة، فانتصروا على الخزرج انتصارًا باهرًا. ومات "حضير" متأثرًا بجراحه، فرثاه خفاف بن ندبة، بالأبيات الآتية:

أتـانـي حـديـث iiفكذبه
فيا عين بكي حضير الندى
ويـوم شـديد أوار الحدي
فـأودى بنفسك يوم الوغى




وقـيل  خليلك في iiالمرمس
حـضير الكتائب iiوالمجلسِ
د ما بين سلع إلى iiالأعرس
ونـقـى  ثـيابك لم iiتدنس

المرمس: القبر.

 **********

 ومن أيام العرب "يوم خزاز" وقد يطلقون عليه أيضا "يوم خزازي". وهو اسم جبل ما بين البصرة إلى مكة، وفيه دارت معركة عاتية هزمت فيها "مَعَدّ" جيوشَ اليمنِ هزيمة نكراء،، وعن هذا اليوم يقول عمرو بن كلثوم:

ونحن غداة أوقد في خزازي
فـكـمنا الأيمنين إذا iiالتقينا
فـصالوا  صولة فيما iiيليهم
فـآبـوا  بالنهاب iiوبالسبايا




رفـدنـا  فوق رفد iiالرافدينا
وكـان  الأيـسرين بنو أبينا
وصـلـنـا صولة فيما iiيلينا
وأبـنـا  بـالملوك مصفدينا

 **********

 ومن أيام العرب (يوم اللوى)، وهو اسم واد دارت فيه حرب بين غطفان وهوازن، هُزِمتْ فيها هوازن وقتل بطلها عبد الله بن الصمة، الذي لم يستمع نصح أخيه "دريد" بالنجاء بعيدًا عن غطفان، فلم يُطعه هو ومن معه، فكانت الهزيمة النكراء، فقال دريد بن الصمة من قصيدة يرثي بها أخاه:

أمـرتـهم  أمري بمنعرج iiاللوى
فلما عصوني كنت منهم وقد iiأرى
وهـل أنا إلا من غزية إن iiغوت



فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
غـوايـتـهـم، أوأنني غير مهتد
غـويـتُ، وإن ترشد غزية أرشدِ

 **********

 وكانت حرب البسوس أشهر حروب العرب في الجاهلية، وقد دارت بين بكر وتغلب ابني وائل، ويقال إنها استمرت أربعين عامًا، وكانت الحرب تمضي على فترات متقطعة، وفاقت انتصارات تغلب انتصارات بكر بكثير.

وتعددت أيام هذه الحرب، ومن أشهرها:

 يوم النُّهَى: لتغلب على بكر (والنهى اسم ماء لشيبان).

 يوم الذنائب: لتغلب على بكر (والذنائب موضع بين البصرة ومكة).

 يوم وارِدَات: لتغلب على بكر (وواردات موضع بني البصرة ومكة).

 يوم عنيزة، وقد تعادلت كفتا بكر وتغلب في هذا اليوم، و(وعنيزة موضع في اليمامة).

 يوم القصيبات: لتغلب على بكر (والقصيبات اسم مكان في ديار بكر).

 يوم تحلاق اللمم، وكان لبكر على تغلب، وسمي بذلك لأن بكرًا حلقت رؤوسها استبسالاً للموت.

ومن أشهر ما قيل في حرب البسوس قصيدة "الحارث بن عباد" وهو أحد زعماء بكر الذين اعتزلوا القتال، وقد رأى سيل الدماء يتدفق بلا توقف، ورأى أن "المهلهل" قائد تغلب يضع سيفه في البكريين بلا رحمة ثأرًا لأخيه كليب. فأراد الرجل أن يوقف سيل الدم، وأرسل ابنه بجيرا إلى المهلهل ليقتله بأخيه كليب حرصًا منه على السلام، فأطار المهلهل رأسه، وقال له "بؤبشسع نعل كليب" فنهض الحارث، وقاد بكرًا يوم تحلاق اللمم، وحقق نصرًا قويًا على تغلب. وفي قصيدته الطويلة يقول الحارث بن عباد (ويذكر فرسه المعروف بالنعامة)

لم أكن من جناتها علم iiاللـ
قد  تجنبت وائلاً كي iiيفيقوا
قـتـلوه بشسع نعل iiكليب
قـربـا مربط النعامة iiمني
قـربًـا مربط النعامة iiمني





ه، وإني بحرها اليوم iiضالي
قـتـلـوه  ظلمًا بغير iiقتال
إن  قتل الكريم بالشسع iiعَالِ
لقحت حرب وائل عن حيالِ
لا نـبيعُ الرجالَ بيْع iiالنعالِ

 **********

 ومن أشهر حروب العرب في الجاهلية حرب "داحس والغبراء" بين قبيلتي عبس وذبيان، ويقال إنها  كحرب البسوس  استمرت أربعين عامًا. وكما اشتعلت حرب البسوس بين بكر، وتغلب من أجل ناقة. قامت الحرب بن عبس وذبيان من أجل سباق بين فارسين من القبيلتين أحدهما على جواد اسمه (داحس)، والثاني على فرس تسمى (الغبراء).

ومن أشهر أيام هذه الحرب: يوم المُريْقب  ويوم ذي حَسَى، ويم اليعمْرية، ويوم الهباءة، ويوم الفَروقي، ويقوم قَطَ.

 وكان يوم "الهباءة" هو أشدُّ هذه الأيام وأقساها، وفيه قتلتْ عبس من ذبيان عددًا كبيرًا منهم حذيفة بن در، أحد المتسابقين اللذين أشعلا نارَ الحرب، وفي ذلك يقول عمرو بن الأسلعْ العَبسي:

إن السماء وإن الأرض iiشاهدة
أنـي جزيت بني بدر iiبسعيهم
لما التقينا على أرجاتء جمتها
عـلـوته  بحسامٍ، ثم قلتُ iiلهُ




والله  يـشـهد والإنسان iiوالبلد
عـلـى  الهباءة قتلا ما له قود
والـمـشـرفية في أيماننا iiتقد
خـذها إليك فأنت السيدُ iiالصمد

 **********

ولكن هذه الحرب خلدت شخصيتين عربيتين عظيمتين هما: "هرم بن سنان"، والحارث بن عوف، فقد نهضا، ودعوا إلى الصلح، وحقن الدماء، وتحملا ديات القتلى من الطرفين، فكانا جديرين بأماديح زهير بن أبي سلمى، ومنها الأبيات التالية:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
يـمـينا  لنعم السيدان.. وجدتما
تـداركـتما  عبسا وذبيان بعدما
وقد  قلتما إن ندرك السلم iiواسعا
فأصبحتما منها على خير iiموطن
عـظـيمين في عليا معد هديتما






رجـال  بنوه من قريش iiوجرهم
عـلى كل حال من سحيل iiومبرم
تـفانوا،  ودقوا بينهم عطر iiمنشم
بـمال  ومعروف من القول iiنسلم
بـعـيدين  فيها من عقوق iiومأثم
ومن يستبح كنزًا من المجد iiيعظم

 **********

 وكانت حروب الشعر في أيام العرب لا تقل ضراوة عن حرب السيوف والرماح، فاتسع المجال للحماسة، والفخر والرثاء، والهجاء. فنرى المهلهل يرثي أخاه كليبًا بقصائد متعددة، ومن إحداها الأبياتُ التالية:

كليب  لا خير في الدنيا ومن iiفيها
كـلـيب أي فتى عز .. iiومكرمة
نـعـى  النعاة كليبًا لي فقلتُ iiلهم
الـحـزم والعزم كانا من صنيعته
الـقـائد  الخيل تردي في iiأعنتها
مـن خـيل تغلب ما تلغى iiأسنتها






إذ  أنـت خـليتها فيمن iiيخليها...
تـحت  السفاسف إذ يعلوك iiسافيها
مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
مـا  كـل آلائه يا قوم .. أحصيها
زهـوا  إذا الخيل لجت في تعاديها
إلا وقـد خـضبوها من iiأعاديها..

ثم يوجه حديثه إلى "بكر" قتله "أخيه كليب" وقد سمع أن هناك أناسًا يتحدثون عن الصلح فيقول:

ليت السماء على من تحتها iiوقعت
لا أصـلـح الله منا من iiيصالحكم


وانشقت الأرض فانجابت بمن iiفيها
ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها

والصورةُ التي رسمها المهلهل لكليب تستمد ملامحها من عاطفة الأخ المفجوع في أخيه، وهي بعيدة في أغلب هذه الملامح عن الواقع، فقد كان كليب جبارا ظالمًا لأهله، وغير أهله. وهذه الصورة الواقعية رسمها الشاعر "عمرو بن الأهتم" بعد مصرع كليب في الأبيات التالية:

وإن  كـلـيبًا كان يظلم iiقومه
فلما حشاه الرمح كف ابن عمه
وقـال  لجساس أغثني بشربة
فقال  تجاوزتُ الأخص iiوماءه




فـأدركـه  مـثل الذي iiتريان
تـذكـر ظـلم الأهل أي iiأوانِ
وإلا  فـخبره من رأيت iiمكاني
وبطن  شبيث، وهو غير زؤان

 **********

وهذه القصائد التي عرضت البطولات، وفاخرت بالانتصارات، وعيرت الأعداء بالهزائم، ورثت المصروعين في ميادين الوغَى، هذه القصائد نعثر في تضاعيفها على حكم أزلية، وقيم إنسانية، وقد ترد في أبيات مستقلة. فنرى قيس بن زهير العبسي  وقد اصطلى بنار داحس والغبراء  يذم الحرب (مشيرًا إلى أحد مشعليها واسمه سنان) ويدعو إلى السلام فيقول:

يـود سـنـان لـو يحارب iiقومنا
يـدب ولا يـخـفـى ليفسد iiبيننا
فيا  ابني بغيض راجعًا السلم تسلما
وإن سـبـيل الحرب وعر iiمضلة




وفي الحرب تفريق الجماعة والأزلُ
دبـيبًا، كما دبت إلى جحرها iiالنمل
ولا تـشـمتا الأعداء يفترق iiالشملُ
وإن  سـبـيـل الـسلم آمنه iiسهلُ

 **********

ومن الشعراء من يرى في الحرب شرا لا بد منه (فبعض السم ترياقٌ لبعض)، وتقديم الخير لمن لا يستحقون ضعف، وهوان، واستسلام. وفي حرب داحس والغبراء يقول الشاعر "الفند الزماني".

مـشـيـنا  مشية الليث
بـضـرب  فيه iiتوهين
وطـعـن كـفـم iiالزق
وبعض الحلم عند الجهـ
وفـي الـشر حياة iiحيـ





غـدا  والـليثُ iiغضبان
وتـخـضـيع.. iiوإقران
غــدا  والـزق iiمـلآن
ل  لــلـذلـة iiإذعـان
ن لا يـنـجـيك iiإحسانُ

 **********

 وبهذه الأبيات نختتم مسيرتنا مع الشعر الذي فجره تلاحم الخيل، واشتباكُ السيوفِ، واشتجارُ الرماح، وتدفقُ الدماء، فيما يسمى "بأيام العرب"، ونودعك  يا عزيزي القارئ  على أمل أن نلقاك على حب وحق وخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.