فقه الإبداع الأدبي في الإسلام 2
فقه الإبداع الأدبي في الإسلام
الأستاذ عبد الرزاق المساوي
الفصل الثاني
السنة والإبداع الأدبـي
من حديث البخاري والترمذي
إلى حديث البخاري ومسلم والترمذي
حديثان جامعان :
نأتي بعد تلك الجولة المباركة في ظلال الآيات القرآنية الكريمة "من سورة الشعراء إلى سورة يس"، نأتي إلى رحاب السنة النبوية الشريفة لنختار منها - فقط للدرس والبحث - حديثين اثنين صحيحين لا غبار على صحتهما، ولا شك في سلامة سندهما ولا خلاف كذلك في صحة متنهما عند أهل العلم من المتخصصين.. ولقد تم اختيار هذين الحديثين فقط على اعتبار أنهما جامعان لخيوط الخلاف القائم حول الموضوع، فهما على رأس القائمة التي تجمع نصوص أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكل حديث يجمع تحته ما يسنده من الروايات المختلفة، منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما جاء في كتب الحديث ومنها ما نثر في كتب التفسير والسير ومنها ما تقاذفته كتب الأدب والتأريخ..
ويبدو للوهلة الأولى من ظاهر الحديثين أنهما مختلفان ومتعارضان بله ومتناقضان أحدهما يطعن في الآخر، مما دفع ببعض الباحثين إلى الاختلاف بلاعتماد على أحد النصين، فبعضهم يميل إلى هذا الرأي المدعوم بنصوص معينة.. وبعضهم الآخر يميل إلى ذاك الرأي المخالف للأول مع التأكيد على أن نصوصه هي الحق المؤيد شرعا.. وفئة ثالثة تحاول التأويل أو التوسل بمبدإ النسخ لتحصل على ما تميل إليه من رأي.. ورابعة تجعل من النصين مدخلا للطعن في ما يسمى أدبا إسلاميا..
لكن حقيقة أمر الموقفين –في تقديري- هي أنهما ينطلقان معا من نصين شريفين صدرا من مشكاة واحدة، ولا يعقل أن يكون هناك تناقض في الكلام الصادر عن مثل تلك المشكاة التي لا تنطق عن الهوى.. إذن هناك شيء ما يجب التعاطي معه أو انطلاقا منه كي نقف على حقيقة هذا الأمر.. لذا سوف نبدأ الموضوع من خاتمته التي تؤكد غير الذي اشتهر في كتب الحديث والأدب والنقد، فهما في نظرنا نصان متصلان ومتكاملان يعطف أحدهما على الآخر ويتمم أحدهما الآخر، ولا نشاز بينهما ولا تصادم، بل بينهما سبب بديع وخيط رفيع يربط معانيهما ويصل دلالاتهما، وكأني بهما نص واحد انقسم شقين أو تبدى في شطرين أو اختار لتجليه مظهرين .. وأول هذين الحديثين الشريفين الصحيحين قول الرسول صلى الله عليه وسلم * إن من الشعر حكمة* برواياته المعروفة والمشهورة(1).. ولا ننسى أنه يوجد على رأس قائمة النصوص التي تنحى منحاه وتسطر بالخط العريض موقف التأييد للإبداع الأدبي في الإسلام.. أما ثانيهما فهو قوله صلى الله عليه وسلم: * لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا..* برواياته المعروفة والمشهورة أيضا(2).. والذي يعتبر هو أيضا على رأس القائمة التي تندد بالإبداع الأدبي في الإسلام..
إن هذين النصين الصحيحين يأتيان في الكتابات –كما سبق القول- حول هذا الموضوع على رأس الأحاديث الكثيرة والنصوص النبوية العديدة التي حاول كل فريق من الفريقين المتقابلين أو المتخاصمين في موقف الإسلام من الشعر والشعراء أن يستدل بها على صواب موقفه وصحة رأيه وسلامة اختياره.. وقد تعددت مصادر كل فريق ومراجعه إلا أن المتتبع يلحظ أن أغلب النصوص المدروسة التي تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم مأخوذة من بطون كتب الأدب والتأريخ أكثر من غيرها من الكتب المتخصصة في الحديث والرواية، ولذلك اخترت أن أبحث في هذين النصين على اعتبار أنهما أولا مأخوذان من الكتب المعتمدة في الحديث، ولأنهما ثانيا يمثلان محوري النصوص كلها وإن اختلفت مضانها وتفرقت مراجعها وتشعبت رواياتها، فعند جمعها نلحظ أنها تنضوي معانيها ومضامينها تحت ظلال الحديثين المدروسين أو منقسمة بين معنييهما .. وسنبين هنا أنه لا مجال لتحيز أحد الفريقين لرأيه أو لواحد من الحديثين، كما تبين لنا من قبل مع آيات سورة الشعراء..
فلو نظرنا في أسلوب هذين النصين لوجدنا أن لكل واحد منهما مفتاحا يفتح مغاليقه ويفصح عما يتضمنه ويبين ما يحتويه، وسنكشف في الأسطر القادمة المراد من النصين دون أن نقولهما ما لم يقولاه أو نحملهما ما لا يستطيعانه من معاني ومفاهيم تتراوح بين ما يسمونه الظاهر والباطن، ودون أن تضغط علينا أي فكرة مسبقة تحدد اتجاهنا وترسم طريقنا، وتعين وجهتنا كرها في تعاملنا مع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع إلا ما أملاه علينا تحليلنا وأوحى به النصان المدروسان، وسنلحظ في الأخير إلى أي حد هما متفقان أو مختلفان مع ما رأيناه في قراءتنا للآيات القرآنية في الجزء السابق والمتعلق بفقه الإبداع الأدبي في القرآن..
حكمة أو نقمة :
أما النص الأول الذي افتتح تركيبته اللغوية بناسخ حرفي يتوخى منه توكيد ما سيقبل من الكلام وتأكيد معناه وترسيخ مضمونه، كأن في الأمر نزعا لفتيل شك أو دفعا لريبة، فافتتاح الكلام بتوكيد في جو جملة اسمية يوحي بالثبات والتأكيد والاستمرارية.. كما يوحي بوجود متلق يحتاج إلى هذا الأسلوب كي يقتنع بالفكرة المؤكد عليها.. وهذا الكلام الذي تود أداة التوكيد الاشتغال عليه جاء على شكل تركيب مرتب من الجار والمجرور خبرا للناسخ في حين تأخر اسمه وذلك لتسليط الضوء على التركيبة الخبرية التي تتكون من حرف الجر "من" الدالة على التبعيض والتجزئ في علاقتها بالمجرور أولا على اعتبار أنه المبعض والمجزأ، وثانيا في علاقتها باسم الناسخ على اعتبار أنه نعت أو وصف يلحق بالجزء المبعض من الكل.. وهكذا لا ننسى هذه التراتبية في صياغة الكلام النبوي الشريف، فلا يمكن أن يكون هذا الأمر اعتباطيا أبدا..
والحديث الشريف هذا هو قول رسول الحق صلى الله عليه وسلم :*إن من الشعر حكمة*.. إن وجود "من" التبعيضية في هذا النص هو الذي يحدد المعنى الحقيقي في الحديث الشريف والمراد أصلا من ذكره على لسان لا ينطق عن الهوى، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن بعض الشعر حكمة، وإذا كان من الشعر ما هو حكمة فهذا يشير بشكل أو بآخر، أو قل من طرف خفي إلى أن هناك من الشعر ما ليس حكمة، بله قد يكون على صاحبه وتابعيه نقمة والعياذ بالله.. فكما أن حرف التوكيد عمل عملها ليس على المستوى النحوي فحسب بل حتى على المستوى الدلالي فإن حرف الجر عمل هو الآخر عمله في النص على مستوى الدلالة أو المعنى الكلي.. فكان أن جعل الشعر/الإبداع الأدبي ينقسم إلى قسمين من حيث الحمولة الإبداعية والتي تصهر الشكل والمضمون في إطار واحد لأن الحكمة ليست مضمونا أو موضوعا فحسب ولكنها أيضا شكل ومبنى وصياغة وإطار وسياق من خلاله تتبدى هذه الحكمة في جماليتها التي تجعل المتلقي يرحب بها حكمة بالغة.. إذن يمكن اعتبار هذا الحرف هو المدخل لقراءة هذا النص الشريف، فمن ثمة فهو يجعل:
الـشـعـر
حـكـمـة نـقـمـة
وهكذا يعتبر هذا الحديث معلمة تهيب بالمؤمن أن يكون في مستوى التفرقة بين الأمرين، وأن يرقى إلى مستوى معرفة الفروق والفواصل في قراءاته وإبداعاته بين ما هو حكمة وبطبيعة الحال ليست الحكمة الموضوعاتية فهذه حكمة على قارعة الطريق ولكنها الحكمة المرتبطة بالشعر الذي هو كل متكامل من موضوع ولغة وصياغة وأسلوب وجمالية وسياق وهدفية وإتقان..إلخ.. وبين ما ليس حكمة بالمفهوم نفسه، حتى يكون فعلا هذا المؤمن/المتلقي المقصود والمفترض أيضا في مستوى الخير المعقود على ناصية الحكمة والتي يقول عنها مولانا عز وجل: ) ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ((البقرة 269)..
إن الحكمة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن بينا في الجزء الأول من البحث هذا: *الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها*(3) وإذا كانت الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، وما الشعر أو الإبداع الأدبي إلا كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :*بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام*(4) فهو إذن كلمة منها ما هو حكمة، وعلى المؤمن أن يبحث عنها في الكلام الحسن ويأخذ بها منه، إبداعا وإنشادا وسماعا وطربا ونقدا وتنظيرا وتأسيسا وتجريبا.. لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر وإن كان في سنده ضعف فمعناه في متنه لا يبتعد عن الرؤية الإسلامية بله هو من صميمها:*لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة*(5) وهكذا كان الأوائل الكرام من سلف الأمة الإسلامية يعرضون أشعارهم وإبداعاتهم على من له علم وفهم ودراية من منطلق: * واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون *(:) حتى يبعدوا أنفسهم عما ليس حكمة، وكانوا رضوان الله عليهم وقافين*فعن الأسود بن سريع قال كنت شاعرا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي قال إن ربك يحب المحامد ولم يزدني عليه..* ولقد *وقف إياس بن خيثمة على ابن عمر رضي الله عنهما فقال: ألا أنشدك من شعري يا ابن الفاروق؟ قال: بلى، ولكن لا تنشدني إلا حسنا.. فأنشده حتى بلغ شيئا كرهه ابن عمر قال له أمسك*(6) ولا داعي للإطالة بسرد مجموعة من النصوص في هذا الباب، فلقد أسند الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه، كلهم ينطلقون من منطلق واحد ويرتكزون على أسس واحدة موحدة.
إن هذا الحديث ذا الدلالة التبعيضية لا يعتبر مؤيدا للشعر كل الشعر ولا مناقضا له أو رافضا، ولكن نلمس فيه من نفحات معاني أواخر سورة الشعراء، فهو يقسم الشعر – كما قسمت السورة– قسمين: قسم مسكوت عنه لعدم الرغبة فيه، فهو مضمر لفظه وخفي صيته، لكن تلوح معالمه في بنية النص، وتستشف معانيه من بنائه، و مفهوم من سياقه الذي استولت عليه "من" التبعيضية.. وقسم موصوف بلفظ "الحكمة"، فهو الكلمة ضالة المؤمن دون الالتفات إلى قائلها أو الاهتمام بصاحبها، وهنا يكمن الفرق بين الآيات في سورة الشعراء وبين الحديث الشريف هذا.. فالأولى توجب التزام الشاعر بالإسلام وتمسكه بالدين واتصافه بالصفات المذكورة في الآيات نفسها:)إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون( ومن ثمة فإن الإبداع والمبدع معا سيكونان على طريق واحدة، ويصدران عن مشكاة واحدة، وسيكون المرسل والرسالة متفقين في النظرة إلى الأشياء المحيطة بهما ومجتمعين على تصور واحد موحد للإنسان والكون والحياة، ومتحدين في الرؤية للوجود والكائنات، ومتساويين من حيث المنطلق النبيل والأهداف السامية..
هذا بالنسبة للآيات، أما فيما يخص الحديث الشريف، فيفهم منه أنه يشخص حالة الإبداع فقط دون الوقوف عند شخص المبدع –وإن كان أعرابيا- خصوصا وأن للحديث سببا في وروده يقول :*إن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم بكلام بين...*(انظر الهامش:71).. وأظن أن هذا هو الذي حدا بأمثال الأستاذ محمد قطب والدكتور عماد الدين خليل –وإن لم يتفق بعض النقاد الإسلاميين مع هذا المذهب- إلى اعتبار بعض الإبداعات من الأدب الإسلامي وإن كان أصحابها غير مسلمين من أمثال طاغور الهندي(7) وأليخاندرو كاسونا الإسباني(8) وغيرهما. وهكذا فإن المؤمن ينظر إلى مواطن الحكمة -بالمفهوم الذي أوضحناه سلفا- في النصوص الإبداعية الإنسانية دون الاحتفاء بطبيعة مبدعيها ودون النظر إلى ذوات أو انتماءات او شخصيات قائليها -مادام ليس هناك أي مانع آخر، ومع ذلك فإن معرفة الأشياء خير من جهلها- ودون التكلف في البحث عن توجهاتهم العقدية أو الفكرية.. لأننا أحيانا –والحق أقول- قد تقع بين أيدينا نصوص لا يذكر أصحابها فلا نملك أن نعتبرها بحكم ما هي عليه إلا إسلامية.. لأن المبدع قد يعبر عن أحاسيسه وانفعالاته وعلاقاته الوجدانية بالكون والحياة والوجود والإنسان والكائنات الحية بشكل عام، وقد يكون في ذلك صادقا لأنه في كثير من الأحيان ما يصدر عن فطرته التي فطر الله الناس عليها، أو ينطلق من طبيعته وسجيته التي تحكم دواخله بحكم انتائه الإنساني.. ويتحرك عند إبداعه بسليقته التي لا تعارض الإسلام، ويعبر من تلقاء مكنوناته التي لا تنافي قواعد الحنيفية السمحة، ولا تتنافى مع مكونات الدين وفكرته ومقومات منظومته وخصائص مبادئه.. من هنا نفهم حديث الشريد حين قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه. فأنشدته بيتا. فقال: هيه. ثم أنشدته بيتا. فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت. قال: إن كاد ليسلم)(9). وفي حديث ابن مهدي قال صلى الله عليه وسلم:(فلقد كاد يسلم في شعره ) (10).
ولكي نزيد الأمر توضيحا أكثر، ونؤكد ما ذكرناه في فهمنا للحديث النبوي الشريف نورد -على سبيل التمثيل والاستئناس فقط - موقفين اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت نفسه.. وهما نصان متناقضان ظاهريا ولكنهما متحدان جوهريا لأنهما بطبيعة الحال –إن صحا سندا- خرجا من مشكاة واحدة ) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة ( (النجم:6)
روي أن أمية كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر وكان يرثي من قتل من قريش في وقعة بدر، ومن ذلك قوله:
مـاذا ببدر والعقنـ ـقل من مرازبة جحاجح
وهي قصيدة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايتها..(11).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية في قوله:
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"صــدق"..(12).
إن المتأمل في هاتين الروايتين الأخيرتين يلحظ أنهما تنقلان موقفين متباينين، متناقضين: فنص يعبر بأسلوب النهي الذي قد يدخل في إطار التحريم أو المقت أو على الأقل في إطار الكراهية.. والنص الثاني يحمل معاني التزكية لما جاء فيه، والتصديق لما صدر عن صاحبه أو المصادقة التي تعبر عن الرضا والقبول.. والمعني بالأمر في هذين النصين/الموقفين واحد هو الشاعر أمية بن أبي الصلت الذي قضى على حاله الذي اشتهر به.. فلماذا يا ترى كان الموقفان (المتعارضان) معا صادرين في حق شخص واحد أو مبدع واحد؟.. لماذا كان موقف الرفض في الرواية الأولى وموقف الرضا والقبول في الرواية الثانية ؟ ..
بكل بساطة لأن لكل موقف ظروفه الخاصة به.. فالداعي إلى هذين الموقفين ليس واحدا، إن الدافع إلى تبني قول "لا" أو منع الإنشاد والنهي عنه ليس هو الدافع نفسه لقول "نعم" المتمثلة في التصديق الدال على الإقرار الذي يعتبر ركنا من التشريع.. فالنص الأول ينبع من أصل مرفوض من الأساس في الرؤية الإسلامية، وهو رثاء قتلى المشركين من عرب قريش، والإشارة إلى مناقب الكفار، وذكرهم بما يغيظ المسلمين، وتحريض الجاهلين على المؤمنين، ومواصلة الحرب ضد هذا الدين على المستوى الأدبي كما هو على المستوى العسكري.. أما النص الثاني فينطلق من مسألة مقبولة وقضية لا تخرج عن منطق الشرع، وهي مسألة الصدق أي القول الصادق، أو الموسوم بالصدق أو بتعبير آخر قول يحمل "حكمة".. إذن فلكل مقام مقال ..
وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر المسلم لبيد الذي أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتين فقال في الأول: "صدقت". وفي الآخر: "كذبت". قال:
***ألا كل شيء ما خلا الله باطل ***
قال: "صدقت"..
***وكل نعيم لا محالة زائل***
قال: "كذبت، نعيم الجنة لا يزول"..(13)
هذا الموقف المشرف الذي يربط بين الإبداع الأدبي والرؤية الدينية نابع من حرص الإسلام على وضوح المواقف ونبل الأهداف وتميز الوسائل وسموها، وعلو لغات التواصل ونقائها.. لذلك فهو لا يحابي ولا يجامل، فالحق أحق أن يتبع، وأحق أن يؤخذ به، والباطل باطل، والأليق بالمرء المسلم أن ينبذه حيثما كان، وكيفما كان، ومن أي كان.. وسراجه المنير في هذه المسألة ما رواه الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "ذكر الشعراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: * هو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح *(14). وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم * الشعر بمنزلة الكلام ؛ حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام *(15)..
إن الحكمة تكون في أمر يتماشى مع دعوة الحق ويتفق مع طريق الهداية ولا يخالف مثل الإسلام وقيمه، كما أنه لا يخرج عن أخلاقه ولا يتجاوز منطلقاته الأساسية ولا يحيد عن أهدافه ومراميه ولا يبتعد بأي حال من الأحوال عن المساحة التي رسمها وارتضاها لنفسه، كما أن الحكمة تنبع من الفطرة السليمة والحس الإنساني الصادق والعقل المتزن والنظرة الفاحصة والموقف المسؤول..
وأي انزياح عن الطريق أو تعد للحق أو على الحق، أو شرود عن الصراط المستقيم أو خروج عن المألوف الإنساني أو ابتعاد عن السليقة النقية والحس الصادق والمعتدل يوجب الجرح والتصويب والتعديل ، وإعادة الأمور إلى نصابها والتنبيه إلى الأخطار التي يمكن أن تنجم عن أي تجاوز.. وهذا هو منهج الإسلام في الحياة عامة وفي الإبداع الأدبي خاصة.. فقد جاء عن الربيع بنت معود قالت: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي غداة بنى بي فجلس على فراشي .. وجويريات لنا يضربن بدفوفهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن :
*** وفينا نبي يعلم ما في غد... ***
فقال لها صلى الله عليه وسلم : *اسكتي عن هذه وقولي الذي كنت تقولين قبلها "(16).
لماذا وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا هذا الموقف من الجارية ؟ لماذا أنكر قولها ذاك أو على الأصح قول الشاعر عند إنشادها، وطلب منها أن تقف عند ما لا يراه منكرا.. ؟. لأنه كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها من حديث طويل : " ومن زعم أنه ( أي الرسول صلى الله عليه وسلم)يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله.. والله عز وجل يقول: )ايعلم ما في السماوات والأرض الغيب إلا الله(..(17). فليس من الحكمة أن يقال: "وفينا نبي يعلم ما في غد".
وبعد فإن آيات سورة الشعراء تلح على ضرورة وجود شعراء وأدباء ومبدعين إسلاميين قلبا وقالبا، أي أنها تدعو إلى وجوب التزام الشعراء/الأدباء/المبدعين بقيم الحق ومبادئ الإسلام واتباع مثله وسلوك سبيله وعدم الخروج عن أخلاقياته ممارسة حياتية وإبداعا أدبيا(18).. إنها آيات تحدد كيف ينبغي أن يكون المبدع في المجتمع الإسلامي.. أو كيف يجب أن يكون الشاعر والأديب والمبدع في البيئة الإسلامية التي يصنعها بيديه حيثما حل أو ارتحل، والجو الإيماني الذي يتنفس فيه هو ومن معه من أهله وأقاربه ومن في ركبه.. في حين نجد الحديث يوضح قضية أخرى وهي كيف يجب أن يكون الإبداع المقبول شرعا والمرخص له بالذيوع في جوانب الحياة الإسلامية وبين الفئة المؤمنة.. بمعنى آخر يبين الحديث كيفية تعامل القارئ المسلم أو الناقد الإسلامي مع الإبداع الأدبي بصفة عامة(19)، وإن كان صادرا عن مبدع غير مسلم أو غير ملتزم بأمور الدين الحنيف..
إن التزام المبدعين -وإبداعهم في إطار التزامهم- يعطي للمجتمع الإسلامي بله للإنسانية جمعاء الكثير والكثير في شتى المجالات كمجالات الأدب والفن والجمال والتذوق وحب الأشياء والطبيعة والوجود والكون والانسجام معها كلها في إطار العلاقة التي تجمع بين المبدع المسلم والعوالم جميعها، وكذا في مجالات التربية والتعليم والتأديب والتوجيه والإرشاد.. كما سيمد المسلمين بمادة أدبية غزيرة نابعة من صميم عقيدتهم وتصورهم للحياة والكون والوجود والإنسان. حتى يمارسوا عليها أنشطتهم النقدية والترفيهية والثقافية الأخرى..
إن التماس جوانب الحكمة في أي شعر أو إبداع – والحكمة لا تنحصر في مضمنات النصوص وما تحمله من معاني وتزخر به من موضوعات فحسب، بل تطال الحكمة أيضا كل مكونات الإبداع الأدبي بمفهومه الحديث والمعاصر ، ومقوماته الأسلوبية والشكلية المتجلية منها والخفية – وإن البحث عن الشعر/الأدب/الحكمة يوسع مجالات الإبداع عن طريق الاتصال المباشر بكل أصناف وأنواع وأجناس ومذاهب وضروب الآداب الإنسانية.. والاحتكاك بها والتعرف على مكوناتها واستقراء خبراتها الإبداعية والوقوف على بعض أدواتها الإجرائية والتفاعل معها والانفعال بما هو جميل منها أو بما هو حكمي منها، والتأثير فيها، والتعامل معها بروح نقدية تقويمية إسلامية تترك بصماتها على الإبداع العالمي وتساهم بشكل قوي في مجالات الأدب المقارن..
امتلاء أم غلبة :
وننتقل الآن من النص الأول إلى النص الثاني: (لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه ..)(الحديث) لنرى ذلك الفعل المضارع الذي يأخذ بتلابيب النص ويملأ جوف الحديث ويضبط خيوطه ويسيطر عليها، ويعتبر بذلك مفتاحه الأساس. فـالفعل "يمتلئ" كما جاء في النص فعل يحمل دلالته ويتمتع بها، فالامتلاء يأتي في معنى العمار والاكتضاض.. وامتلاء الجوف بالشعر تعبير مجازي يدل في الحديث على أن المرء إذا شغل الشعر والإبداع الأدبي عقله ولبه، وملأ قلبه ووجدانه، حتى يملك عليه فكره ومشاعره وإحساسه، وأخذ يوجهه في كل جوانب حياته.. إذا أصبح جوفه أو عقله الظاهر والباطن وعاء تكتنز فيه الأشعار إلى درجة الاكتضاض الذي لا يترك لغيرها مكانا فارغا ولا لحبة قمح، أو قل حتى يصير عنده منها الفائض.. فإن هذا الإنسان على هذه الحال يكون قد حال بين نفسه وبين أمور أخرى تهم حياته بشكل عام، لأن الجوف إذا امتلأ لا يستطيع صاحبه أن يستزيد شيئا آخر من المنافع مثل العلوم الشرعية والطبيعية وغيرهما من النافع المفيد، ومن ثمة فإنه يخشى عليه من نفسه في علاقته بها وبما يحيط بها وفي علاقته بخالقها، وبذلك قد يحرمها من كل ما من شأنه أن يصلح حاله في الدنيا والأخرى أو على الأقل يكون أضعف حظا من غيره في ذلك، ولقد جعل البخاري رضي الله عنه لهذا الحديث ترجمة قال فيها: "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن"..(20).
إن قول البخاري هذا ينم عن فهم عميق للحديث الشريف وإدراك دقيق لمعانيه وتبصر بمراميه.. يتجلى ذلك في تعبيره بـ"يكره.." و"الغالب.." و"يصده عن.."
فلماذا الكراهية وليس التحريم ؟ ونحن نعلم الفرق بين المصطلحين في اللغة والفقه والأصول..
ولماذا "الغالب" وليس الملأ؟
ولماذا يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن؟
إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة كامنة في قوله صلى الله عليه وسلم (أحدكم).. فالخطاب موجه عن قصد.. مقيد وغير مطلق.. كما يظهر من الضمير "كم" المضاف إلى " أحد " الدالة على الصحابة بشكل مباشر لأن الخطاب موجه إليهم بحكم تواجدهم في فترة الوحي، أو تواجد الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وموجه لجميع المسلمين بشكل غير مباشر لأن الخطاب موجه إليهم بحكم قوله تعالى:) وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..((الحشر:7). أي بحكم تبعيتهم له صلى الله عليه وسلم..
فالكلام إذن موجه إلى المسلمين الذين يعرفون ذكر الله ويفهمون العلم ويدركون القرآن ويقدرون ذلك ويجلونه ويحترمونه.. ومن كان هذا شأنه فقد انتفى عنه ملأ الجوف وعمارته ومن ثمة فقد صان نفسه عن منطقة التحريم، ولكن تبقى مسألة الغلبة على جوفه.. ومادام المسلمون هم المعنيين بهذا الحديث والمقصودين بهذا الخطاب التوجيهي – وقد يوجد فيهم الشعراء والمبدعون، و نجد منهم المحب للشعر إنشادا واستنشادا - فإن غلبة الشعر على أحدهم قد يؤدي به إلى الوقوع في المنهي عنه)كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه((21) لذا كانت غلبة الشعر على المرء مكروهة كما أن الملأ حرام..
وهذا الأمر حاصل بالنسبة للشعر النقي معنى ومبنى، والطاهر دلالة وشكلا، والمتين بلاغة والفصيح لغة، والمقبول شرعا وعقلا.. بله قد يكون صادرا عن الشعراء المسلمين الصادقين أنفسهم، الملتزمين بمعالم آيات سورة الشعراء..
فما بالنا إن أصبح همًّ المسلم الملتزم هو البحث عن الشعر والجري وراء كل إبداع حتى يصبح جوفه عامرا ومكتظا بغير القرآن والحديث أو ما يدور في فلكيهما من علوم ومعارف وثقافات؟
والأدهى من هذا كله هو كيف يؤول حاله لو أنه يملأ كيانه مما يمقته الإسلام ويذمه من إبداع ؟.. إذن لكانت الطامة العظمى، وهي تحول المسلم إلى شيطان ملعون.. فعن أبي سعبد الخدري رضي الله عنه قال: " بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا الشيطان أو امسكوا الشيطان لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحا.." ( الحديث ) (22)..
وإذا كان هذا هو سبب ورود الحديث فإنه لا يخصصه.. فالتنفير فيه لا يتوجه إلى الشعراء في حد ذواتهم، ولا إلى الإبداع الشعري عينه، وإنما يتوجه إلى سواد الأمة الإسلامية كي لا يغلب على الناس الشعر – إبداعا وقراءة وإنشادا واستنشادا – أو يصبح عندهم من الكثرة بحيث يحول بينهم وبين الحياة في كنف الدين بكل مستوياته المعرفية المعروفة.. إن كثرة الشعر أو الإبداع الأدبي بكل الحالات تمثل عائقا في وجه ما سواه، لأنها تعني الانشغال التام والاهتمام الكامل به ونسيان أو تناسي أو غض الطرف عن بعض الأمور المعلومة من الدين بالضرورة أو الواجبات التي ليس للمسلم عنها مناص ولا محيد في الدين، وعندما نقول الدين نقصده في شموليته لا نجتزئ منه شيئا..
إن حديث " لإن يمتلئ.." لا يحمل تنقيصا من الشعر أو إذلالا للشعراء أو وصفا لهم بالشيطنة، وإنما هو أسلوب تربوي وتوجيهي يدفع كل من يحب هذا الفن أو غيره من فنون القيل الأدبي، أو تهفو نفسه إلى إشباع رغبتها منه إبداعا أو قراءة أو حفظا أو نقدا أو دراسة أو تنظيرا.. أن يجعل نصب عينيه عدم التوعر أو التوغل في مناطق الشعر والإبداع الأدبي وشعبه الكثيرة، وعدم الامتلاء إلى حد التخمة كيفما كان نوع هذا الشعر أو هذا الإبداع وكيفما كان شكله ومن أي جهة كان مصدره.. مما يورثه عدم الاهتمام بما هو واجب في دينه ودنياه..
والحديث أيضا وسيلة من وسائل الردع الأدبية تقف في وجه الإسلاميين كي يحذروا من الوقوع نتيجة تمكن ذاك الفن المغري –على الخصوص- منهم أو نتيجة اعتباره وسيلة مشروعة يدفعهم حماسهم إلى كثرة إنتاجه وقراءته ونشره ثم الذهاب فيه كل مذهب، كما حصل في بعض الأزمنة التاريخية لدى المسلمين..
كما يعتبر هذا الحديث بمثابة حافز للقيام بعملية إفراغ لما في الصدور من أشعار محفوظة حينها، كانت قد قيلت في الجاهلية في جميع الأمصار والأحقاب والأقطار، أو أثناء الحروب والمعارك الطاحنة التي دارت بين القبائل وخصوصا قبيلتي الأوس والخزرج قبيل بزوغ الإسلام حتى لا تثار الأحقاد والنعرات الجاهلية، وقد أصبحوا أنصارا مسلمين.. وإنه لمن دواعي أو أسباب نزول آيات الشعراء –كما جاء في أسباب النزول- أنه تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء.. فأنزل الله عز وجل : ) والشعراء يتبعهم الغاوون..( (23).
ويعتبر الحديث أيضا مساهمة تربوية في دفع الفئة المؤمنة من الشعراء الذين يدعون في الدرس الأدبي بالمخضرمين والذين عاشوا قبل إسلامهم ردحا من الزمن اشتهروا فيه بقول الشعر ونظمه والإجادة فيه.. يعتبر الحديث دافعا لهؤلاء لتغيير علاقاتهم بالشعر من جهتين:
أولا من علاقة تحكمها أصول الحياة الجاهلية وشروط الإبداع في ظل تلك الحياة.. إلى علاقة يؤطرها الدين الجديد وترتبط بمكونات وأسس الحياة الإسلامية الجديدة على الإنسان العربي آنذاك.. ويظهر ذلك جليا في مثل شخصية حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي أبدع وأكثر، ولكن نستطيع أن نلمس اختلافا بيّنا وكبيرا بين شعره الجاهلي، وشعره الإسلامي، بين ما قال في الجاهلية شكلا ومضمونا، وسيلة وهدفا، وبين ما جادت به قريحته وهو يعيش في ظلال الإيمان وكنف الإسلام، خصوصا إذا ابعدنا ما نحل عليه ونسب إليه..
وثانيا من علاقة انغماس في ملذات الشعر وسباحة في أجوائه، وإبحار في أحواله وركوب كل أصنافه وأشكاله وطرق كل فنونه، إلى محاولة الخروج من ذلك العالم رويدا رويدا.. وأفضل مثال على ذلك هو الشاعر لبيد رضي الله عنه الذي أخذ منذ إسلامه يتخلص من سيطرة الشعر على لبه، حتى وصلت به الحال إلى مستوى الإحساس بأن جوفه لم يعد مليئا بالشعر ولا غلب عليه.. لذلك كان رده على طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله عما أحدث من شعر: "لقد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران"(24). فهو لا يقصد برده ترك الشعر كلية كما توهم بعضهم - وسوف نناقش هذه القضية حين الحديث عن نظرية ضعف الشعر بعد الإسلام- لأن الواقع يخالف هذا، فلا زال الشعر يسيل على لسانه حتى بعد إسلامه.. وإنما كان يقصد من وراء قوله ذاك الغلبة ويريد أن يوضح لعمر بن الخطاب أنه أصبح مشغولا عن الشعر بالقرآن حتى يبعد نفسه عن منطقة الملإ التي تؤدي إلى الشيطنة والقيححة.. وكي يبعد نفسه عن الخضوع للطلب المباشر الذي يذكره بواقع الإبداع في ظل الحياة الأولى، حينها كان الشاعر العربي يبدع تحت الطلب، مدحا وهجاء..
الحديثان قضية كم :
وبعد.. فإننا نلحظ أن الحديثين معا ينصان في حقيقة أمرهما على "قضية الكم" في التعامل مع الشعر أو الإبداع الأدبي، ومن خلالها يطرحان نظرة الإسلام إلى الشعر والشعراء، وإلى الإبداع الأدبي والمبدعين الأدباء.. فالحديث الأول نجد فيه "من " التبعيضية أي أن هناك كمّا شعريا معينا يعتبر حكمة، وجب أخذه والإفادة منه والتعامل والتعاطي معه بشكل من الأشكال، وأن هناك كما آخر مخالفا للحكمة يجب الابتعاد عنه وتركه وعدم الاكتراث به، اللهم إلا من باب معرفة الأشياء خير من جهلها وباب تعلموا لغة قوم تأمنوا مكرهم..
وأما الحديث الثاني فنرى فيه فعل " يمتلئ" أي نجد فيه التعبير عن الكثرة، وبمعنى آخر عند ربط هذا بالذي سبق نقول إن هناك كمّا محددا يجب ألا يتجاوز، وإن كان ذلك الإبداع نفسه هو الحكمة التي أشار إليها الحديث الأول.. إذ يجب ألا يمتلئ الجوف أو يطغى عليه الشعر ولو كان حكمة منتقاة.. وهذا في اعتباري متروك لأصحابه، كل حسب جوفه.. فأهل مكة أدرى بشعابها، وأهل الأدب أدرى بأجوافهم.. فلا يعقل أن نحدد كمّا معينا نفرضه على أنفسنا أو على غيرنا.
الهوامش والمراجع:
-
البخاري 4/73 تحفة الأحوذي نفسه 8/135 وجاء في كتاب "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للشيخ الألباني 6/838 (إن من الشعر لحكمة) أخرجه البخاري في صحيحه وفي الأدب المفرد وأبو داود والدارمي وابن ماجه والطيالسي وأحمد وله طرق أخرى (صحيح) وله شواهد منها بلفظ:إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا.( صحيح ) وسببه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم بكلام بين، فذكره.
-
البخاري م.س. 4/74.. مسلم م.س. 7/50.. تحفة الأحوذي نفسه 8/143.. والمسند م.س. 20/21 رقمه:10224..وجاء في صحيح أبي داود للشيخ الألباني م:3 ص:945 رقم الحديث:4188 ما يلي: "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ( صحيح ) _ ابن ماجه 3759 : وأخرجه البخاري ومسلم . قال أبو علي ( اللؤلؤي ) بلغني عن أبي عبيد أنه قال وجهه أن يمتلئ قلبه حتى يشغله عن القرآن وذكر الله فإذا كان القرآن والعلم الغالب فليس جوف هذا عندنا ممتلئا من الشعر وإن من البيان لسحرا قال كأن المعنى أن يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر فكأنه سحر السامعين بذلك"
-
تحفة الأحوذي نفسه 7/458..
-
رواه البخاري في "الأدب المفرد" الصفحة 126.. وقال الشيخ الألباني "صحيح سند الحديث"..
-
تحفة الأحوذي نفسه 7/458..وقال الشيخ الألباني "ضعيف"..
-
في "الأدب المفرد" وقال الألباني: "حسن سند الحديث".. أما حديث "وقف إياس بن خيثمة على ابن عمر رضي الله عنهما.." في "الأدب المفرد" نفسه ص 126.. وقال الألباني: "ضعيف"..
-
انظر كتاب "منهج الفن الإسلامي" لمحمد قطب دار الشروق الصفحة:292..
-
انظر كتاب "في النقد الإسلامي المعاصر" للدكتور عماد الدين خليل مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1972م الصفحة:69..
-
مسلم 7/48..الأغاني 4/129.. وفيه " آمن شعره وكفر قلبه " 4/130..
-
مسلم 7/49..
-
الأغاني 4/122..
-
الأغاني 4/128 و129. إسناده ضعيف ورجاله ثقات ولعلة عنعنة ابن إسحاق والحديث أخرجه أحمد وابنه عبدالله في المسند وزوائده بإسناد المصنف وشيخه وأخرجه الدارمي أخبرنا محمد بن عيسى ثنا عبدة بن سليمان به وأخرجه البيهقي في الأسماء ص عن أحمد بن عبد الجبار أنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال حدثني يعقوب بن عتبة فصرح بالتحديث لكن أحمد هذا ضعيف ويونس بن بيكر صدوق يخطئ..
-
أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزء الثالث الصفحة:197 و198 ترجمة عبد الله بن جراد الخفاجي..
-
تفسير القرطبي سورة النور ج12 ص 271..
-
سلسلة الأحاديث الصحيحة مرجع مذكور المجلد الأول الصفحة:808 الرقم 447
-
تحفة الأحوذي نفسه 4/211..
-
تحفة الأحوذي نفسه 8/441..
-
لأن الأخلاق في الإسلام ليست جانبا منه فحسب بله هي هو كما جاء مفهوما من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" السلسلة الصحيحة مرجع سابق 1/112 الرقم: 45..
-
انظر مقالتنا "الناقد الإسلامي بين تاريخ الأدب ونقده" مجلة منار الإسلام الإماراتية السنة:12/1987 العدد:8 الصفحات من88 إلى98
-
البخاري 4/74..
-
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب."متفق عليه انظر كتاب "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم" لزين الدين أبي الفرج عبدالرحمن البغدادي دار المعرفة لبنان ص 63..